إرثٌ عظيم، يزيد على 200 مؤلف في اللغة العربية والعشرات في اللغة الفارسية والأردية، وعلمٌ وفير تكلم عنه العلماء وأُلفت من أجله الكتب والمصنفات، هذا ما تركه العالم الهندي الشيخ أبو الحسن الندوي، الذي بلغت شهرته الآفاق ووصل مرتبةً قلّ من أنجزها من أقرانه في عصره وزمانه، فكانت حالته فريدة وما أعطاه لأمته ومجتمعه كان جليلًا.
استحق الشيخ الندوي لقب الإمام الرباني الإسلامي القرآني المحمدي، الذي أطلقه عليه الشيخ يوسف القرضاوي، كما أن العلامة القرضاوي أفرد كتابًا خاصًا بعنوان “أبو الحسن الندوي كما عرفته”، واُشتهر الندوي بأنه ساهم مساهمةً كبيرةً بنشر الإسلام، وعمل على صيانة الدين من التحريف، مكرسًا حياته وطاقاته للعلم والتعليم، ويشهد له تجواله في العالم من أجل هدفه على هذا.
كل تلك الأعمال والآثار التي خلفها الندوي صدرت في وقت كثرت فيه الأحداث السياسية والنكبات الاجتماعية والتغيرات في الثقافة الدينية والفكرية وبداية الحروب الكبيرة التي خاضتها دول العالم بين بعضها البعض وبها تغيرت وجهات العالم ودوله، فأثرت كل هذه العوامل على الهند والعالم الإسلامي وهو ما كان محل اهتمام شخصية تقريرنا هذا.
الولادة والنشاة
هو علي أبو الحسن بن عبد الحي بن فخر الدين الحسني، ينتهي نسبه إلى الإمام الحسن ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ولُد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1914، في قرية تكية كلان الهندية، والده مؤرخٌ مشهورٌ ومعروف وهو الطبيب عبد الحي الحسني مؤلف كتاب “نزهة الخواطر وجنة المسامع والنواظر”، المقسم إلى 8 مجلدات من كبار أعلام المسلمين في الهند.
والدة الشيخ أبو الحسن هي السيدة خير النساء ابنة ضياء النبي الحسني التي كانت من المؤلفات والشاعرات، أما بالنسبة للقب “الندوي” وهو الملحق باسم الشيخ فإنما هو لقب يُطلق على كل من التحق بندوة العلماء في الهند، وهي مؤسسة دينية عريقة تخرج فيها الكثير من طلاب العلوم الإسلامية ولها أثرٌ كبير في الحالة الإسلامية في الهند.
يقول الشيخ علي الطنطاوي: “وكنت أحسب أن الندوي لقب أسرة يجمع بين أفرادها النسب، وكنت أسأل ما قرابة السيد سليمان الندوي الذي كان من أعاظم من كتب في السيرة والسيد مسعود الندوي محرر مجلة الضياء، والسيد أبي الحسن؟ ثم علمت أن لا يجمع بينهم النسب، وإنما يجمع بينهم العلم والأدب وهذا المعهد الذي ينتسبون إليه، وأنا لا أعرف أهل معهد أو مدرسة لهم تعلق بمعهدهم أو مدرستهم، كتعلق الندويين بندوتهم، ينتسبون إذا انتسبوا إليها لا إلى آبائهم، ويجتمعون عليها أكثر مما يجتمع أفراد الأسرة”.
كانت نشأة أبو الحسن على العلوم الشرعية والدينية، نتيجةً للعلوم الكبيرة التي جمعتها عائلته، إذ إنه تأثر منذ صغره بمجموعات الكتب والمجلات في منزله، يقول أبو الحسن عن والده: “كان يشتري كثيرًا من الكتب، وكان المؤلفون والكتاب يبعثون بمؤلفاتهم إليه أيضًا، فكان ينظر في كثير من هذه الكتب والرسائل والمجلات نظرة ثم يضعها في جانب، ويستغنى عن بعضها، فكنت أفتش في هذه الكومة التي كان يستغنى عنها عن الرسائل والمجلات وفهارس الكتب، واختار منها، وكان هناك دولاب مفتوح في صحن البيت، فأضع هذه الكتب فيه وأصفّفها وقد هيأت لافته لهذا الدولاب كتبت عليه مكتبة أبي الحسن علي”.
توفي والده في فبراير/شباط 1923، وكان الندوي يبلغ من العمر، 10 سنوات، ويذكر الندوي أن وفاة والده كانت مرحلةً فاصلةً في حياته وحياة عائلته وانتهاءً لحقبة “الحياة الهنيئة” التي كانوا يعيشونها، بالإضافة إلى أمه تولى أخيه الأكبر الدكتور عبد العلي الحسني تربيته، وكان لأخيه فضلٌ كبيرٌ في توجيهه وتوفير البيئة المناسبة لكي يتلقي الندوي علومه ويكمل مسيرة حياته.
دراسته وجهوده العلمية
بدأ الشيخ أبو الحسن حفظ القرآن الكريم في منزله، ومن ثم انتقل إلى الكُتّاب ليتعلم اللغتين الأردية والفارسية، بعد ذلك اهتمّ أخوه بتعليمه اللغة العربية وأرسله إلى الشيخ خليل محمد الأنصاري، ودرس العديد من الكتب في اللغة كان أهمها “دلائل الإعجاز” للجرجاني وكتاب “نهج البلاغة”، وأتقن الندوي العربية بالإضافة إلى أنه أتقن الخط وتعلمه.
عام 1927 انضم الشيخ أبو الحسن إلى جامعة “لكهنؤ” قسم الأدب العربي، وكان أصغر الطلاب سنًا في الجامعة بعمر 14 عامًا، ونال الشهادة بتفوق، هذه الجامعة لم ترق للندوي الذي اعتبر أن جوها لا يلائم تطلعاته لما فيها من “لادينية ومادية بحتة”. ترك الجامعة والتحق فورًا بدار العلوم لندوة العلماء ودرس علوم الحديث وذلك عام 1929، وقرأ خلال هذه الفترة صحيح البخاري، وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترميذي وتفسير البيضاوي وبعض دروس المنطق وكتب الفقه والعلوم الأخرى. تزوج أبو الحسن الندوي من بنت خاله السيد سعيد عام 1934، إلا أنه لم يُرزق بأبناء.
باشر الشيخ الندوي التدريس عام 1934، وأصبح أستاذًا في ندوة العلماء لمادتي التفسير والأدب، وبدأ يجول في بعض مناطق الهند للدعوة وتحصيل العلم من بعض المشايخ المشهورين كعبد القادر الرائبوري، وأنشأ مركزًا للتعليم الإسلامي مهتمًا بالسنة والسيرة والقرآن الكريم عام 1949، وبعد ذلك بسنتين أسس حركة الرسالة الإنسانية بين المسلمين والهندوس.
أشرف الندوي على إقامة المجمع الإسلامي العلمي بدار العلوم ندوة العلماء عام 1959، كما عُين أمينًا عامًا لدار العلوم ندوة العلماء عام 1961، وشارك في تأسيس المجلس الاستشاري الإسلامي لعموم الهند في 1964، كما أنه كان رئيسًا لهيئة الأحوال الشخصية لعموم الهند عام 1972، أما خارج الهند فقد اُنتخب عضوًا مراسلًا لمجمع اللغة العربية في الهند والقاهرة، كما أنه اُختير لعضوية المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعُيّن رئيسًا لمركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بلندن عام 1983، وفي الأردن أصبح عضو المعهد الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والبحث والتأليف والتحقيق.
كان الندوي رئيسًا لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرياض، وعضوًا للمجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، في الوقت الذي كان فيه ضمن فريق المجلس التأسيسي الأعلى العالمي للدعوة الإسلامية في القاهرة، وكان عضوًا لرابطة الجامعات الإسلامية في الرباط واستشاريًا في جامعة إسلام آباد الإسلامية وجامعة ديوبوند الإسلامية في الهند.
وفي رحلته الدعوية، سافر الشيخ أبو الحسن الندوي إلى كثير من البلدان في الوطن العربي وأوروبا، للمشاركة في العديد من المؤتمرات والنشاطات الدعوية، فكان “نحلةً” في نشاطه وحركته، وهذا ما يؤكده الشيخ يوسف القرضاوي في حديثه عنه حين تكلم عن عالميته فيقول: “فهذا ما يلمسه كل متتبع لنشاط الشيخ العلامة، فهو – وإن كان هندي المولد والنشأة والدراسة – عالمي الوجهة والغاية، عالمي النشاط والحركة”، مضيفًا: “وهو وإن اهتم بالمسلمين في الهند، وشارك في همومهم، وتصدر الصفوف أحيانًا في ذلك، لا يقتصر همه ولا نشاطه على القارة الهندية، بل يمتد إلى العالم كله، ولذا نجد شهرة الشيخ في العالم العربي لا تقلّ عن شهرته في الهند، ونجد الشيخ عضوًا في أكثر من مجلس، وأكثر من مؤسسة”.
الندوي والسياسة
عمل الندوي على نشر الدين ومبادئه، بعد أن فهم الأسس والأفكار التي جاء بها النبي محمد فهمًا عميقًا وواضحًا، وأصبح يتجول بأفكاره بثقة العارف بقوة دينه، والمتبحر بكتب الندوي يجد أن جل همّه انصبّ على أمة الإسلام وأفرادها وآلية رفعتهم والخروج من المأزق الذي يمرون به، فأعطى رؤى للإصلاح بهدوء ووعي، كما أنه دعا للإصلاح بين الحاكم والمحكوم، منتقدًا الأفكار المغايرة لفكرة الإصلاح في الأنظمة الفاسدة، وتدعو إلى “إقامة الدين بإطلاق يُظهر مدى ضيق النظرة والفهم الصحيح لمعنى إقامة الدين وغاياته ووسائله”، وكان الندوي من أوائل من رد على الشيخ أبو الأعلى المودودي في نظرته وآرائه التي أيدها سيد قطب ورحب بها واقتبس منها وبها صاغ فكرة “جاهلية المجتمع”، إلا أن أبو الحسن الندوي رأى أنها فكرة خاطئة فيها تجنٍ كبير على الأمة.
في سياقٍ آخر، نبّه الشيخ الندوي إلى خطر يداهم الجماعات والتنظيمات التي تسعى للحكم، قائلًا: “وخطر على كل جماعة تتكوّن عقليتها بحبّ الحكومة والسعي لها أن تقعد عن الجهاد في سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ في قصدها”، “فالذي يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها”، جاء هذا في رسالته التي صاغها بعد زيارته لمصر تحت عنوان “أريد أن أتحدث إلى الإخوان”.
أثنى الندوي في رسالته على عمل الإخوان المسلمين في شتّى المجالات، فيقول “اجتمع لهذه الدعوة ما قلّما يجتمع للحركات الدينية من قوة الإيمان وقوة العمل والعلم العصري والتنظيم الحديث”، إلا أنه وضع يده على الثغرات وفصل في التنبيه إلى ما يجد فيه خللًا، كانت النصيحة الكبرى التي وجهها الندوي للإخوان هي عبارة عن رسالة وتنبيه عن الانشغال بالوصول للحكومة عن العمل على تقوية المجتمع الإسلامي فيقول: “أساليب الوصول إلى الحكومة تخالف أساليب الدعوة، فيجب علينا أن ننقي عقولنا ونفوسنا ونجرّدها للدعوة، والدعوة فحسب، والخدمة والتضحية والإيثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات إلى النور، ثم الشفقة على الخلق والرحمة بالإنسانية المعذبة والحرص على نجاة الإنسان”.
عمل الشيخ الندوي على تعزيز الإسلام في النفوس قبل أن يفكر باعتلاء الحكم وتبوء المسلمين للمناصب، لقد علم أن إقامة “الدولة المسلمة هي مهمة المجتمع المسلم وليست مهمة الجماعة”، وبهذا الصدد يقول الشيخ يوسف القرضاوي عنه “إن الذي يشغل عقله وقلبه ووقته باستمرار هو الإسلام: رسالته وحضارته، وانبعاثه وصحوته، وقضايا أمته، وهجمة أعدائه، وأعظم ما يهمه هو تقوية الجبهة الداخلية في مواجهة الغزوة الخارجية، هو تربية الفرد، لأنه اللبنة الأساسية في بناء الجماعة، هو تغيير ما بالنفس حتى يغير الله ما بالأمة”.
كان الشيخ دبلوماسيًا، إذ إنه كان يرسل الكتب والرسائل للملوك وقادة الدول الإسلامية ولعلّ أبرزهم ملوك السعودية الذين كان يرى أن دولتهم هي مركز العالم الإسلامي والأساس في نهضته.
من خلال رسائله كان الندوي يشعر بالخطر على بلاد الحرمين، إذ إنه حذر من تحول المملكة من دولة هداية إلى دولة جباية، ودعا إلى إيجاد مجتمع إسلامي مثالي، لأنها – يقصد السعودية – هي البلاد التي أرادها االله أن تكون عاصمة الإسلام ومعقل الدين، وتأتي تلك الرسائل بعدما رآه الندوي من تحول تلك البلاد عن مهمتها الأساسية ودخول بعض الأمور التي تخالف الدين الإسلامي.
إضافةً إلى رسائله لملوك العرب، كان الندوي يراسل حكام الهند في زمانه، ليشرح أوضاع المسلمين ويحاول إيجاد الحلول في المحن التي يتعرض لها أهل دينه هناك، كما أنه اعترض على الكثير من القوانين التي صدرت ورآها مجحفة بحقهم، وكان أبو الحسن كثير الأسى على المصائب التي تعتري المسلمين في الهند، وعلى الرغم من انشغاله بالعلم، فإنه كان قريبًا جدًا وعلى اطلاع واسع بالحالة السياسية التي تمر بها البلاد ويمر بها المسلمون.
في رسائله إلى المسؤولين الهنود، اقترح الندوي عددًا من الحلول التي تساهم في إنهاء الاضطهاد والعنصرية، وكان يراعي الحالة الطائفية والعرقية في البلاد، فكان يتكلم في رسائله بشكل عمومي، يُبين للقارئ أنه يبغي بحديثه كل أبناء الهند، فطالب بعلمانية دولة الهند وحكومة لا تتدخل بالدين أيًا كان، كما أنه وجه نصائحه باستغلال دور الإعلام وتفعيل مهمته الأساسية بعدم نشر الكراهية والعنف والعنصرية، كما دعا إلى معالجة الفساد الإداري والخُلقي.
بلغت مؤلفات الندوي المئات بين اللغة العربية والأردية والفارسية، وعمل في جميع كتبه على توجيه رسائل ونصائح للعالم الإسلامي، يقول الشيخ الندوي إنه يحب من كتبه: “الطريق إلى المدينة والنبوة والأنبياء في القرآن والأركان الأربعة والصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ولعلّ الكتاب الأخير هو الأكثر تأثيرًا بالعالم الإسلامي والأكبر انتشارًا”.
يُقدّم سيد قطب للكتاب فيقول: “هو من خير ما قرأت في هذا الاتجاه في القديم والحديث، إن الخصيصة البارزة في هذا الكتاب كلّه هي الفهم العميق لكليات الروح الإسلامية في محيطها الشامل، وهو لهذا لا يعد نموذجًا للبحث الديني والاجتماعي فحسب، بل نموذجًا كذلك للتاريخ كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الإسلامية”.
قالوا عنه
قال الشيخ علي الطنطاوي عن الشيخ أبو الحسن الندوي: “أبو الحسن بنى للإسلام في نفوس تلاميذه حصونًا أقوى وأمتن من حصون الحجر، بنى أمة صغيرة من العلماء الصالحين والدعاة المخلصين”.
كما قال عنه العالم مصطفى السباعي: “الندوي.. ذخرٌ للإسلام ودعوته، وكتبه ومؤلفاته تتميز بالدقة العلمية، وبالغوص العميق في تفهم أسرار الشريعة، وبالتحليل الدقيق لمشاكل العالم الإسلامي ووسائل معالجتها”.
يذكر رئيس ندوة العلماء في الهند محمد الرابع الحسني الندوي، عن الشيخ أبو الحسن: “هو شيخنا ورئيس جماعتنا وقدوة أبناء ملّتنا الإسلامية في الغيرة للدين والكفاح لإغرازه والذب عن حوزته، وإقرار روحه وطبيعته الحقيقية، توفي بعدما نهج للدعوة والتربية الإسلامية منهج الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع في الفكرة والتنفيذ، ومنهج النصيحة وحسن الخلق، والأسلوب العلمي المشرق في عرض الفكرة وفي التعبير، بعد أن أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته القيمة”.
وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: “هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلِّقَة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظَّ لها فيه… لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغةً جديدةً، وروحًا جديدةً، والتفاتًا إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها”.
توفي الشيخ أبو الحسن الندوي عام 1999، وقد خسرت الأمة الإسلامية إمامًا دعا للوسطية في التعامل ورفعة الأمة، فنصح الحكام وجال في البلاد حاملًا لواء العلم، ليحوز مراتب عالية ويشهد له جميع من عرفه بالخير، كما أنه حاز العديد من الجوائز العالمية لإنجازاته الجليلة ومؤلفاته العظيمة.