احتفل لبنان قبل أيام بالذكرى المئوية الأولى لإعلانه من الجنرال الفرنسي غورو في الأول من سبتمبر/أيلول 1920، يومها جمع الجنرال غورو، الذي كان يمثل فرنسا المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، أعيان لبنان في قصر الصنوبر ببيروت، وأعلن أمامهم إرادة فرنسا إنشاء لبنان الكبير بحدوده المعروفة حاليًا بعد أن قام غورو بضم أجزاء من ولاية دمشق إلى ما كان يُعرف بـ”جبل لبنان”، وهذه الأجزاء هي حاليًا محافظات بيروت والشمال والجنوب والبقاع، كجزء من نتائج الحرب وإرادة المنتصر بها.
وفي العام 1943 أُعلن استقلال لبنان عن فرنسا التي كانت قوة احتلال أو دولة انتداب وفقًا لقرار “عصبة الأمم” أو “الأمم المتحدة” لاحقًا، بعد أن وضعت فرنسا دستور البلاد وأصغر التفاصيل المتصلة بالدولة الجديدة، وفي العام 1946 تم جلاء القوات الفرنسية عن لبنان، غير أن الرعاية الفرنسية لم تغب عنه يومًا.
النظام السياسي الذي أرسته فرنسا في لبنان لم يكن نظامًا عادلًا ولا حافظًا للحقوق والواجبات بشكل يساوي بين المواطنين، فقد ميزت فيه المسيحيين عن المسلمين، فكان التمثيل في مراكز القرار اللبناني طائفيًا ولم يكن يستند إلى الكفاءة أو القيام بالمسوؤلية الوطنية، وحظي المسيحيون بالجزء الأكبر من كعكة السلطة، وكان ذلك مدعاة لانتفاضات وثورات متتالية، حتى دخل لبنان في العام 1975 الحرب الأهلية المشؤومة التي استمرت قرابة 15 عامًا سقط خلالها مئات آلاف الضحايا والجرحى وألحقت بالبلد دمارًا واسعًا ولم تنتهِ إلا بعد توقيع وثيقة وطنية (اتفاق الطائف) في مدينة الطائف السعودية برعاية سعودية مباشرة في حينه، وسورية وأمريكية بطريقة غير مباشرة، وقد أوقف هذا الاتفاق الذي اعتبر الدستور الجديد للبنان الحرب، ووضع الأسس لما عُرف لاحقًا بالجمهورية الثانية.
اتفاق الطائف والتوازن الطائفي
لعل أهم وأبرز ما في اتفاق الطائف الذي وافق عليه النواب اللبنانيون المجتمعون في مدينة الطائف السعودية في أواخر العام 1989، وحظي برضا وقبول أغلب القوى السياسية اللبنانية في حينه باستثناء ميشال عون الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة العسكرية في قصر بعبدا وقائد الجيش اللبناني وحزب الله، أنه وضع حدًا للحرب وآلة القتل اليومية، وحول الصراع من عسكري إلى سياسي.
تكمن أهمية هذه التعديلات الطفيفة والبسيطة في كونها أرست نوعًا من التوازن بين الطوائف في بلد يقوم أساسًا على التنوع الطائفي والمذهبي
كما أن هذا الاتفاق أحدث نوعًا من التعديل الطفيف في الدستور الأساسي، فأخذ من صلاحيات رئيس الجمهورية، الذي كان يحكم ولا يُحاسب في نظام ديمقراطي برلماني، لصالح مجلس الوزراء مجتمعًا، كما وضع الأسس لقيام دولة مدنية من خلال الانتقال التدريجي إلى هذه الحالة عبر إلغاء الطائفية السياسية وتشكيل مجلس نواب خارج القيد الطائفي، ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف، واعتماد اللامركزية الإدارية في إدارة الدولة، فضلًا عن أمور أخرى أقل شأنًا، غير أن كثيرًا من هذه البنود لم تُنفذ.
وتكمن أهمية هذه التعديلات الطفيفة والبسيطة في كونها أرست نوعًا من التوازن بين الطوائف في بلد يقوم أساسًا على التنوع الطائفي والمذهبي، وفي نظام كرس حضور الطوائف في داخله منذ اللحظة الأولى لإنشائه عندما تم التعامل معه على أنه وطن للمسيحيين.
غير أن اجتزاء تطبيق اتفاق الطائف، واستنساب آليات تنفيذ بعض بنوده، خاصة في ظل الوصاية السورية على لبنان وفي المرحلة التي تلت الانسحاب السوري منه، أظهر كأن في الاتفاق (الوثيقة) عورًا ونقصًا، أو وكأنه بات غير صالح للفترة الحاليّة بالنظر إلى الكثير من التطورات والمستجدات.
العقد السياسي والمؤتمر التأسيسي
خلال الزيارة الأولى التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت في الأسبوع الأول من شهر أغسطس/آب الماضي، دعا ماكرون إلى عقد سياسي جديد في لبنان من دون أن يوضح طبيعة هذا العقد ولا حدوده، فهو أبقاه مبهمًا ولم يشر إذا ما كان يريده عقدًا سياسيًا بما تعنيه الكلمة، أم عقدًا اجتماعيًا أم ميثاقيًا أم غيره.
وخلال الزيارة الثانية تسربت أنباءً عن توجه لـ”ماكرون” للبحث في صيغة جديدة للبنان ربما تنهي الصيغة الحاليّة، أو بالأحرى تنهي دستور الطائف، وهو تعهد بالدعوة إلى حوار بين الأطراف اللبنانيين في باريس خلال شهر أكتوبر القادم.
وفي موازاة مبادرة ماكرون لعقد جديد دعا رئيس الجمهورية ميشال عون، المعروف عنه معارضته لاتفاق الطائف منذ العام 1989 من ثم العمل على تفريغه من مضمونه بعد انتخابه رئيسًا على الرغم من اعترافه به لاحقًا، إلى قيام الدولة المدنية من دون أن يوضح المقصود بهذه الدولة مع أن الدستور اللبناني ينص على أن لبنان دولة ديمقراطية برلمانية.
خلط حديث الرئيس الفرنسي عن العقد الجديد الأمور في البلد وأوجد حالة من القلق والتوجس من دفع البلد فعلًا إلى نوع من المواجهات والحرب المفتوحة
كما أن أمين عام حزب الله، السيد حسن نصر الله، تلقف مبادرة ماكرون، وأبدى كل استعداد للحوار والنقاش في تطوير أو تعديل دستور الطائف، والجدير ذكره أن نصر الله دعا في 28 من يونيو/حزيران 2012 إلى مؤتمر تأسيسي يعيد إنتاج النظام السياسي في ضوء ثورات “الربيع العربي” في حينه، كما أن من الجدير ذكره أن كلامًا جرى الحديث فيه عام 2007 بين الإيرانيين والفرنسيين في مدينة “سان كلو” الفرنسية عن صيغة مثالثة في النظام اللبناني بحيث يعاد النظر بصيغة المناصفة القائمة حاليًا بموجب دستور الطائف.
المواقف السياسية من العقد الجديد
خلط حديث الرئيس الفرنسي عن العقد الجديد الأمور في البلد وأوجد حالة من القلق والتوجس من دفع البلد فعلًا إلى نوع من المواجهات والحرب المفتوحة، فإعادة تشكيل النظام في ظل انعدام التوازن المحلي والإقليمي سيعني نوعًا من الغلبة لطرف على طرف آخر، وهو ما يؤسس لصراعات جديدة، وقد كان أول الرافضين لهذا العقد الجديد، وخاصة لطرح المثالثة، البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي رفض المثالثة وأصر على صيغة لبنان وعلى خروجه من نفق الأزمات المصنوعة وشدد على صيغة الحياد الإيجابي.
كما أن مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، دعا إلى الالتزام بدستور الطائف وتطبيقه واحترام مضمونه، واعتبر في رسالة رأس السنة الهجرية أن الطائف ما زال النظام الأنسب للبنان، في مقابل ذلك دعا المفتي الجعفري الممتاز، أحمد قبلان، إلى دولة مدنية ووجه انتقادات لدستور الطائف الذي اعتبره سبب “الطوائفية” التي تسيطر على لبنان.
بالنسبة للقوى السياسية فإن أغلب القوى السياسية ترفض أي تعديل أو استبدال لدستور الطائف في ظل استقواء أطراف بالخارج أو بهيمنتها على الدولة، مفضلة الذهاب إلى إعادة تكوين السلطة من خلال انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون انتخابي يحد من تغول الطوائف على البلد.
باختصار، البلد اليوم في ظل الدعوة إلى عقد جديد أو إلى مؤتمر تأسيسي يعيش حالة صعبة وخطرة قد تنزلق به إلى مجهول خطير أو ربما تأخذه إلى التقسيم الذي طالما رأى فيه البعض خدمة مجانية للكيان الإسرائيلي العنصري.