جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بغداد يوم أمس، لتلقي الضوء على أهمية العراق الجيوسياسية في الإدراك الفرنسي، خصوصًا أن هذه الزيارة تأتي بعد زيارة سابقة قام بها إلى بيروت قبل يومين، قدم فيها برنامجًا لإصلاح منظومة الحكم في لبنان، ولعل تقديمه لبرنامج آخر في العراق بعنوان (دعم مسيرة السيادة)، يأتي نتيجة قناعة الرئيس ماكرون بأن مفتاح الحل في بيروت يكمن في بغداد، ومن ثم فإن نجاح مبادرته السياسية هناك، يقتضي تقديم مبادرة سياسية شبيهة في بغداد، وذلك نظرًا لتشابه الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية بين البلدين.
يتمتع العراق بعلاقات جيدة مع الجانب الفرنسي منذ ثمانينيات القرن الماضي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الدور الفرنسي في بناء مفاعل تموز العراقي، الذي دمره الطيران الإسرائيلي في يونيو 1981 في عملية أوبرا المعروفة، وليس من قبيل المصادفة أن يتحدث الرئيس ماكرون مع رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي عن هذا الموضوع مجددًا، وذلك للتدليل على هذه العلاقة التاريخية.
إذ لا يخفى على المتابع، بأن هناك أبعادًا سياسيةً وأمنيةً واقتصاديةً، وراء زيارة الرئيس ماكرون للعراق، التي يقف في مقدمتها إدراك فرنسا أنه ينبغي أن تتحرك سريعًا لملء الفراغ الذي من الممكن أن يحصل، إذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب من المنطقة فجأة، وعدم ترك الطريق مفتوحًا أمام الصين وروسيا، فضلًا عن إدراكه أنه لن تكون هناك معارضة شرسة من إيران وحلفائها في العراق لهذه الزيارة أو ما يتمخض عنها، لأسباب تتعلق بموقف فرنسا من إيران، عندما يتم الحديث عن الاتفاق النووي، أو هدوء الدور الفرنسي في العراق مقارنة بالدور الأمريكي.
دعم مسيرة السيادة في العراق
جاء العنوان العريض لزيارة الرئيس ماكرون إلى بغداد تحت هذا المفهوم، وهو مفهوم يحتاج إلى تفكيك، خصوصًا أنه يأتي ضمن إطار دولي واسع، إذ أشار الرئيس ماكرون في أثناء لقائه بالرئيس العراقي السيد برهم صالح، أن الدولة التي مزقتها الحرب، يجب أن تعيد تأكيد سيادتها، رغم التوترات المتأججة بين الولايات المتحدة وإيران، وأن زيارته تهدف إلى إطلاق مبادرة إلى جانب الأمم المتحدة لدعم عملية السيادة، وأعرب عن دعمه لمساعدة العراق في محاربة خلايا تنظيم داعش ومقاومة التدخل الأجنبي.
ما زالت الولايات المتحدة تبحث عن مشروع سياسي ناجح في العراق، يحفظ مصالحها الإستراتيجية ويقلل من المخاطر والتحديات الإيرانية هناك
إن تأكيد الرئيس ماكرون على موضوع السيادة مهم جدًا، لما يرتبط به هذا المفهوم من مفاهيم أخرى، تتعلق بالأمن والديمقراطية والاستقرار الاقتصادي والحكم الرشيد، وهي مفاهيم ما زالت مغيبة عن منظومة الحكم في العراق بعد 17 عامًا من تأسيس العملية السياسية العراقية بعد الاحتلال، فضلًا عن أن إسباغ الطابع الأممي عليها، يضفي مزيدًا من التعقيد، خصوصًا أنه أراد إضفاء فكرة أن مبادرته أممية أكثر منها فرنسية، وأن الأمم المتحدة ستلعب دورًا كبيرًا في إنجاحها، وعليه فإن الفشل في تطبيقها، هل يعني تدويل القضية العراقية، ثم ما موقف إيران منها؟ كون هذه المبادرة ستقصي الكثير من مميزاتها وفرصها في العراق، تحت عنوان تأكيد وتقوية السيادة العراقية.
ففرنسا باعتبارها أحد أطراف الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، تدرك جيدًا طبيعة الدور الإيراني في العراق، بل إن تسهيل هذا الدور في العراق، كان أحد الحوافز التي قدمتها فرنسا، إلى جانب القوى الكبرى الأخرى لإيران، من أجل التوقيع على هذا الاتفاق، مقابل تنازلات في ملفها النووي، ولذلك يمكن القول إن الدور الإيراني في العراق سيكون محط اهتمام فرنسي في الأيام المقبلة، إذا أراد الرئيس ماكرون إنجاح مبادرته في العراق، بعيدًا عن أي مفاجأة قد تقدم عليها إيران، أو حتى حلفائها في العراق.
وكذلك الولايات المتحدة التي ما زالت تبحث عن مشروع سياسي ناجح في العراق، يحفظ مصالحها الإستراتيجية ويقلل من المخاطر والتحديات الإيرانية هناك، فزيارة الرئيس ماكرون قد تكون بديلًا أمريكيًا فاعلًا في لعب دور التوازن في الساحة العراقية، وقد يكون هناك ضوء أخضر أمريكي لهذه الزيارة، كونها تحقق ذات الأهداف الأمريكية في النهاية، وأهمها الاستقرار السياسي وكبح جماح إيران وبيئة اقتصادية رابحة.
مجالات أخرى لا تقل أهمية
يمكن الإشار إلى أن زيارة الرئيس ماكرون للعراق، بمثابة زيارة بالنيابة لأغلب قادة دول أوروبا والولايات المتحدة، للتأكيد على الدعم الدولي للعراق، وصد التوجهات الإيرانية والصينية فيه، وهو ما يؤشر للأبعاد المتعددة وراء هذه الزيارة، كما تتضمن جولة الرئيس ماكرون إيجاد منطقة ضغط أو ورقة تأثير جديدة حيال تركيا، ومحاولة فرنسية لنقل التأثير والضغط على حدود تركيا، وهو ما قد يؤثر على مسارات الصراع في منطقة شرق المتوسط التي تشهد خلافات فرنسية تركية معقدة، سواء على مستوى الصراع في مياه البحر المتوسط أم فيما يتعلق بمسارات الحل السياسي في ليبيا.
زيارة الرئيس ماكرون الخاطفة حملت رسائل سياسية واقتصادية مهمة، خصوصًا أنها جاءت في توقيت حرج
كما تطرح العلاقات الفرنسية الكردية، كأحد أبعاد هذه الزيارة، إذ تمتلك فرنسا عددًا من السجناء الفرنسيين المنتمين لتنظيم داعش في السجون الخاصة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية شرق الفرات، وهي تطمح لاستغلال نفوذ إقليم كردستان العراق هناك، مقابل حوافز اقتصادية سيقدمها الرئيس الفرنسي للإقليم، هذا إلى جانب سجناء التنظيم الفرنسيين في السجون العراقية، وهو ملف أثر على طبيعة العلاقات الفرنسية العراقية الفترة الماضية، وهو ما سيحاول الرئيس ماكرون إيحاد حل له في زيارته لبغداد.
ففي رده على سؤال بشأن المتشددين الفرنسيين المسجونين في العراق، قال الرئيس الفرنسي: “أولئك الذين اختاروا بحرية أن يذهبوا للقتال في ساحات خارجية، وأن يدانوا بارتكاب أعمال إرهابية في دولة ذات سيادة، يجب أن يحاكموا في هذه الدولة”، حيث إنه من أصل 150 فرنسيًا اعتقلوا بتهمة الانضمام إلى تنظيم داعش، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء محتجزون في معسكرات ومراكز اعتقال تابعة للإدارة الكردية في شمال شرق سوريا، في حين أن 11 متشددًا فرنسيًا محتجزون في العراق حيث حُكم عليهم بالإعدام.
إن زيارة الرئيس ماكرون الخاطفة حملت رسائل سياسية واقتصادية مهمة، خصوصًا أنها جاءت في توقيت حرج، يتأرجح بين السباق الأمريكي – الإيراني للتأثير على القرار العراقي، كما أن للزيارة أهدافًا اقتصاديةً كبيرةً، تتعلق بعقد صفقات تسليح (طائرات وأنظمة دفاع جوي ورادارات)، كانت قد ألغيت في عهد رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، إلى جانب الحديث عن دعم فرنسي لبناء مشروع نووي عراقي سلمي وخطوط مترو كبيرة في العاصمة بغداد، كما أنها تضمنت عقودًا استثمارية، وكان التوقيت ذكيًا، إذ استغل الرئيس ماكرون الهدوء الإيراني والانفعال الأمريكي في العراق، وحاول الجانب الفرنسي استثمار التوغل التركي في شمال العراق، من خلال تقوية العلاقة الاقتصادية مع بغداد، باعتباره بديلًا سياسيًا عن تركيا.