أرخت الحسابات الإقليمية وأدوار اللاعبين الدوليين على اختيار سفير لبنان في برلين الدكتور مصطفى أديب لتشكيل الحكومة العتيدة، فمنذ 3 أسابيع، دخل الرئيس الفرنسي على خط الحسابات الداخلية الضيقة مستلمًا الملف اللبناني من اللاعب الأمريكي المنهمك بمعركة الرئاسة، مستغلًا الانفجار المدوي في مرفأ بيروت.
حدد ماكرون موعدًا للقوى السياسية هو الأول من الشهر الحاليّ – موعد وصوله للبنان للمرة الثانية في أقل من شهر – للبدء بالإصلاح أقلها إطلاق ورشة تشكيل الحكومة، وعليه فقد سارعت القوى السياسية في الساعات الأخيرة قبل الموعد المحدد للعثور على شخصية “مرضية” للجميع، وبخاصة للإيليزيه، وقد كان، فهبط على الكرسي الحكومي مصطفى أديب المتزوج من فرنسية والدبلوماسي صديق الجميع.
تلقف “حزب الله” وحلفاؤه الاسم بسرور كونه “طريًا” بالتعامل معهم، كما دفعت حسابات متعددة الحريري ورؤساء الحكومات السابقين لقبول هذا الطرح، أما بنظرة أوسع فعلى بعد شهرين من الانتخابات الأمريكية وفي ذروة الانشغال الأمريكي، استطاعت فرنسا تمرير صفقة مع إيران في لبنان، معترفة بـ”حزب الله” وبحقه في التمثيل الحكومي، علمًا بأن هذا الطرح لا يرضي الأمريكيين ولا السعوديين الذين سعوا لتقييد “حزب الله” وعزله عن الحكومة.
لكن استلام الفرنسيين للملف اللبناني أرسى نظرة أخرى للمسألة اللبنانية، فالنظرة الباريسية تقوم على دفع “حزب الله” للانخراط في الحالة اللبنانية، وتطمئنه على مكانته في “العقد السياسي الجديد” الذي بدأ يطفو على السطح.
إن مسارعة الفرنسيين لحلحلة العقد السياسي في لبنان لم يخف البعد الإقليمي، فقد تصدرت فرنسا مشهد داعمي اليونان في مشكلتها مع تركيا في البحر الأبيض المتوسط، فكان ماكرون أول من هاجم سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مهاجمًا إياه بانتهاجه سياسة توسعية تمزج بين المبادئ القومية والإسلامية، ولا تتفق مع المصالح الأوروبية وتشكل عاملًا مزعزعًا لاستقرار أوروبا.
وكان قد صرح الرئيس الفرنسي سابقًا خلال مقابلة مع مجلة “باري ماتش” الفرنسية، قائلًا “يجب على أوروبا أن تتصدى لهذه الأمور وجهًا لوجه وأن تتحمل مسؤوليتها، وأنا لست مع التصعيد، لكن بالتوازي، أنا لا أومن بالدبلوماسية الضعيفة، لقد أرسلنا إشارة مفادها أنّ التضامن الأوروبي ذو معنى”.
إن توسع الهوة داخل حلف الناتو خاصة بين تركيا وفرنسا التي تتصدر المشهد الأوروبي في وجه أنقرة دفع بالكثير من المطلعين لاعتبار التقارب مع إيران أصبح أولوية لمواجهة تركيا الطامحة لبسط سيطرتها على شرق المتوسط، فسارعت باريس بعد انفجار بيروت لتأكيد نفوذها في لبنان عبر حضور رأس الدولة إلى بيروت مع برنامج عمل للقوى السياسية، إضافة لزيارات شعبية ليؤكد حضوره في لبنان بشقّيه الرسمي والشعبي.
تأكيدًا لذلك نشرت القوى الفرنسية بوارجها في المياه اللبنانية برسالة شرق متوسطية واضحة.
أتى الرئيس مصطفى أديب إلى الرئاسة السنية مدفوعًا بدعم فرنسا وبمباركة غالبية القوى اللبنانية باستثناء القوات التي انحازت للخيار السعودي وفتحت النار على الصديق قبل العدو
هذه الرسائل تلقفتها أنقرة سريعًا بإرسال نائب الرئيس التركي على رأس وفد إلى بيروت، وكان في استقبال هذا الوفد رفيع المستوى، الجمعيات التركية التي تعمل في الدعم الخيري والإغاثي في لبنان إبرازًا للوجود التركي “الإيجابي”، ناهيك بمهرجان شعبي حاشد في أحد شوارع بيروت، إضافة إلى إعلان استعداد أنقرة لإعادة إعمار بيروت.
غاب عن البازار اللبناني اللاعب السعودي الذي رفض المبادرة الفرنسية التي تنعش إيران في لبنان، ما أضعف المكون السني – الضعيف أصلًا – وتركه بين كماشة إرضاء السعودي أو الفرنسي الذي دخل بثقله في عملية اختيار رئيس الحكومة وطرحه على الكتل النيابية، هذا الاندفاع الفرنسي لم يترك الخيار للشيخ سعد الحريري إلا المباركة التي ستزيد الهوة بينه وبين السعوديين، ما يضعفه أكثر وأكثر على المدى المتوسط.
من رحم كل هذه التعقيدات أتى الرئيس مصطفى أديب إلى الرئاسة السنية مدفوعًا بدعم فرنسا وبمباركة غالبية القوى اللبنانية باستثناء القوات التي انحازت للخيار السعودي وفتحت النار على الصديق قبل العدو، ابتداءً بالاشتراكي والمستقبل الذين “لا يشبهونهم” كما قال النائب جورج عدوان – نائب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع – وصولًا إلى باريس التي صرح شارل جبور – مسؤول جهاز الإعلام والتواصل في القوات – أنها اتصلت بهم مرتين لإقناعهم بالرئيس أديب دون جدوى.
تبقى الأسئلة الأبرز التي ستحكم المشهد في الأيام القادمة: ما شكل الحكومة؟ وهل سيسحب الأمريكي الملف من الفرنسي؟ وهل ستستطيع الحكومة الجديدة أن تحقق إنجازات حقيقية أم ستسير على خطى سابقتها؟ وما الذي سينجح إذا فشلت مبادرة فرنسا بموافقة سياسية داخلية شبه كاملة؟ وما القواعد التي سترسيها الحكومة تحضيرًا لورشة ” العقد السياسي الجديد”؟