كثيرًا ما تنتشر فيديوهات وصور مهاجرين نيجريين غير نظاميين وهم في طريقهم إلى أوروبا التي اختاروا الوصول إليها عبر قوارب الموت سعيًا إلى تحقيق أحلامهم وهربًا من الفقر والأوضاع المعيشية التعيسة، لكن المفارقة أنهم يهربون إلى من نهب أرضهم وثرواتهم، يهربون إلى فرنسا التي تستولي على خيرات بلادهم فيما تغلق أبوابها أمامهم حتى أنها أقامت قوتها العسكرية وباتت واحد من الدول النووية البارزة على حسابهم، إذ يموت النيجريون بسبب الإشعاعات والمخلفات النووية دون تقديم أي مساعدة لهم.
ثالث أكبر قوة نووية
في السابعة من صباح يوم 13 فبراير/شباط 1960، انفجرت أول قنبلة ذرية فرنسية في جنوب الصحراء الجزائرية بقاعدة رقان، كانت قوة الانفجار تُعادل 4 أضعاف قوة انفجار هيروشيما وقد أسسّ ذلك لبروز فرنسا كقوة نووية عالمية.
جعل هذا الانفجار النووي القوي، فرنسا رابع أكبر قوة نووية في العالم، حيث انضمت باريس إلى أصحاب القنبلة الثلاثة الآخرين في ذلك الوقت: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى.
لم يكن ذلك الانفجار الأخير، فقد أجرت فرنسا بعده العديد من التجارب النووية في مناطق متعدّدة -خاصة أنها لم توقع على معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية- حيث طورت باريس منذ ذلك الحين قوتها النووية الضاربة المعنية، وتعدّ فرنسا حاليا ثالث أكبر قوة نووية في العالم ولكن مع فارق هائل بينها وبين المركزين الأولين، إذ تقدر عدد الرؤوس الفرنسية بـ300.
وتتمثّل الترسانة النووية الفرنسية في عنصرين: القوّة البحرية بقيادة القوّات البحرية (الغوّاصات النووية القاذفة للصواريخ المتواجدة في جزيرة لونغ قرب بريست بالإضافة إلى بعض الطائرات) والقوّات الجوية بقيادة سلاح الجوّ.
بروز فرنسا كقوة نووية عالمية، لم يكن ليكون لولا الدول الإفريقية على رأسها النيجر، التي يخاطر أبناؤها بحياتهم في سبيل الوصول إلى باريس
تمتلك فرنسا غواصات نووية قاذفة للصواريخ (وتحمل الغوّاصات أسماء “المنتصر” و”الجريء” و”اليقظ” و”الرهيب“)، ويجب أن تعمل ثلاث غواصات في وقت واحد، في حين تخضع الرابعة للصيانة، كما تمتلك ستّ غوّاصات نووية هجومية تعمل بالطاقة النووية، ولكنّها لا تحمل صواريخ نووية.
ولديها أيضًا صواريخ عابرة للقارّات مجهزة بها الغوّاصات النووية القاذفة للصواريخ، وصواريخ جوّ–أرض متوسطّ المدى، مجهزة بها الطائرات المقاتلة (مثل رافال وميراج) الّتي يمكن أن تقلع من قاعدتي ايستر وسان ديزياي أو حاملة الطائرات شارل ديغول بفضل قوّة العمل البحرية النووية.
يعتبر صاروخ “إم 51” قلب ترسانة الردع النووي الفرنسية، ويتم إطلاقه من الغواصات، ويستطيع كل صاروخ من هذا النوع حمل ما بين 6 إلى 10 رؤوس نووية، تقدر قدرة كل منها التدميرية بين 75 إلى 110 كيلوطن، ويصل مدى الصاروخ إلى 8 آلاف كيلومترا.
مفاعل نووي فرنسي
ليس هذا فحسب، فقد طورت فرنسا استعمال الطاقة النووية حتى أصبحت جزء من الهوية الوطنية للبلاد، حيث تنتج محطات توليد الطاقة النووية ثلاثة أرباع كمية الكهرباء في فرنسا، رغم المخاطر الكبيرة التي تتسبب فيها المفاعلات النووية.
وتنتشر المفاعلات النووية من الشمال إلى الجنوب على الخارطة الفرنسية، وتستعمل لأغراض إنتاج الطاقة الكهربائية، عددها الإجمالي يصل إلى 58 مفاعلا، ما يجعل فرنسا المنتج الثاني في العالم للطاقة النووية بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
سنة 2014، أنتجت هذه المفاعلات 77% من الطاقة الكهربائية الفرنسية، ويعمل في قطاع الطاقة النووية الفرنسية، اليوم، ما لا يقل عن 222 ألف شخص، كما تشير تقديرات منظمة “الجمعية الوطنية للطاقة النووية”.
“أريفا”.. نهب متواصل لثروات النيجر
بروز فرنسا كقوة نووية عالمية، لم يكن ليكون لولا الدول الإفريقية على رأسها النيجر -التي يخاطر أبناؤها بحياتهم في سبيل الوصول إلى باريس- حيث يتمّ جلب اليورانيوم من صحاري النيجر إلى فرنسا حتى تزداد قوة ومناعة وازدهارا.
في عام 1971، بدأت باريس عبر شركة “أريفا” -التي تعمل في مجال الطاقة النووية واستخراج اليورانيوم وصنع المفاعلات النووية- في الاستحواذ على استخراج يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بـ 35% من احتياجاتها من الطاقة النووية والتي توفر 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية.
لقائل أن يقول إن هذه المدخرات الهامة من اليورانيوم تدرّ أموالا طائلة على سكان النيجر، لكن العكس صحيح فالبلاد لا تحظى إلا بالنذر القليل من عائدات ثرواتها
تحتل النيجر المرتبة الثانية عالميا من حيث إنتاج اليورانيوم بعد كزاخستان، وتعمل شركة “أريفا” في النيجر عن طريق شركة تابعة لها تسمى “أريفا النيجر” التي تقوم بتنسيق عمل الشركات الفرعية التي تدير المناجم الثلاثة، وهي سومايير، وكوميناك، وإيمورارن مع الشركة الأم.
وتبلغ حصيلة ما استخرجته الشركات الفرنسية من يورانيوم النيجر منذ العام 1971 إلى غاية سنة 2012 ما مجموعه 110 آلاف طن تم استخراجها من منجمي سومايير، وكوميناك، أما منجم إيمورارن الجديد الذي لا يزال قيد التجهيز فيفترض أن ينتج خمسة آلاف طن سنويا على مدى 35 سنة قادمة.
رغبة في التحرّر ولكن..
قبل نحو 7 سنوات، أرادت النيجر التخلص من الهيمنة الفرنسية وفتح أبواب الاستثمار في اليورانيوم أمام دول أخرى نظرًا للزيادة التي شهدها الطلب العالمي لهذه المادة إضافة إلى توتر العلاقات مع”أريفا” الفرنسية ، لكن باريس لم يرق لها ذلك حيث أرسلت عددًا من المبعوثين إلى النيجر لتسوية الأزمة مع شركة “أريفا” المنتج الأول للمفاعلات النووية في العالم، لتنتهي المفاوضات بتوقيع الاتفاقية.
في تلك الفترة، شهدت العلاقة بين الشركة الفرنسية وحكومة النيجر توترا ملحوظا، حيث اتهمت السلطات “أريفا” بتمويل حركة تمرد الطوارق في شمال البلاد ضد السلطة المركزية، كما قامت النيجر بطرد المدير الإقليمي للشركة دومينيك بن.
لم يكن هذا التوتر الأول من نوعه، فقد سبق أن طالب الرئيس النيجري الأسبق حماني ديوري -عقب قرار فرنسا الاعتماد على الطاقة النووية – بزيادة حصة دولة النيجر من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية من بلاده، لكن رد باريس كان مغايرا، فقد كان عبر رعايتها انقلابا عسكريا في إبريل/نيسان 1974 قاده الجنرال سيني كونتشي.
تعد النيجر من أفقر دول العالم
ليس هذا فقط، فقد تجرّأ الرئيس السابق ممادو طانجا (1999-2010)، على إعادة التفاوض مع “أريفا” بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار فيه أمام الشركات الأجنبية ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية، وهو ما أزعج الفرنسيين.
امتعاض فرنسا لم يدم طويلا، فقد دبّرت انقلابا عسكريا في فبراير/شباط 2010 أطاح بالرئيس طانجا وبطموحاته التحررية التي دفعته إلى تجاوز الخطوط الحمراء الفرنسية المتمثلة في المس بمصالح “أريفا” وفتح أبواب النيجر أمام الصين.
عقب الإطاحة بالرئيس، نصّبت فرنسا محله صديقها محمد إيسوفو المهندس والإطار السابق في “أريفا النيجر”، حتى يحمي مصالح الشركة الأم ومن خلفها فرنسا، ويضع حدّا للتغلغل الصيني في هذا البلد الإفريقي الغني بالثروات.
لم يكتف الفرنسيين بذلك، فقد استثمروا أيضا في ورقة الإرهاب، حيث وظفوا الهجوم الذي نفذته القاعدة في سبتمبر/أيلول 2010 على مقر “أريفا” في آرليت بالنيجر واختطاف سبعة من عمالها، وممارسات الجماعات المسلحة في مالي لشرعنة تدخلها العسكري في المنطقة ونشر الآلاف من جنودها هناك.
شعب فقير يكابد من أجل الحياة
لقائل أن يقول إن هذه المدخرات الهامة من اليورانيوم تدرّ أموالا طائلة على سكان النيجر، لكن العكس صحيح فالبلاد لا تحظى إلا بالنذر القليل من عائدات ثرواتها، فشركة “أريفا” لا تدفع للدولة النيجرية سوى 150 مليون يورو مقابل اليورانيوم، بالإضافة لـ 100 مليون يورو على شكل ضرائب، وهو ما يمثل نسبة 5.5% فقط من اليورانيوم المنتج.
شوارع مدينة أرليت كبرى منتجي اليورانيوم في النيجر
وتستفيد الشركة الفرنسية من إعفاءات ضريبية كبيرة حتى بعد تجديد العقد سنة 2014، رغم أنها تدفع أكثر في باقي الدول التي تعمل فيها، ففي كندا مثلا دفعت الشركة إتاوة تتراوح من 10 إلى 12٪ حتى عام 2013، بينما ارتفعت الإتاوة إلى 18.5٪ في كازاخستان.
يتبين من هنا أن المالك الحقيقي لليورانيوم وهي دولة النيجر لا ربح لها فيما تملك، لذلك أُهملت وصُنّفت كواحدة من أفقر الدول في العالم وأقلها نموا، حيث يكابد أهلها من أجل إطعام أطفالهم وانقاذهم من خطر الموت الذي يلاحقهم من أول يوم يفتحون فيه أعينهم في الحياة.
تمتلك النيجر كل الموارد الغنية التي يمكن أن تنهض بأي دولة اقتصاديا، على رأسها اليورانيوم والذهب والبترول، لكنها بقيت إلى الأن في أسفل القاع وشعبها لم ينهض بعد أن استحوذ الفرنسيين على خيرات بلاده.