في أواخر السبعينيات، أُجبر مئات الآلاف من مسلمي الروهينغا على الفرار من ديارهم بالدولة ذات الأغلبية البوذية، معظمهم عبروا برًا إلى بنغلاديش، تجمدت الأحداث لبعض الوقت، ولم تظهر القصة بشكل متوحش مرة أخرى إلا عام 2017 مع تجدد العنف بكل ألوانه وأشكاله، من اغتصاب وقتل وحرق ضد الروهينغا، ما أدى إلى نزوح جماعي أرعب العالم من جديد.
حجج ميانمار التي حاولت تسويقها للرد على الغضب الدولي ضدها لم يمنع الأمم المتحدة من إدانة هذه السلوكيات والتلويح لها بكارت الإبادة الجماعية لإنهاء القمع المستمر في الازدياد، لم يتغير الموقف الرسمي لميانمار ولم تسفر هذه الضغوط إلا عن مراوغات جديدة، هدفها المناورة للبحث عن تعنت وتهديدات جديدة لفئة لا حول لها ولا قوة، لكن بقيت دولة أخرى تحاول اختبار إنسانيتها بقوة وتصحيح أخطائها والإنابة عن المسلمين والعرب في تحمل مسؤولية من تقطعت بهم السبل وأصبحوا على شفا الإبادة، هي بنغلاديش.
من هم الروهينغا؟
الروهينغا أقلية عرقية مسلمة، والاسم مصطلح وتعريف ذاتي ظهر في الخمسينيات من القرن الماضي حتى يوفر للجماعة هوية سياسية جماعية، والجذر الاشتقاقي للكلمة ما زال محل خلاف، لكن النظرية الأكثر قبولًا هي أن الروهانغ مشتق من كلمة “أراكان” في لهجة الروهينغا.
يعتنق الروهينغا في أغلبهم الفكر الصوفي، ويشكلون نحو 4.15% من السكان وفقًا لإحصاءات ميانمار الرسمية لعام 2008، وتقدر أعدادهم بنحو 3.5 مليون شخص، ينتشرون الآن في جميع أنحاء العالم هربًا من حملة القمع القاسية التي شنها جيش ميانمار عليهم عام 2017 لإخلاء الساحة للبوذية التي تهيمن على ميانمار عرقيًا ولغويًا ودينيًا، لكن الكتلة الأكبر منهم فرت بمئات الآلاف عبر الحدود إلى بنغلاديش.
حتى نعرف جذور الصراع يجب البحث في أصول الروهينغا بالمنطقة، التي تعود إلى حدود القرن الخامس عشر، حيث هاجر إليها آلاف المسلمين وتزاوج البحارة المسلمون من النساء البورميات واستقروا بشكل دائم في المدن الساحلية على طول الساحل البورمي وخاصة في منطقة أراكان ـ راخين.
كانت ميانمار في القرنين التاسع والعاشر المركز لشبكة تجارية واسعة تمتد عبر الصين والمحيط الهندي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتختلف الروايات العربية عن الأوروبية بعض الشيء عن شكل الحياة في ميانمار، وكيف وجدت الطوائف الإسلامية إلى جانب الفارسية والهندية، ولكن ما يتفق عليه في الروايات هو العيش الآمن والمستقر من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، وما يدل على ذلك خدمة المسلمين في الجيش البورمي والدفاع عن مصالح البلاد مع جميع القوميات الأخرى.
خضعت المنطقة للاستعمار البريطاني من منتصف القرن التاسع عشر، وهنا بدأت مرحلة توتر العلاقات بين مجتمع الروهينغا المسلم والمجتمع البوذي البورمي، وانفجرت هذه التوترات وتطورت إلى أعمال عنف بعد جلاء الاحتلال.
أصبح من المعتاد مشاهدة هجوم الغوغاء البوذيين على الروهينغا، فانتشر العنف والعنف المضاد ردًا على استهداف المجتمعات المسلمة، مما قوض قدرات الدولة على إيجاد نظام اجتماعي يحتوي الاختلافات العرقية والدينية الحساسة، ويسيطر على الرهبان البوذيين الذين يحرضون ضد الأقليات المسلمة على طول الخط.
مع إعادة تسمية بورما إلى ميانمار عام 1989، بدأت المواقف العدائية ضد الروهينغا تختمر وتتزايد ورفضت الحكومات المتعاقبة الاعتراف بهم ضمن 135 مجموعة عرقية رسمية في البلاد، ومع الوقت تحولت مواقف الدولة تمامًا، وأصبح الموقف الرسمي يعتبر هذه الطائفة مهاجرين غير شرعيين أتوا من بنغلاديش، وعدم الالتفات لجذورهم في المنطقة التي تعود إلى قرون مضت.
رُفضت الطلبات الدولية لمنح الجنسية للروهينغا، وتحججت الحكومات بقانون الجنسية الذي ظهر في ميانمار عام 1948 وزاد الأمر تعقيد التعديلات التي أدخلها المجلس العسكري الذي استولى على السلطة عام 1962 وبموجبه جرد الروهينغا من الحصول على الجنسية الكاملة، وأصدر لهم بطاقات هوية مؤقتة عرفت باسم البطاقات البيضاء ومنحتهم حقوقًا محدودةً دون أن يتم الاعتراف بها كدليل على المواطنة.
في عام 2014 أجرت الحكومة تعدادًا وطنيًا بدعم من الأمم المتحدة، وكان الأول من نوعه في البلاد منذ ثلاثين عامًا، ودخلت مجموعات الأقلية المسلمة ضمن المشروع على أن تعرف بالاسم نفسه في التعداد، لكن تهديدات القوميين البوذيين بمقاطعة الإحصاء جعلت الحكومة تتراجع وصنفتهم على أنهم بنغاليون بدلًا من ذلك، ومع الوقت جردوا من كل شيء، حق الاستفتاء على الدستور، وبالتبعية لم يمثل الروهينغا أي ممثل في البرلمان من الديانة الإسلامية.
تزايدت الضغوط وفرضت قيود جديدة على الزواج وتنظيم الأسرة والتوظيف والتعليم والاختيار الديني وحرية التنقل، وأصبح لا يُسمح للأزواج الروهينغا في المدن الشمالية إلا بإنجاب طفلين فقط والحصول على إذن مسبق بالزواج من السلطات، وأصبحت التعقيدات تجعلهم يلجأون لتقديم رشوة للسلطات فضلًا عن اتباع ممارسات قومية خلال حفلات العرس تتعارض مع العادات الإسلامية، وانعكس هذا الحصار على معدلات التنمية والتعليم والفقر الذي بلغ 78% مقارنة بالمعدل الوطني البالغ 37.5% وفقًا لتقديرات البنك الدولي.
أمام كل هذا الظلم، كان منطقيا في 2017 أن يشاهد العالم ثمرة الفقر والاضطهاد، جماعة مسلحة تُعرف باسم جيش إنقاذ الروهينغا خرجت من الأقلية وأعلنت مسؤوليتها عن هجمات على مواقع للشرطة والجيش، وكانت الشرارة التي استغلتها الحكومة لشن حملة وحشية دمرت مئات قرى الروهينغا وأجبرت ما يقرب من سبعمئة ألف منهم على مغادرة ميانمار، بعد قتل ما لا يقل عن نحو 7 آلاف مدني في الشهر الأول فقط من الهجمات.
استخدمت السلطات كل وسائل الإبادة الجماعية، من فتح النار على المدنيين العزل الفارين، إلى زرع الألغام الأرضية بالقرب من المعابر الحدودية التي استخدمها الروهينغا للفرار إلى بنغلاديش، ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لوصف العنف الحكومي بأنه تطهير عرقي كارثي.
إنسانية بنغلاديش
لجأ معظم الروهينغا إلى بنغلاديش المجاورة، التي لا تملك إلا موارد وأراض محدودة لاستضافة اللاجئين، وبحسب وكالة الأمم المتحدة للاجئين، يوجد أكثر من تسعمئة ألف لاجئ من الروهينغا في البلاد، يعيش الكثير منهم في مخيمات بمنطقة كوكس بازار، التي أصبحت أكبر مخيم للاجئين في العالم.
رغم الصعوبات الكبيرة التي يواجهها الروهينغا، والأزمات وبعض المشكلات الأمنية التي استدعت بعض التضييق، خلف الكواليس هناك بطولات تستحق أن تروى، ولا نعرف لماذا يتجاهلها العالمان العربي والإسلامي، وكأن القضية لا تعنيهما، حيث قدم المجتمع البنغلاديشي الأرض وشق طريقًا إلى مخيم اللاجئين، كان الشعار العام للدولة الصغيرة: الأزمة أفضل اختبار لإنسانيتنا.
واجهت الدولة العديد من التحديات والمشاكل، إلى جانب الآثار الاجتماعية والبيئية والقانونية والمالية، ورغم ذلك تحاول بكل قوة توفير ضروريات الحياة لهؤلاء اللاجئين، مع أنها ليست ملزمة باتفاقية اللاجئين لعام 1951 أو بروتوكولها لعام 1967 وليست طرفًا أيضًا في اتفاقيات انعدام الجنسية لعامي 1954، وهي الأطر القانونية التي بموجها توفر تدخلًا شرعيًا لها في الأزمة، إلا أنها لم تستطع رفض لاجئين الروهينغا لأسباب إنسانية.
تقدم وزارة إدارة الكوارث والإغاثة في بنغلاديش الدعم الإنساني للاجئين، وبجانب الجهد الحكومي، تجتهد العديد من المنظمات الوطنية والدولية في تقديم مساعدات إضافية، في نفس الوقت الذي تبذل الأجهزة الدبلوماسية جهدًا شاقًا مع ميانمار، لإعادة المهاجرين إلى وطنهم، وبالفعل توصل الطرفان إلى توقيع اتفاقيتين للتعاون الأمني والحدودي، بعد مناقشات مطولة جرى الاتفاق على إعادة الروهينغا بطريقة آمنة وكريمة وشفافة وإعادة الحياة إلى طبيعتها في ولاية راخين، لكن لم تلتزم ميانمار حتى الآن.
لم تشك بنغلاديش أو تتاجر بالأزمة، رغم التهديد المحتمل من اختلاط الروهينغا بالسكان وحاجتهم لفرص العمل التي سببت خللًا خطيرًا في سوق العمالة المحلية، فضلًا عن تدمير قطاع السياحة، الذي يعد من أهم مصادر الدخل في البلاد، بعد الانخفاض التاريخي في الإقبال على السفر إلى بنغلاديش لعدم الاستقرار الأمني المستمر على طول الحدود مع ميانمار، ومنع حركة السفن تمامًا، مما عرض البلاد لفقدان أكثر من مليون سائح.
لاجئون من الروهينغا يهربون في البحر
ظهرت مشكلة أكبر لبنغلاديش، وهي مستوى الوعي المنخفض لأغلب الروهينغا، ولهذا يرفضون تنظيم الأسرة، فقد أفقدهم الفقر والقهر الذي مورس عليهم لعقود من الزمن الكثير من أدوات الاتصال مع العصر، وازداد بالفعل عدد السكان في المخيمات بطريقة لافتة، ما وضع ضغوطًا إضافية على الغذاء والوظائف والصحة والاحتياجات الأساسية الأخرى التي تبتلع موارد بنغلاديش.
على مستوى السكان المحليين، بدأت العديد من المشكلات تظهر لهم مع طول وقت استضافة الروهينغا دون تدخل حقيقي لمساعدتهم، سواء من المسلمين أم من بلدان العالم المختلفة، ففي بداية تسلل الضيوف كان البنغال يفتحون ديارهم بكل حب، تصورًا أنهم سيعودون لديارهم بعد بضعة أيام من انتهاء التوتر.
لكن الموقف تغير مع مرور الوقت وتخطيط ميانمار لإبقاء الوضع كما هو عليه، ومحاولاتها الدائمة لتوريط بنغلاديش في إيذاء الروهينغا بسبب الضغوط التي تتعرض لها، ما يثبت في النهاية مبررات ميانمار للعالم، التي حاولت تسويقها من قبل وفشلت، ورفض المجتمع الدولي الجزم بتوحش هذه المجموعة لتبرير السلوكيات المعادية لها، وهو أمر تنبهت له بنغلاديش جيدًا، ولهذا أكد مسؤولوها أن الأزمة اختبار لإنسانيتهم.
دعم مطلوب
يمكن القول إن هناك ضرورة قصوى لدعم القضية التي تشغل مائدة المفاوضات الدولية والضمير الإنساني العالمي، أكثر ما تشغل المسلمين والعرب، خاصة أنها واحدة من الأزمات التي ستنعكس على مستقبل الأمن والسلم الدولي وعلاقة المسلمين بالعالم التي أصبحت ملتهبة للغاية، في ظل تأجيج الصراعات العرقية والدينية من جديد بسبب غياب حقوق المواطنة والديمقراطية والرغبة في العيش المشترك، بالعديد من البلدان التي يقطنها أغلبية من أيدلوجيات دينية وسياسية متطرفة.
يجب على الإعلام العربي إلقاء الضوء من جديد على حجم المعاناة التي تعرضت لها أقلية الروهينغا، لا سيما أن المنطقة بها العديد من وسائل الإعلام العالمية التي لديها مشاهدات معقولة في الغرب، لحشد المجتمع الدولي للتصرف في الممارسات غير الأخلاقية ولتخفيف الضغط على دولة بنغلاديش وحث الحكومات على توجيه دعم أكبر لها، يناسب حجم الضغوط التي تتعرض لها ويزيد على طاقتها بمراحل.