انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة تقديم الاستشارات التربوية والسلوكية للأطفال عبر الإنترنت، وتحديدًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهي ظاهرة جديدة من شأنها أن تحفز العديد من الأسئلة لدى العامة سواء كانوا أمهات أم مجرد متابعين، فما المعايير الواجب اتباعها لتحديد أهلية شخص أو صفحة إلكترونية لتقديم الاستشارات التربوية؟ وما الفارق بين الاستشارات التربوية والنفسية؟ ومن المؤهل لإعطاء كل منها؟ وما الفرق بين المنصة الإعلامية والعيادات التخصصية؟ وهل تؤهل شهادة المونتيسوري حاملها لأداء دور الاختصاصي التربوي؟
في هذا التقرير نحاول الإجابة على أكبر قدر ممكن من تلك التساؤلات.
الأهالي بين مشجع ومعترض
تتنوع آراء الآباء والأمهات عن هذا الموضوع بين متابع وداعم لهذه المنصات، ومشكك ومعترض، ولكل منهم وجهة نظره وأسبابه الخاصة.
خلود حدق أم وإعلامية، عبرت عن مخاوفها من تداول الأمهات لنصائح حسابات التواصل الاجتماعي التربوية، وقالت لـ”نون بوست”: “أنا كأم لا أعتمد مطلقًا على وسائل التواصل الاجتماعي، المعلومات المنشورة عليها والمتعلقة بالتربية بعيدة عن المناهج العلمية وذلك بناء على اطلاعي ولا أعمم، لكن تحولت المنصات الإعلامية إلى وسيلة للشهرة أو جمع المال فقط، عوضًا عن أن تكون مدروسة ومصممة بطريقة منهجية، فهي تفتح مجالًا لكل من هب ودب أن يخوض في هذا المجال الحساس”.
وتتابع خلود حديثها لتشرح سبب حساسية هذا الموضوع وأهميته، نظرًا إلى أنه يتعلق بإنشاء فرد يمثل جزء من المجتمع: “أنا أملك القدرة على التمييز بين الغث والسمين، لكن هناك بعض الأمهات المستعدات لتنفيذ أي نصيحة يجدونها على الإنترنت، وتربية الطفل هو بناء كائن ليكون سوي عقليًا ونفسيًا وجسديًا، ولذلك التساهل باعتماد المعلومات التربوية دون التدقيق بها يعتبر أمرًا خطيرًا، ولا أعلم ما المعايير التي تتبعها الأمهات باعتماد المعلومات التي تقدم لهن على الإنترنت”.
هنالك فرق بين طرح موضوع ما من وجهة نظر مختصين، والتدوين عنه من الهواة أو المهتمين به
وبالحديث عن المعايير المتبعة، تقول لوزان حداد، أم لطفلين، إنها تحاول كثيرًا تطبيق ما تجده على فيسبوك من توجيهات تربوية، وغالبًا لا تندم على تطبيق هذه التوصيات، في حين أنها لا تثق كثيرًا بأساليب التربية التقليدية التي يروج لها المجتمع، أما عن مقياسها باختيار الجهة التي تقدم النصائح.
وتوضح في حديث لـ”نون بوست”: “لا أحبذ الصفحات التي تقدم الإعلانات لأي منتج كان، وتقديمه على أنه المخلّص من جميع المشاكل، ولا أحب صانعي المحتوى الذين لا يعترفون بأخطائهم عند ارتكابها، أو الأمهات اللواتي يقدمن حياتهن على أنها حياة مثالية، مما يشعرني بعدم الثقة والشك، أو عندما تصر أو يصر صاحب الحساب أن التربية الصحيحة لا تتم إلا باستخدام أدوات أو ألعاب محددة، متجاهلين بذلك طبقة الأهالي غير القادرين على تأمين هذه الاحتياجات، وأخيرًا، يهمني أن توافق الصفحة مبادئي و توجهاتي الحياتية خصوصًا من الناحية الدينية”.
استشارات تربوية
هناك فرق بين طرح موضوع ما من وجهة نظر مختصين، والتدوين عنه من الهواة أو المهتمين به، وبناءً على ذلك يشكك بعض المتابعين بصحة الاستشارات التي تقدمها صفحات الأمومة، التي يديرها في بعض الأحيان أشخاص غير مؤهلين أكاديميًا وعلميًا لتقديم هذا النوع من الخدمات.
في حديث لهند علوش مع “نون بوست”، وهي أم وباحثة ماجستير في علم النفس من جامعة Kansas State University الأمريكية، اعتبرت أن متابعة الآباء والأمهات لهذا النوع من الحسابات على مواقع التواصل أمر جيد من ناحية تبادل الخبرات، بشرط أن يقتصر الأمر على ذلك، وقالت: “يوجد بعض الأمهات من خلفيات أكاديمية متنوعة مثل الهندسة والصيدلة والإعلام وغيرها من الاختصاصات البعيدة عن مجال تربية الطفل، يشاركن تجاربهن الشخصية مع أطفالهن على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو أمر لطيف برأيي ومشابه لفكرة مجموعات الدعم، كما يشبه جلسات الأمهات قديمًا ومناقشتهن لأخبار وأوضاع الأطفال معًا، لكن الخطورة هي عندما تنتقل إحدى هذه الأمهات إلى مجال تقديم الاستشارات التربوية من دون وجود خلفية أكاديمية مناسبة”.
وتشرح هند من وجهة نظرها أسباب قبول الشارع العربي لهذا النوع من الخدمات التي يقدمها غير الاختصاصيين، رغم خطورتها في هذه الحالة وإمكانية تأثيرها على نفسية الطفل وديناميكية الأسرة سلبًا: “الساحة العربية بالنسبة لهذا المجال يمكن اعتبارها فارغة، مصادر أخذ العلم لتربية الطفل ليست بغزارة وسهولة الوضع في العالم الغربي، حيث يُتاح للأهالي أطباء واختصاصيي الأطفال وعلم النفس، بالإضافة إلى الكتب وغيرها من المصادر الكثيرة لطلب المساعدة أو السؤال، أما فيما يتعلق بالمجتمع العربي فهناك شح في هذه الموارد”.
رنا السباعي أم لثلاثة أطفال تشارك تجربتها مع “نون بوست” فيما يتعلق بأساليب التربية وجدوى المعلومات الموجودة على شبكات التواصل من وجهة نظرها، فتقول: “برأيي المعلومات الموجودة على هذه المنصات في معظم الأحيان إما بديهية لأي شخص أم تحوي أخطاءً فادحةً، أفضل أن أبحث عن معلومات متعلقة بالتربية باللغة الإنجليزية، لأنني لا أثق بالمواقع والصفحات العربية، فهنالك الكثير من غير المختصين الذين يقدمون النصائح على الإنترنت، وحتى لو ادّعوا أنهم من حملة الشهادات أشك بإمكانية تزويرهم لها، لجميع هذه الأسباب أفضل قراءة الدراسات والبحوث العلمية من مصدرها وأن أبحث بنفسي عن ما أحتاج إليه من معلومات”.
البعض يعتمدون على خبرتهم الشخصية أو حدسهم لإعطاء الاستشارات وهو ما يسمى علم النفس الشعبي
وتتابع رنا حديثها عن صفحات التواصل الاجتماعي وما تقدمه من محتوى متعلق بتربية الطفل: “أتابع هذه الصفحات فقط لأنبه أصدقائي إلى أخطائهم المتكررة، أو كي أشير إلى بديهية طرحهم، وأرفض الاعتماد على هذه الصفحات كمصدر للمعلومات”.
وتعلّق هند علوش على نقطة الأخطاء التي من الوارد جدًا أن يقع بها غير المتخصص ونتيجتها على الطفل والأهل، فتقول: “يحتاج الاختصاصيون عدة جلسات ليفهموا طبيعة الحالة وعلاجها، وذلك بالاعتماد على منهج علمي واضح ومعرفة واسعة بالمجال، فكيف يمكن لغير المختصين الذين يقدّمون استشارتهم عن بعد أن يفهموا الحالات من خلال جلسة واحدة كما يدّعي البعض منهم؟ ومن دون معرفة عميقة بعلم نفس الأطفال ولا علم النفس التطوري ولا دراية بالنظريات وكيفية تطبيقها وفهمها؟ النتائج قد تكون خطيرة حتى إن لم تظهر بشكل فوري، سوف تتجلى بالمستقبل على الطفل أو الأسرة”.
والسؤال البديهي هنا هو: على ماذا يعتمد هؤلاء المهتمون بمجال تربية الطفل من غير المختصين عند تقديم استشاراتهم؟ الجواب وفقًا لما تم التصريح به من معظمهم أنهم مطلعون على مناهج التربية من خلال الكتب المتاحة للجميع في المكتبات، بالإضافة إلى ميزانهم الشخصي وحدسهم الخاص، وعلى هذه النقطة تعلق هند علوش بالتالي:
“البعض يعتمدون على ما يسمونه خبرتهم الشخصية أو حدسهم لإعطاء الاستشارات، وهذا خطأ، وهو ما يسمى علم النفس الشعبي، حيث يعتمد الإنسان على أُطره الشخصية وآرائه وتجاربه الشخصية لإعطاء الحل أو العلاج، مما يفتح المجال أمام الانحيازات والبعد عن الموضوعية والمنهج العلمي”.
لقطة شاشة من صفحة “علمتني كنز” التي تدير السيدة غزل بغدادي، وهي مجموعة شهيرة ومتابعة من قبل عشرات الآلاف، تقول فيها بوضوح إنها قليلًا ما تقرأ بمجالات التربية، بالرغم من أنها تقدم مشورات تربوية مدفوعة الأجر.
وفي نفس السياق جاء في كتاب أشهر 50 خرافة في علم النفس: “كثيرًا من علم النفس الشعبي ليس له أدلة، مع أن بعضها يحظى بأدلة قوية، في الواقع جزء كبير من علم النفس اليومي يتكون مما أسماه عالم النفس بول ميل استنتاجات شخصية، أي افتراضات خاصة بالسلوك الإنساني تقوم على الحدس فقط، وعلى الرغم أن الحدس يمكن أن يكون عظيم الفائدة في وضع فروض جدلية يجب تجربتها باستخدام مناهج البحث الدقيقة ، فإنه غالبًا يكون معيبًا بصورة مفجعة إذا اتخذناه وسيلة لتحديد مدى صحة هذه الافتراضات، ويمكن أن يرجع ذلك بدرجة كبيرة إلى أن العقل البشري قد تطور ليفهم العالم من حوله لا ليفهم نفسه”.
وتعطي هند مثالًا عن هذه الأخطاء عندما نشرت إحدى هذه الصفحات استفسار أم عن مزاجية طفلها، ضمن سياق الحديث عن عناد الطفل، وكان الجواب بما معناه أن طفل هو انعكاس المنزل فقط: “المطلع على أساسيات علم النفس يعلم أن الطفل يولد وهو مهيأ بيولوجيًا، حاملًا جيناته الوراثية الخاصة، التي تظهر ضمن سياق معين وعلى هيئة سلوكيات معينة، ومجموعة هذه الصفات التي تلعب الجينات الوراثية دورًا كبيرًا بها، يُطلق عليه بعلم النفس Temperament، أما بيئة الطفل فدورها هو تشكيل هذه الصفات، تنمية بعضها والحد من بعضها الآخر، والنتيجة بالمحصلة لهذه الاستشارة الخاطئة، هو إشعار الأم بالذنب وربما الإضرار بالطفل”.
أما النقطة الثانية التي يعتمد عليها غير المختصين بتقديم الاستشارات التربوية هي شهاد المونتيسوري.
ما شهادة المونتيسوري؟
المونتيسوري هو منهج تعليمي ابتكرته السيدة الإيطالية ماريا مونتيسوري، ويهدف إلى تطوير الطفل اجتماعيًا وعاطفيًا وإدراكيًا وفيزيائيًا.
وكثُرت التساؤلات مؤخرًا عما إذا كانت هذه الشهادة كافية لاعتبارها مؤهلًا يسمح لحاملها بمزاولة مهنة التربويين والمختصين وتقديم الاستشارات.
كندة الحملي، واحدة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وحاملي شهادة المونتيسوري، نشرت على صفحتها في فيسبوك فيديو تشرح به طبيعة هذه الشهادة ومجالات العمل بها، تقول كندة في التسجيل المصور الذي لقي تفاعلًا كبيرًا من متابعي صفحتها على فيسبوك:
“المونتيسوري هو منهج تعليمي للمدارس، لكنه لا يغطي جميع مناهج ونظريات التربية، ولا يستطيع المهتم بمجال التربية من حملة الشهادات البعيدة عن هذا الاختصاص أن يكتفي بدبلومة المونتيسوري ليعتبر نفسه مربيًا ومستشارًا تربويًا. لا يمكننا مقارنة اختصاص أكاديمي مدته تتراوح بين الأربع والخمس سنوات على أقل تقدير، بدبلومة مدتها سنة”.
وبالعودة إلى السيدة خلود حدق للحديث عن هذه الناحية، تقول إنها لا تثق بكل من يدّعي أنه يحمل شهادة المونتيسوري:
“الشخص المؤهل لإعطاء الاستشارات لديه مرجعية علمية واضحة وظاهرة للعيان، ومن المفروض أن يكون مختصًا بمجال الطب النفسي أو العلاج السلوكي أو غيرها من العلوم التي تؤهل دارسيها أن يكونوا قادرين على إعطاء استشارات تربوية صحيحة”.
وتتابع خلود حديثها عن منتجي المحتوى الإلكتروني من حملة دبلومة المونتيسوري: هنالك بعض الحسابات اللطيفة التي تنتج محتوى معقولًا وعلميًا، وقد يعتمد على منهج المونتيسوري أو غيره، لكنهم لا يقدمون استشارات تربوية، مما يزيد ثقتي بهم، لأن عدم تقديمهم للاستشارات يوحي بمعرفتهم لحدودهم”.
وتختتم هند علوش حديثها باعتبار التسيّب الموجود حاليًّا يرجع إلى عدم وجود آليات في الوطن العربي وبعض دول الشرق الأوسط لضبط مثل هذه النشاطات: “لا يمكن لمعظم هذه الحسابات أن تنشط لو كانت في إحدى البلاد الغربية التي تمنع تقديم هذا النوع من الخدمات قبل الحصول على رخصة وتدريب مناسب، فتلجأ هذه المنصات إلى مزاولة نشاطها في بلاد تفتقر إلى الرقابة، ولكن الخطأ يبقى خطأ، ويمكن تسمية الموضوع احتيال أكاديمي وأخلاقي”.
نشير إلى أننا حاولنا في نون بوست التواصل مع القائمين على مجموعة من حسابات النصائح والاستشارات التربوية، لكن القائمين على بعضها رفضوا الحديث إلينا حول تجاربهم، فيما لم نتلق ردًا من البعض الآخر.