يحتضن مجلس الشعب التونسي، اليوم الثلاثاء، جلسة عامة للتصويت على منح الثقة لحكومة هشام المشيشي التي اختارها الرئيس قيس سعيد بعيدًا عن مقترحات القوى السياسية والحزبية الكبرى في البلاد. جلسة عامة من المفترض أن تفرز حكومة جديدة شكل الرئيس أبرز معالمها في البداية ثم سعى للإطاحة بها قبل يوم من نيلها الثقة، في مفارقة تكشف سعي الرئيس سعيد للاستفراد بالحكم بعيدًا عن دستور البلاد.
المفارقة الكبرى.. سعيد يستنجد بالأحزاب بعد إقصائها
على غير العادة، التقى رئيس تونس قيس سعيد، أمس، ممثلين عن الأحزاب الأربع التي كانت تدعم حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة، وهم كل من راشد الغنوشي والسيدة زينب براهمي عن حركة النهضة (54 نائبًا)، ويوسف الشاهد ومصطفى بن أحمد عن حزب تحيا تونس (10 نواب)، وزهير المغزاوي ومحمد المسليني عن حركة الشعب (15 نائبًا)، وهشام العجبوني ومحمد الحامدي عن حزب التيار الديمقراطي (22 نائبًا).
هذا اللقاء لم يتم في أثناء تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ ولا عند تشكيل حكومة هشام المشيشي المعروضة على أنظار البرلمان للمصادقة عليها، فقد كانت المراسلات بين الرئاسة والأحزاب كتابية فقط ولا مجال للجلسات التشاورية والتفاوضية في قاموس الرئيس سعيد.
توجه الرئيس ولقاؤه بالأحزاب دون حضور رئيس الحكومة المكلف، يؤكد حجم الخلاف بين قيس سعيد والمشيشي
في هذا الاجتماع الاستثنائي، حاول قيس سعيد وفق مصادرنا الخاصة “طمأنة” الأحزاب الكبرى بعدم حل مجلس نواب الشعب إن أسقطوا حكومة المشيشي، وعرض عليهم الإبقاء على حكومة الفخفاخ مع تغيير رئيسها وإرجاع وزراء النهضة إليها.
وجاء على لسان رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي أن رئيس الجمهورية قيس سعيد طلب منهم ومن حركة النهضة إسقاط حكومة هشام المشيشي، وقال نبيل القروي في تصريح لإذاعة محلية إن رئيس الدولة اقترح عليهم مواصلة حكومة تصريف الأعمال لمهامها دون رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ.
المفارقة هنا، أن الرئيس الذي أدار ظهره للأحزاب السياسية، من خلال فرضه شخصية غير متحزبة على رأس الحكومة، رغم مقترحات كتل برلمانية معتبرة وإجماعها على أحد اسمين حين تقديم ترشيحاتها لهذا المنصب، يأتي اليوم ليستنجد بتلك الأحزاب حتى تطيح برئيس الحكومة الذي اختاره بنفسه.
خلافات عميقة بين سعيد والمشيشي
توجه الرئيس ولقاؤه بالأحزاب دون حضور رئيس الحكومة المكلف، يؤكد حجم الخلاف بين قيس سعيد والمشيشي، وقد ظهر هذا الخلاف على السطح بعد أن سعى ساكن القصبة الجديد لأخذ مسافة من الرئاسة والقيام بتعيينات وزارية لم تحظ بتأييد قرطاج.
ومن مظاهر هذا الخلاف استقبال قيس سعيد وزير الشؤون الثقافية المقترح وليدي الزيدي في قصر الرئاسة، مشددًا على ضرورة تمكينه من حقيبة وزارة الثقافة، سويعات قليلة بعد أن قرر المشيشي سحب اسمه من التشكيلة الحكومية، وأيضًا إرسال الرئاسة قائمة بالوزراء المقترحين إلى مكتب البرلمان تضم اسم وزير لم يقترحه المشيشي.
وكان قيس سعيد، قد كلف وزير الداخلية الحاليّ هشام المشيشي بتشكيل الحكومة، مستبعدًا الأسماء التي اقترحتها الأحزاب الرئيسية، والمشيشي رجل قانون وشغل منصب المستشار القانوني للرئيس بعد أن كان مسؤولًا في عدة وزارات، وعُين وزيرًا للداخلية في نهاية فبراير/شباط 2020 في حكومة إلياس الفخفاخ الذي قدم استقالته.
تمشي الرئيس، أرجعه العديد من التونسيين إلى قلة حيلة الرجل وضعف تكوينه السياسي وعدم إيمانه بالأحزاب السياسية، فضلًا عن رغبته في التحكم بدواليب الدولة ومؤسساتها رغم أن الدستور لا يعطيه الحق في ذلك، فصلاحياته محدودة.
استغلال غياب المحكمة الدستورية
تجاوز الرئيس لصلاحياته، جاء في ظل غياب المحكمة الدستورية التي يفترض أن تلعب دورًا تحكيميًا في حال نشوب أي خلاف بين السلطة التنفيذية والتشريعية، وقد استغل قيس سعيد هذا الأمر لتأويل الدستور كيفما يريد وبالطريقة التي تتلاءم معه.
غياب المحكمة الدستورية أدى، وفق أستاذ العلوم السياسية في الجامعة التونسية هاني مبارك، إلى إعطاء رئيس الجمهورية قيس سعيد حرية أكبر في تأويل بعض النصوص الدستورية خاصة أنه في الأساس أستاذ في القانون الدستوري.
ويؤكد مبارك في تصريح لنون بوست، أنه من المتعارف عليه أن نجاح أي تأويل للدستور يجب أن يظهر في الجانب السياسي لأن النص وجد لترتيب واقع الحياة السياسية، لكن قيس سعيد ذهب في تأويله للدستور وفقًا لرؤية سياسية شخصية تفتقر لأرضية الواقع السياسي القائم وذهب في اعتقاده أنه سيكون للمشروعية الانتخابية أرجحية على الشرعية الدستورية وهذا بطبيعة الحال خطأ جسيم في الحسابات السياسية، وفق قوله.
يواجه قيس سعيد منذ توليه الرئاسة، اتهامات من أحزاب سياسية عديدة في البلاد بالانحراف عن روح الدستور والنظام السياسي القائم فيها
يرى محدثنا أن الخطأ الأكبر يتمثل في أن الرئيس أخذ في تنفيذ فكرة ما بصورة مسقطة من وحي التمني لأنه لا يمكن تجاوز حقيقة وجود الأحزاب ووجود قانون انتخابي ما وبرلمان هكذا دون أن تتوافر له شبكة أمان قوية ومتماسكة من داخل الأحزاب نفسها أو البرلمان.
توسع سلطوي بعيدًا عن الدستور
بدوره، يعتقد الصحفي التونسي كريم البوعلي أن الرئيس قيس سعيد يسعى للعب دور أكبر من حجمه دستوريًا، وظهر ذلك وفق البوعلي، حين كلف سعيد هشام المشيشي بتشكيل الحكومة الجديدة خلفًا لإلياس الفخفاخ المستقيل، متجاهلًا التشاور مع الأحزاب ذات الكتل البرلمانية.
ويظهر أيضًا حين فرض وزراء السيادة الأربع على المشيشي رغم أن الدستور يخول له التشاور معه بخصوص حقيبتي الخارجية والدفاع فقط دون التدخل في باقي الوزارات، وحسب رأي كريم البوعلي تجلى سعي سعيد للسيطرة على زمام الأمور أيضًا من خلال تهميشه دور رئيس الحكومة المكلف وتحويله لمجرد وزير أول يأتمر بأمره ولا حق له الاعتراض على أوامره.
هذه المؤشرات تعطي دلالات واضحة، وفق كريم البوعلي، على التوسع السلطوي الواضح لسعيد على حساب البرلمان والكتل الحزبية داخله في انعكاس لنظرته السياسية القائمة على تحميل الأحزاب برمتها المسؤولية في تردي الأوضاع على كل المستويات ومن ثم تحجيم أي دور لها.
إشباع “الأنا” الأعلى
فشله في إقناع الأحزاب الكبرى بضرورة إسقاط حكومة هشام المشيشي المقترحة والإبقاء على حكومة تصريف الأعمال مع تطعيمها بأسماء جديدة وتغيير رئيسها، لم يكن الأول من نوعه منذ تاريخ تسلمه منصب رئيس البلاد.
يواجه قيس سعيد منذ توليه الرئاسة، اتهامات من العديد من الأحزاب السياسية في البلاد بالانحراف عن روح الدستور والنظام السياسي القائم فيها، وكثيرًا ما حمّل سعيد نواب البرلمان مسؤولية الفشل الاجتماعي والاقتصادي الذي ترزح تحته البلاد.
وتقوم رؤية قيس سعيد في الحكم على أربع مراحل: أولها ترذيل الأحزاب والجمعيات وإثبات فشلها بل وخطرها على الدولة، ومن ثم تغيير النظام السياسي أو حل البرلمان وتعليق العمل الدستور والذهاب للعمل بالمناشير، وصولًا إلى إنهاء منظومة الأحزاب والسيطرة على الحياة السياسية، الأمر الذي يرفضه غالبية الشعب التونسي.
وسبق أن لوح سعيد – المؤيد لتطبيق الديمقراطية الشعبية – بحل البرلمان على خلفية تصاعد الخلافات بين الكتل البرلمانية، التي وصلت حد تعطيل أشغاله، مشددًا حينها على امتلاكه جميع الوسائل القانونية لإنهاء ما وصفها بالفوضى داخله.
يرى مراقبون أن الرئيس قيس سعيد يسعى من خلال هذا التمشي المثير للجدل إلى إعلاء مصالحه الشخصية والذاتية على حساب مصلحة البلاد والشعب، وذلك لإشباع “الأنا” الأعلى، ومسك كل شيء بيده رغم أن ذلك يخالف دستور فبراير/شباط 2014.