صادق البرلمان التونسي، أمس الأربعاء، على منح الثقة لحكومة هشام المشيشي، حكومة جديدة تتكون من كفاءات مستقلة وتغيب عنها الوجوه السياسية، ستكون أمام وضع اجتماعي متأزم وواقع اقتصادي شديد الخطورة، فضلًا عن أزمة سياسية هي الأعمق منذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فهل تستطيع هذه الحكومة تجاوز كل هذه العقبات وتحقيق آمال ومطالب التونسيين؟
أزمة سياسية
حظيت هذه الحكومة بموافقة 134 نائبًا بينما رفض 67 منحها الثقة، لكن ذلك لا يعني أنها تتمتع بحزام سياسي كبير وأن الأحزاب التي صوتت لها توافقها التمشي وتتبنى الوزراء المقترحين، فالعديد ممن صوت للحكومة يرفض التمشي الذي جاءت من خلاله أصلًا.
وكان الرئيس قيس سعيد، قد كلف وزير الداخلية الحاليّ هشام المشيشي بتشكيل الحكومة، مستبعدًا الأسماء التي اقترحتها الأحزاب الرئيسية، والمشيشي رجل قانون وشغل منصب المستشار القانوني للرئيس بعد أن كان مسؤولًا في عدة وزارات، وعُين وزيرًا للداخلية في نهاية فبراير/شباط 2020 في حكومة إلياس الفخفاخ الذي قدم استقالته.
هذه الأزمة السياسية الحادة، ساهمت في تدهور الاقتصاد التونسي الذي يعيش على وقع أزمة حادة متواصلة منذ سنوات عدة
تعتبر حكومة المشيشي، ثالث حكومة تشهدها تونس منذ أكتوبر/تشرين الأول والتاسعة منذ الثورة التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي في يناير/كانون الثاني 2011، وأطاح برلمان تونس برئيس الوزراء المعين السابق الحبيب الجملي في بداية العام الحاليّ بعد مداولة طويلة، وفي النهاية، وافق النواب على مرشح بديل هو إلياس الفخفاخ، لكنه تنحى الشهر الماضي نتيجة اتهامه بقضايا فساد.
يعكس هذا حدّة الأزمة السياسية التي وصلت لها تونس، فلا تمر فترة قليلة إلا وتسقط حكومة وتشكل أخرى، والجديد الآن أن الرئيس نفسه لا يؤمن بالعمل الحزبي، حيث أدار ظهره للأحزاب السياسية، من خلال فرضه شخصية غير متحزبة على رأس الحكومة، رغم مقترحات كتل برلمانية معتبرة وإجماعها على أحد اسمين حين قدمت ترشيحاتها لهذا المنصب.
نفس الرئيس الذي أدار ظهره للأحزاب، استنجد بها قبل يوم من عرض حكومة المشيشي على البرلمان حتى تتم الإطاحة بها، بعد أن سعى ساكن القصبة الجديد لأخذ مسافة من الرئاسة والقيام بتعيينات وزارية لم تحظ بتأييد قرطاج.
أزمة اقتصادية
هذه الأزمة السياسية الحادة، ساهمت في تدهور الاقتصاد التونسي الذي يعيش على وقع أزمة حادة متواصلة منذ سنوات عدة، زادت حدتها تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد الذي فرض الإغلاق التام في البلاد.
ووفق رئيس الحكومة الجديد، فإن “أرقام البلاد الرسمية ومؤشراتها لا تبعث حقيقة على الاطمئنان، فالدين العمومي يتفاقم، إذ أصبحت بلادنا تقترض في حدود 15 مليار دينار سنويًا، وهي مطالبة بتسديد قرابة الـ7.5 مليار دينار سنة 2020”.
وأوضح المشيشي في كلمته في أثناء عرض حكومته على أنظار نواب الشعب، أنه مع نهاية العام الحاليّ “ستكون مجمل قيمة التداين في حدود الـ80 مليار دينار، على أن تكون خدمة الدين العمومي المتوقعة لسنة 2021، في حدود الـ14 مليار دينار، أي ضعف نفقات التنمية، وهو ما يعني أن الدولة تفقد إمكانية لعب دورها التنموي”، وفق قوله.
وسبق أن كشف البنك المركزي التونسي تقديرات صادمة، إذ توقع تراجع نسبة النمو إلى نحو 6.5% سلبي، ما سيتسبّب بانكماش اقتصادي حاد، مرجحًا في بيان له، أن تشهد محركات النمو الأساسية انخفاضًا كبيرًا في نسق تطورها، خاصة الاستثمار، بسبب الأوضاع الناجمة عن جائحة كورونا وتقلّص حجم المبادلات التجارية مع الخارج.
التصويت على منح الثقة للحكومة المقترحة بـ134 نعم، دون إحتفاظ و67 رفض pic.twitter.com/WVI7URZ5In
— مجلس نوّاب الشعب (@ARPtn) September 2, 2020
كمؤشر إضافي على تدهور الاقتصاد التونسي، ارتفعت نسبة البطالة، بحسب ما أفاد المعهد الوطني للإحصاء في أحدث إحصاءاته، لتبلغ 18% خلال الثلاثي الثاني من سنة 2020، حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل 746 ألفًا من مجموع السكان النشيطين، ومن المتوقع أن ترتفع أكثر وتتجاوز عتبة الـ20%.
وعانت أغلب القطاعات الاقتصادية في تونس في الفترة الأخيرة تعطلًا، حيث توقفت مراكز الإنتاج ثلاثة أشهر (مارس وأبريل ومايو) بسبب جائحة كورونا، وكذلك بسبب احتجاجات في مناطق عدة من البلاد، خصوصًا في مناطق إنتاج النفط والفوسفات.
وفقًا لبيانات حكومية، كلّفت الجائحة الحكومة التونسية خسائر بقيمة 5 مليارات دينار (1.83 مليار دولار)، حيث تراجعت عائدات البلاد من السياحة بنسبة 60% خلال الفترة بين مطلع سنة 2020 وإلى حدود 20 من أغسطس/آب الحاليّ لتصل إلى 1.3 مليار دينار.
إلى جانب ذلك، تراجع الترقيم السيادي لتونس الذي أقرته وكالة “موديز” في تقرير نشرته نهاية يونيو/حزيران الماضي، إلى مستوى “ب 2” مع وضعه قيد المراجعة للتخفيض، يشكّل عائقًا كبيرًا أمام الحكومة في بحثها عن قروض في السوق المالية الدولية.
أزمة اجتماعية متفاقمة
هذه الأزمة السياسية والاقتصادية عمقت الأزمة الاجتماعية في البلاد، حيث ارتفعت نسبة الفقر خاصة لدى الأطفال في تونس، إذ بلغت النسبة 25% بعد شهرين من الحجر الصحي الشامل مقابل نسبة بـ19% قبله، وفق ما أظهرته نتائج دراسة نشرتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسف تونس.
وأشارت نفس الدراسة إلى انخفاض القدرة الشرائية للتونسيين إلى 7%، وترتفع هذه النسبة إلى 10% في أوساط الفقراء مقابل 5% فقط لدى الفئات الغنية، وقد لاحظت الدراسة، أن أزمة كورونا أظهرت محدودية قدرات نظام الحماية الاجتماعية في تونس.
فضلًا عن ذلك، شهدت العديد من المناطق في البلاد، احتجاجات للمطالبة بالعمل، وأيضًا للمطالبة بالماء الصالح للشراب وكذلك فتح التيار الكهربائي بعد أن سجّلت قراهم ومدنهم اضطرابًا في مسألة توزيع المياه والكهرباء.
كمؤشر على تنامي الاحتقان الاجتماعي في تونس، عرفت ظاهرة الهجرة غير النظامية في الأشهر الأخيرة ارتفاعًا قياسيًا
كما تتواصل اعتصامات المئات من المعطلين عن العمل في مناطق متعددة من البلاد، وخاصة في منطقة الكامور من محافظة تطاوين جنوب البلاد، حيث يطالب هؤلاء بنصيبهم من التنمية ومن ثروات بلادهم الباطنية خاصة أن كبرى الشركات النفطية تعمل هناك.
وكمؤشر على تنامي الاحتقان الاجتماعي في تونس، عرفت ظاهرة الهجرة غير النظامية في الأشهر الأخيرة ارتفاعًا قياسيًا، حيث ارتفع عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين إلى السواحل الشمالية للبحر الأبيض المتوسط بحثًا عن حياة أفضل، بعد أن أصبحت أساسيات الحياة الكريمة في بلادهم غير مضمونة الآن.
آفاق محدودة
رئيس الحكومة، هشام المشيشي قال في أثناء عرض حكومته إن الحكومة الجديدة ستركز على “المسائل الاجتماعية والاقتصادية وستستجيب للمخاوف الملحة للتونسيين”، لكن المتأمل للواقع التونسي وطريقة تشكل هذه الحكومة يرى أنه من الصعب أن تستطيع هذه الحكومة الهشة إيجاد حل لمشاكل البلاد المتعدّدة.
ويؤكد المحلل السياسي التونسي سعيد عطية لنون بوست، أن “الحكومة الجديدة تملك كل عناصر الفشل قبل أن تنطلق في العمل أصلًا، كونها حكومة دون أب وأم، فرئيس الجمهورية تبرأ منها في آخر دقيقة والأحزاب تزعم أنها قبلتها مرغمة وستفرض تغييرات لاحقة فيها”.
كما أن هذه الحكومة وفق كلام عطية، تفتقد لحزام سياسي حقيقي داخل مجلس نواب الشعب، مما يجعل عملية تمريرها للقوانين ليست يسيرة ومتاحة بقدر خضوعها لابتزاز الأحزاب السياسية المكونة للمشهد البرلماني في البلاد.
يضيف محدّثنا، “هي حكومة دون قيادات سياسية معروفة بإمكانها طرح رؤى تغيير حقيقية وحشد الناس حولها، ففي أغلبها حكومة مديرين عامين لم يعرف مسارهم المهني نجاحات تذكر والأهم أنه لم يعرف عليهم أنهم من أصحاب الشخصيات القيادية والقوية القادرة على إحداث التغيير”.
كل هذه المؤشرات، تؤكّد وفق سعيد عطية صعوبة المهمة التي في عُهدة حكومة هشام المشيشي، خاصة أنها حكومة دون برنامج إنقاذ حقيقي، بل كل ما قدمه رئيس الحكومة في خطابه كليشيات معتادة وتعبير نوايا لا يسمن ولا يغني من جوع، حسب تعبيره.