ترجمة وتحرير: نون بوست
في الرابع من شهر آب/أغسطس، تعرض منزل الناشط العراقي رضا العقيلي، الذي يقع في حي العمارة، التابع لمحافظة ميسان، لهجوم من قبل رجال الميليشيات الذين أطلقوا قذيفة صاروخية ورصاصا على المبنى. كانت هذه المحاولة الثانية لاغتياله هذه السنة. ولحسن حظه، لم يصب لا هذا الطالب في كلية الصيدلة وعضو اتحاد طلاب ميسان، ولا أي شخص آخر بأذى. وقع تداول أنباء الهجوم بسرعة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن بعد أسبوعين تقريبًا، اغتيل الناشطان رهام يعقوب وتحسين أسامة.
كانت هذه الهجمات الوحشية هي الأحدث ضمن موجة العنف المستهدف وعمليات الخطف التي قام بها مسلحون غامضون يسعون إلى إسكات دعاة حرية التعبير وأولئك الذين ينتقدون النظام العراقي الفاسد الذي يقوم على المحاصصة والطائفية والخاضع لسيطرة الميليشيات. ويضعف هؤلاء أي تفاؤل بالإصلاح، لاسيما بعد إعلان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إجراء انتخابات مبكرة في يونيو/ حزيران المقبل.
في الفترة الأخيرة، أجريت مقابلات مع نشطاء عراقيين كانوا جزءًا من الحركة الاحتجاجية المؤيدة للإصلاح في العراق منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي حول آرائهم بشأن الانتخابات. بإجماع، كان هؤلاء المتظاهرين الشباب الشجعان أقل اهتمامًا بموعد الانتخابات وأكثر اهتمامًا بالظروف التي سينظم فيها المرشحون والناخبون حملاتهم الانتخابية ويتوجهون إلى صناديق الاقتراع.
في الواقع، هناك مبرر لشواغلهم. في غضون الأشهر الأربعة الأولى من الاحتجاجات، قتلت القوات الحكومية والمسلحون الذين يُعتقد أنهم ينتمون إلى مليشيات حزبية 600 متظاهر على الأقل وأصابت الآلاف بجروح، ناهيك عن تعرض العشرات للاختفاء القسري والتعذيب. بالنسبة لغير المطلعين على الشأن العراقي، تعد هذه الإحصائيات قاتمة. ويعتبر عديد المتظاهرين العراقيين، ضحايا عنف الحكومة مثل صفاء السراي، أو حسين عادل وزوجته سارة، من أصدقائهم الذين تحولوا إلى شهداء. تلهم ذكرى رموز “ثورة أكتوبر” شباب العراق لمواصلة النضال السلمي لإجراء إصلاحات جذرية. وبالنسبة لهم، تعد الانتخابات النزيهة سلاحهم الوحيد.
في الحقيقة، تعد عملية إجراء انتخابات خلال شهر حزيران/ يونيو المقبل قبل انتهاء ولاية البرلمان الحالي تحديًا. تحتاج الحكومة إلى النظر في الشروط التي وضعتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق والانتهاء من إعداد قانون الانتخابات الجديد للبت في الحدود المتنازع عليها وعدد الدوائر الانتخابية. كما عليها العثور على 300 مليون دولار من خزينة البلاد المستنفدة لتنظيم الاقتراع واتخاذ إجراءات تشريعية لتصحيح الوضع القانوني للمحكمة العليا في العراق (في حال وقع التشكيك فيها لاسيما بعد تعيين عضو محكمة بشكل غير قانوني في عام 2019) حتى تتمكن من التصديق على النتائج.
في المقابل، سيكون التحدي الأكثر صعوبة هو إقناع النواب الحاليين بحل البرلمان قبل شهر حزيران/يونيو 2021 والتخلي عن رواتب الأشهر القادمة والامتيازات والسلطة الممنوحة لهم. حتى لو تغلب الكاظمي على هذه العقبات، فسيكون من الأصعب تهيئة الظروف لإجراء انتخابات حرة ونزيهة حقًا لجميع العراقيين.
صورة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في العاصمة الإيرانية، طهران في 21 يوليو/ تموز 2020.
يرغب النشطاء الذين تحدثت معهم في الحصول على فرص متكافئة (أو على الأقل أقل ظلمًا) حيث يمكن للمرشحين غير المنتمين إلى الأحزاب والميليشيات المؤسسة المنافسة. وقد قال لي المتظاهر وطالب الصيدلة إكرام وصفي التالي: “لسنا بحاجة إلى انتخابات مبكرة. فلنسمح للانتخابات بأن تجري في غضون 18 شهرًا، ولكن على رئيس الوزراء تجميد أصول الأحزاب حتى لا تتمكن من شراء الأصوات”.
بالإضافة إلى ذلك، يرغب هؤلاء في رؤية الناخبين الذين حُرموا من التصويت في انتخابات 2018 (وهو ما انجر عنه انخفاض نسبة المشاركة الانتخابات العراقية إلى أدنى مستوى حتى الآن) يستعيدون الثقة الكافية في العملية الانتخابية للعودة إلى صناديق الاقتراع بأعداد غفيرة.
حتى يحدث ذلك، يُؤكد الناشطون على ثلاثة متطلبات أساسية وهي نزاهة واستقلالية المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والتي لم تتعافى بعد من مزاعم التزوير في الانتخابات الأخيرة، والتدقيق في تمويل الأحزاب وتنفيذ القوانين على الأحزاب السياسية الحاكمة للحد من قدرتها على تلقي التمويل الأجنبي أو استغلال الأموال العامة لشراء الأصوات، وأخيرا إخضاع الميليشيات لسيطرة الدولة حتى لا تتم الانتخابات تحت تهديد السلاح.
مع ضمان تنفيذ هذه المتطلبات، يقول منظمو الاحتجاجات إنهم سيمنحون الفرصة لتثقيف وتعبئة الناخبين لإطلاق العنان لإمكانات الناخبين الشباب في العراق. ونظرًا لأن سن الناخبين يجب ألا يقل عن 18 سنة، وبما أن نصف أعمار سكان العراق دون 21 سنة، فقد شكّل الشباب الغالبية العظمى من المحتجين المناهضين للحكومة، وبالتالي سيكون لديهم نفوذ انتخابي.
في حال قرر نصف ما يقرب من 20 بالمئة من الناخبين العراقيين الذين لم يُدلوا بأصواتهم في سنة 2018 أن يكون لهم رأي في الانتخابات المقبلة، فإن عدد ممثليهم سوف يفوق عدد أكبر حزب فاز بمقاعد في انتخابات 2018.
هناك قنوات وشبكات جديدة لتعبئة الناخبين تحت تصرف منظمي الاحتجاجات العراقيين والتي لم تكن موجودة قبل شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019. يُذكر أن هذه القنوات تشمل اتحادات الطلاب التي تأسست في الخريف الماضي. وحسب ليث حسين، طالب بكلية الطب والعضو المؤسس لاتحاد طلاب بغداد، فقد انتقل، في غضون أسابيع قليلة من تأسيسه للاتحاد، من تمثيل ثماني كليات في جامعتين في بغداد، إلى تمثيل 92 كلية تشكّل 95 بالمئة من جميع الكليات في العاصمة.
استخدم الاتحاد هذه الشبكة لتحويل التجمعات التي تنظّمها الكليات الفردية إلى فعاليات أسبوعية استقطبت أكثر من 60 ألف متظاهر في وقت واحد وأصبحت ركيزة لحركة الاحتجاج.
في الواقع، يتفاءل النشطاء بالأحداث التي وقعت منذ تشرين الأول/ أكتوبر والتي غيرت بشكل جذري نظرة الشباب العراقيين إلى دورهم في السياسة. وعلى حد تعبير المتظاهر والطالب الجامعي حيدر فيصل، فإن “الوعي الذي نشأ من شأنه أن يحشد الناس إلى صناديق الإقتراع … وفي الوقت الراهن لن يُعرب أي أحد عن عدم اهتمامه بالسياسة، كما بات المزيد من الناس يُدركون ضرورة التفكير قبل منح أصواتهم للمرشحين”.
إذا تغلب الشباب والشابات على تناقضهم بشأن الانتخابات وقرروا التصويت، فهم قادرون على خلق دائرة انتخابية ذات دوافع قوية يتجاوز تأثيرها الكتل الانتخابية القائمة على المحسوبية
تابع فيصل قائلا: “أعتقد أن الجميع سيصوتون”. وشاركه الناشط والطالب في كلية الطب أمير الحبوبي هذا التخمين، مؤكداً على هدف الحركة لنشر ثقافة الوعي الفردي التي تتحدى الناخبين العراقيين في التفكير والاختيار لأنفسهم بدلاً من اتباع الغوغائيين الدينيين والمتحزبين بشكل أعمى.
يعتقد منظمو الاحتجاجات بأنهم قادرين على الإستفادة من شبكاتهم الجديدة لتوعية الناخبين ولبناء آلة تعبئة قادرة على تجنب الإقبال المنخفض لعدد المشاركين في سنة 2018، عندما دفع فقدان الثقة في العملية الانتخابية العديد من النشطاء إلى المطالبة بمقاطعتها. وجعلت هذه المقاطعة، ناهيك عن المؤامرات الأخرى، الأمر أكثر سهولة على أنصار الأحزاب السياسية الصغار نسبيًا الذين يسهل حشدهم للهيمنة على صناديق الاقتراع. وقال أحمد خلدون، وهو ناشط حقوقي وأحد المتظاهرين، إنه وزملائه النشطاء على استعداد لتوعية الشعب بضرورة التصويت وكيفية اختيار المرشحين قائلا: “سوف نشجع المرشحين المستقلين ونحن نعمل على هذا الأمر وقد يكون لدينا 10 آلاف متطوع في تسع مقاطعات “احتجاجية”، وقد يصل الأمر إلى 15 آلاف متطوع في جميع المقاطعات.”
يعتقد هؤلاء المتظاهرين الشباب أن التجارب المشتركة المؤلمة في السنوات الأخيرة خلقت ناخبين يتواصلون معا متحدّين الحواجز التقليدية للطائفة والطبقة والمكان. في الواقع، تحدث العديد منهم بحماسة عن الطريقة التي جمعت بها تجربة الاحتجاج بين شرائح المجتمع العراقي التي لا تختلط عادة. وأشار وصفي في هذا السياق إلى أن مواجهة عنف الحكومة والميليشيات معًا جعلت الناس يدركون ما تفعله من أجل البلد”.
من جهتها، قالت الأستاذة الجامعية والناشطة في مجال بناء السلام، نور قيس: “نتخلص من جميع اختلافاتنا قبل دخول ميدان التحرير”. كما تلاحظ بصيص أمل حتى في حالات النزوح الرهيبة التي حدثت في حرب 2014-2017 مع تنامي نفوذ تنظيم الدولة لأنها عرّفت العراقيين على بعضهم البعض بعد أن بنى العنف الطائفي في العقد الماضي حاجزََا بينهم. على حد تعبيرها، فإن الشباب النازحين من محافظة الأنبار أجبروا على العيش في أربيل والمهجرين من نينوى اضطروا إلى العيش في كربلاء، وهذا ما جعلهم يعونبما يجمعهم مع إخوانهم العراقيين.
قد يكون لهذا الأمر تبعات على الإنتخابات. ففي حال تحول العراق إلى منطقة انتخابية واحدة، سواء في الانتخابات القادمة أو في وقت لاحق، يعتقد بعض الناشطين أن التعديل سيوفر للناخبين الإصلاحين مرشحين مناسبين ما كانوا ليحصلوا عليهم إذا كانوا مقتصرين على بلدتهم أو مقاطعتهم. وفي هذا الصدد، قال أحمد:” نحن نفضل أن يكون العراق كله دائرة واحدة حتى يتمكن ابن الأنبار من التصويت لابن البصرة والعكس بالعكس” .
مع ذلك، فإن هؤلاء الناشطين يدركون أن التغيير يجب أن يكون تدريجيًا ويقترحون نظام يشمل منطقة واحدة لكل مقاطعة، طالما أنه يتخلص من القوائم الحزبية لصالح الإنتخاب الفردي لمنح المستقلين فرصة المنافسة.
على الرغم من ذلك، فإنهم يأملون في أنه إذا تغلب الشباب والشابات على تناقضهم بشأن الانتخابات وقرروا التصويت، فهم قادرون على خلق دائرة انتخابية ذات دوافع قوية يتجاوز تأثيرها الكتل الانتخابية القائمة على المحسوبية وربما حتى تتنافس مع مئات الآلاف الذين يحتشدون خلف رجل الدين الشعبوي مقتدى الصدر.
صورة لزعيم التيار الصدري العراقي مقتدى الصدر.
على عكس الصور النمطية التي تشير إلى جيل عجول يسعى دائما إلى المكافأة الفورية، فإن هؤلاء الشباب يلعبون لعبة طويلة الأمد. إنهم يفهمون أن إنهاء ثقافة الفساد والعنف السياسي يستغرق وقتا. إن القوة السياسية التي يسعى دعاة الإصلاح هؤلاء لبنائها لا تهدف الانتخابات المقبلة فحسب، وإنما جميع المواعيد الإنتخابية اللاحقة.
يتحدث النشطاء عن “ثورتهم” كخطوة على طريق قد بدأ البعض ينتهجه في سنة 2015 وحتى في سنة 2011، ويتوقعون أن تظهر المزيد من المواجهات في المستقبل. ولتحقيق هذه الغاية، يرون أن تأسيس موطئ قدم في البرلمان هو الخطوة الأولى نحو تغيير ميزان القوى السياسية وتحفيز التغيير من الداخل.
أوضح محمد الياسري، أحد المتظاهرين من البصرة والذي نجا من الاختطاف في تشرين الأول/أكتوبر أن “في سنة 2011، كانت هناك حركة احتجاجية. بعد ذلك اندلعت الاحتجاجات الأضخم في 2015 و2016. في احتجاجات 2018 فقدت الحكومة السيطرة على البصرة. ثم في سنة 2019، انتشرت الحركة الاحتجاجية في تسع محافظات. في المرة القادمة، بعد أن مر الناس بكل هذه التجارب والمصاعب، سيكون دافعهم لإجبار الطبقة السياسية على سماع أصواتهم أكثر قوة”.
خلال ما يقارب 20 ساعة من المقابلات، من أبرز الاختلافات التي تمكنت من ملاحظتها بين المتظاهرين الشباب والناشطين “في منتصف حياتهم المهنية” هو الاختلاف في رد فعلهم على “حملة الإرهاب” التي دبرتها الحكومة والميليشيات. بينما أدى العنف إلى عدول النشطاء الأكبر سنا، إلا أن الفظائع والدماء التي أريقت خلال الاحتجاجات لم تثن الشباب على المضي قدما، على الرغم من فقدان قوة الزخم والموارد منذ بداية الوباء. إن أواصر الصداقة والتضحية والحلم المشترك لوطن عراقي يعامل جميع مواطنيه بعدالة وكرامة تواصل دفعهم إلى الأمام.
يعترف بعض المتظاهرين الذين قابلتهم بأنهم قد تجاهلوا الاحتجاجات في البداية وظنوا أنها استختفي بسرعة، لكنهم قرروا المشاركة بعد أن شاهدوا مدى الإيذاء والقمع. وقال الحبوبي إن القناصين استفزوه لأن “القتل جعلني أشعر أننا أمام طريق مسدود وأن لا سبيل لاستعادتنا كرامتنا دون الاحتجاج وإعلام النظام السياسي أن الكيل قد طفح”. بالنسبة لإكرام وصفي، الذي حمل شخصيا، بصفته مسعفا متطوعا، جثث 13 متظاهرا قتلوا بالرصاص وعبوات الغاز خلال أحداث 25 تشرين الأول / أكتوبر 2019، جعلته التجربة يؤمن بضرورة القيام بدوره، لأن الشعب يزرع الآن بذرة. وأخبرني: “قد لا نحقق أهدافنا الآن، ليس في هذه الثورة، ولكن في الثورة التالية”.
يواصل وصفي وزملاؤه في الاتحادات الطلابية تعزيز تواصلهم مع الطلاب في جميع المحافظات، بما في ذلك إقليم كردستان والمحافظات الغربية التي لم تشهد احتجاجات واسعة النطاق. هدفهم هو “فهم العقبات التي يواجهونها” وإشراك هذه المقاطعات في المرحلة التالية، والتي يتوقع العديد من النشطاء إطلاقها في الشهر القادم، بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للاحتجاجات.
ستستمر الحركة وتتوسع لأنه، كما قال ليث حسين: ” طورنا ثروة من الخبرات في المفاوضات والحوار وصياغة المطالب، وما زلنا مصممين على إحداث التغيير. قد لا يحدث ذلك في السنة المقبلة، إلا أن الهدف يبقى عراقا لجميع العراقيين، مع فرص متكافئة بحق. إن النمور الورقية (الميليشيات وزعماء الأحزاب) لديهم الأسلحة والأموال، لكنهم لا يمتلكون قاعدة دعم حقيقية. وكما قال صفاء (السراي): في النهاية، لا يبقى غير العراق”.
المصدر: ميدل إيست مونيتور