تعلو في لبنان من حين إلى آخر أصداء نغمة “الدولة المدنية”، تؤديها جوقة الطبقة السياسية الحاكمة. توحي هذه الطبقة، التي تكونت جميعها على أسس طائفية وعلى أنقاض الحرب الأهلية، بأنها من المنادين الشرسين لتحقيق هذا المطلب، وأن كل ما يمنعها هو العرقلات المستمرة من الطرف الآخر.
تزامنت المطالبة بالدولة المدنية هذه المرة مع الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير وعشية زيارة الرئيس الفرنسي إلى لبنان وجاءت على لسان رئيسي الجمهورية والنواب تحديدًا، فأتت على شكل جائزة ترضية للجهود الفرنسية والمطالب الشعبية ضمن مسلسل حفظ ماء الوجه عوضًا عن أن تكون برنامج جدي ومستدام.
لكن الشعب اللبناني أصبح على يقين أن هكذا مواضيع حساسة لا يمكن تحقيقها إلا ضمن أطر علمية واضحة المعالم والخطوات وليس من خلال خطابات رنانة عادة ما تبقى حبرًا على ورق.
انعكس هذا الوعي لدى الشعب في استطلاع للرأي أجرته صفحة The Street Pulse على إنستغرام، حيث عبر 87% من أصل 817 مشاركًا عن عدم تصديقهم لـ”بدعة” المناداة بالدولة المدنية. فما الذي قد يُغير هذا النبض؟
محاور الدولة المدنية
تتمحور الدولة المدنية حول فصل الدين عن الدولة وإرساء نظام حكم مبني على أُسس المواطنة والعدالة والمساواة، ويُتَرجَمْ هذا النظام أولًا في قوانين الأحوال الشخصية لتصبح مدنية وليست دينية تساوي الرجل مع المرأة والمسيحي مع المسلم مع الملحد، وتُرفَق بقوانين انتخابية غير طائفية تتيح إيصال أصحاب الكفاءة إلى مقاليد الحكم بغض النظر عن الطائفة والمذهب.
وقد عقد المجتمع المدني العديد من ورشات العمل لصياغة وطرح سياسات وقوانين مدنية تسهل الانتقال إلى هذا النموذج، وبالتالي فإن النصوص موجودة وجاهزة للتطبيق ولكن تبقى العقدة في النفوس، فمن المستحيل إحداث هذه النقلة النوعية والبنيوية ما دام الزعيم السياسي هو نفسه أمير الطائفة.
عقدة النفوس
اكتسب الزعماء في لبنان شرعيتهم الشعبية مستفيدين من الانقسام الطائفي الحاد، فنصبوا أنفسهم حماة الطائفة وحاملين رايتها ومستغلين اهتراء مؤسسات الدولة وانعدام خدماتها ليستبدلوها، ومن أجل الحفاظ على مكانتهم ونفوذهم كان لا بد من شحن النفوس مذهبيًا باستمرار، فارتكز الخطاب السياسي بالدرجة الأولى على الدفاع عن حقوق الطائفة وضرورة تمثيلها في مناصب الدولة والإدارات المهمة والأساسية و”السيادية” وعدم تهميشها لتكريس نظام المحاصصة الذي يشترط الولاء المطلق لمنطق الحزب الواحد مقابل الحصول على الحقوق الأساسية كالوظيفة والطبابة والتعليم.
يتحمل الإعلام مسؤولية هائلة في منع إيصال اللغة التحريضية الطائفية إلى داخل البيوت والعمل على تخصيص الهواء لنشر ثقافة المواطنة والعدالة الاجتماعية
وغالبًا ما يتولى رجال الدين مبايعة الزعماء في خطبهم ليدعموهم ويشكلوا حصنًا منيعًا أمام دولة مدنية تضعفهم وتفقدهم السيطرة على القرار. تغلغلت هذه المفاهيم عميقًا في نفوس المناصرين ونتج عنها مجمتعًا ذكوريًا عنصريًا يصنف الإنسان حسب الطائفة والجنس، وانقسم الشعب اللبناني عموديًا ومناطقيًا وتم نسف هوية لبنان الجامعة التي أصبحت فئوية ضيقة.
خطة الطريق نحو الدولة المدنية
من أجل معالجة الموضوع عمليًا وبتأنٍ، يجب تحديد ما إذا كان هناك نزعة وقبول لدى الشعب للعيش في ظل دولة مدنية وإجراء مسح مفصل للتعرف على القضايا الخلافية المحتملة، يليها تحضير حملات توعوية تتطرق لتلك القضايا ولمفهوم الدولة المدنية وفوائدها على جميع الطوائف والطبقات الاجتماعية.
يجب هنا التركيز على شريحتين أساسيتين في المجتمع: الأطفال، من خلال مناهج تربوية جديدة تشرح لهم هذه الثقافة وتنشرها وتغذيها في نفوسهم منذ الصغر، أما الشريحة الثانية فهي تضم المتقاعدين أو الجيل القديم التي تتطلب مقاربة خاصة تضمن لهم شيخوخة محترمة من دون المساس بحرية تدينهم ومعتقداتهم وممارساتهم.
ويتحمل الإعلام مسؤولية هائلة في منع إيصال اللغة التحريضية الطائفية إلى داخل البيوت والعمل على تخصيص الهواء لنشر ثقافة المواطنة والعدالة الاجتماعية، ويجب على مجالس مراقبة المحتوى الإعلامي أن ترفع الرايات الحمراء وتحاسب الوسائل الإعلامية في حال غرقها في مستنقع الطائفية وإثارتها للنعرات.
طبيعة الكيان اللبناني بطوائفه المتعددة لا تحتمل فرض عقد سياسي جديد بالقوة أو من دون موافقة أكثرية المكونات
من الجلي أن النظام المدني لا يناسب أمراء الحرب الأهلية وزعماء الطوائف وهو معاكس لخططهم وأساليبهم التي تضمن ديمومتهم، فلن يتهاون هؤلاء في وضع العصي في الدواليب سرًا بينما يتباهون في العلن أنهم من أوائل الدعاة للدولة المدنية، وأكبر دليل على عدم جديتهم لناحية تغيير النظام الطائفي هو طبيعة أنظمة الأحزاب الداخلية التي تمهد الطريق أمام الوراثة السياسية وبالتالي الزعامة الطائفية الإقطاعية المناقضة تمامًا لمبدأ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
ولكن يبقى السؤال الأساسي والمحير: هل يجب تغيير النصوص أولًا لتفرض تغييرًا قسريًا على النفوس وتجبرها على التأقلم أم يجب تهيأة النفوس من أجل تقبل الواقع الجديد بقوانينه وأعرافه فيتم الانتقال طواعية إلى الدولة المدنية؟
إن طبيعة الكيان اللبناني بطوائفه المتعددة لا تحتمل فرض عقد سياسي جديد بالقوة أو من دون موافقة أكثرية المكونات في المجتمع، لكن هناك مؤشرات أننا قد بدأنا نشهد على جانب جديد للذهنية المعهودة التقليدية خاصة بعد الأحداث الأخيرة من انتفاضة الشعب وانفجار المرفأ، فتوحد الجميع خلف شعار “الجوع والإجرام والفساد لا طائفة لها ولا دين” فبدأت تنشأ نواة بيئة حاضنة مستعدة لتقبل نظام مدني حديث يلبي طموحات هذا الشعب.