تتفق الكثير من الأوساط السياسية ومراكز الأبحاث والدراسات الإستراتيجية ومراكز صنع القرار في عواصم دولية وإقليمية مختلفة، على أن الصراع والتنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، مثل أحد أبرز وأهم سمات المشهد العالمي خلال العقدين الأخيرين، ارتباطًا بطبيعة وحجم التعقيدات في منظومة العلاقات الدولية وتشابك وتقاطع المصالح وتنامي مظاهر الاستقطاب بين القوى الكبرى والقوى الإقليمية المرتبطة بها أو التابعة لها، وما تركه كل ذلك من آثار وتداعيات على العديد من بؤر الصراع والاضطراب في مناطق مختلفة، لعل أبرزها وأهمها منطقة الشرق الأوسط، بما تختزنه من موارد وإمكانات وبما تمتلكه من موقع جيوسياسي مميز وما تشتمل عليه من تنوع ديموغرافي – دينيًا وقوميًا وعرقيًا ومذهبيًا -.
ومع ازدياد حمى التنافس والتدافع الاقتصادي بين واشنطن وبكين بشكل واضح خلال الأعوام القليلة الماضية، ومع تحول العراق إلى ميدان رئيسي للصراع بين الفرقاء الإقليميين والدوليين، بصرف النظر عن رغبته بذلك أو عدم رغبته، فإنه من الطبيعي جدًا أن لا تكتفي الصين، تلك القوة الاقتصادية العالمية الصاعدة، بالتفرج عن بعد على تفاعلات المشهد العراقي ودور الولايات المتحدة في إيجادها وتوجيه مساراتها بنسبة ما.
وفي هذا السياق يشير الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى مايكل سينغ إلى أنه “مثلما تتغير إستراتيجية الولايات المتحدة، يحدث أيضًا تحول في إستراتيجية الصين، فمع تنامي مكانة بكين الاقتصادية والسياسية في المنطقة، سعت إلى بذل المزيد من الجهد من أجل الاضطلاع بدور قيادي من خلال عقدها مؤتمرات دبلوماسية عن قضايا مثل سوريا والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وانحازت بشكل متزايد في نزاعات الشرق الأوسط، وكما هو الحال في أي منطقة أخرى، فقد عززت روابط اقتصادية عميقة وأدمجت نفسها في البنية التحتية الحيوية في المنطقة”.
حقائق
ولا شك أن هناك جملة حقائق ينبغي الالتفات إليها ووضعها على طاولة البحث والدراسة، عند الخوض في واقع الصراع والتنافس الصيني الأمريكي في العراق أو بشأن العراق.
من بين أهم وأبرز تلك الحقائق، أن مجمل ما يجري في العراق وما يتعرض له من تدخلات، لا يعدو كونه جزءًا من مشهد الصراع الإقليمي ومعادلاته القلقة والمضطربة واتجاهاته المتقاطعة، وأبسط وأوضح مؤشر على ذلك، أنه في الوقت الذي تستعر فيه المواجهة بين واشنطن وطهران، في ظل جهود محمومة يبذلها كلا الطرفين لاستقطاب أكثر عدد من الحلفاء والداعمين والتحكم بأكبر قدر من مفاتيح السيطرة والنفوذ في المنطقة، تتحرك بكين بصورة حثيثة لبناء شراكات إستراتيجية اقتصادية مع طهران.
وفي العراق الذي وصل حجم المبادلات التجارية والاستثمارات في مختلف مجالات الطاقة ما يقارب 30 مليار دولار سنويًا، سجلت الصين حضورًا لافتًا ومميزًا، بحيث بات ذلك، يشكل عامل قلق وصداعًا مزمنًا لواشنطن، ويتذكر الكثيرون ردود الفعل الأمريكية السلبية على الاتفاقية الإستراتيجية التي أبرمها رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي مع الصين، خلال زيارته إليها في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، وهي ربما كانت أحد الأسباب الرئيسية لتحرك واشنطن نحو الإطاحة بعبد المهدي وحكومته، وهو ما حصل بالفعل بعد وقت قصير من الزيارة المذكورة.
المزاج العراقي العام لم يعد يحتمل ويتقبل المزيد من الصراعات والحروب، وبات يتطلع إلى آفاق اقتصادية وتنموية مثمرة تنشل العراق من مستنقع التخلف والحرمان والفوضى
الحقيقة الثانية، تتمثل في أن بكين استخدمت ووظفت العامل الاقتصادي وليس العسكري في صراعها وتنافسها مع واشنطن، لأنها من جانب لا تتبنى مبدأ القوة العسكرية المسلحة رغم أنها تمتلك الكثير من أدواتها ووسائلها المتطورة، ومن جانب آخر، تدرك أنها يمكن أن تحقق انتصارات لا يستهان بها عبر العامل الاقتصادي، خصوصًا في منطقة عانت كثيرًا من التدخلات العسكرية الأمريكية، حتى إن واشنطن باتت موضع رفض واستياء واستهجان لدى مساحات واسعة من الرأي العام في منطقة الشرق الأوسط، والعراق الذي عانى كثيرًا من الغزو والاحتلال الأمريكي بعد الإطاحة بنظام حزب البعث في ربيع عام 2003، ربما يكون في مقدمة الدول التي ترفض الوجود والهيمنة العسكرية الأمريكية، ويتطلع إلى مد جسور مع قوى وأطراف أخرى مثل الصين وروسيا وفرنسا وغيرها، لتصحيح المسارات الخاطئة ومعالجة السلبيات الفادحة التي تسببت بها سياسات واشنطن طيلة 17 عامًا.
وبكين اليوم تدرك وتفهم بدقة وعمق نقاط ضعف واشنطن السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية والمجتمعية والصحية، سواء على الصعيد الداخلي أم الخارجي، وهي – أي بكين – تعمل على توظيفها واستثمارها بطريقة ذكية وهادئة، وحتى الآن يمكن القول إنها نجحت إلى حد ما، رغم أن واشنطن تمتلك الكثير من أدوات وعناصر القوة في ظل مختلف الظروف والأوضاع.
الحقيقة الثالثة، تتمثل في أن الاقتصاد يمثل اليوم المفتاح الرئيسي لتعزيز الروابط والعلاقات بين الأمم والمجتمعات، مثلما تعد القوة العسكرية أحد أبرز عوامل التأزيم والتصعيد، والصين الساعية إلى الدخول بدرجة أكبر إلى العراق من بوابة الاقتصاد، من الطبيعي جدًا أن تؤثر على مصالح وحسابات واشنطن المطلوب منها إجلاء قواتها العسكرية من العراق بأسرع وقت، وبالتالي تقليص وجودها غير المرغوب فيه شعبيًا وسياسيًا.
تتحرك وتضغط أوساط صينية وعراقية على رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لتفعيل الاتفاقية الإستراتيجية بين بغداد وبكين
ولعله لم يعد خافيًا أن المزاج العراقي العام لم يعد يحتمل ويتقبل المزيد من الصراعات والحروب، وبات يتطلع إلى آفاق اقتصادية وتنموية مثمرة تنشل العراق من مستنقع التخلف والحرمان والفوضى، مع قناعة كبيرة بأن واشنطن ليست الطرف الذي يمكنه فتح تلك الآفاق، مثلما هي بكين قادرة على ذلك ومستعدة له، فضلًا عن كونها مقبولةً ومرحبًا بها، في ذات الوقت الذي من المستبعد أن تواجه مصاعب حقيقية في التأقلم والتكيف مع واقع وظروف المنطقة، وإنجاز التفاهمات المطلوبة مع أطرافها المؤثرة والفاعلة، حتى إن كانت تلك الأطراف متقاطعة ومختلفة فيما بينها.
والنقطة والجوهرية والمهمة للغاية التي تطرق إليها العديد من الباحثين وأصحاب الرأي، هي أن العراق ينطوي على أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة للصين، وذلك من أجل ضمان إستراتيجيتها الكبرى المسماة (حزام واحد – طريق واحد) التي من المفترض أن تربط كلًا من أوروبا وآسيا بالصين بحلول عام 2050.
وبينما تتحرك وتضغط أوساط صينية وعراقية على رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لتفعيل الاتفاقية الإستراتيجية بين بغداد وبكين، وتبذل جهودًا دبلوماسيةً حثيثةً محورها السفير الصيني في العراق لترتيب زيارة رسمية للكاظمي إلى الصين، تعمل واشنطن جاهدة لإبعاد بغداد عن بكين بأقصى قدر ممكن، لأنها تدرك تمامًا أن وجود التنين الصيني بقوة في العراق والمنطقة يعني فيما يعنيه اختلالًا كبيرًا في موازين القوى ومعادلات الصراع السياسي والعسكري والإيديولوجي في منطقة لم تعرف طريقها بعد إلى الاستقرار والهدوء، ولم تغادر دوامة الصراعات والمعارك والحروب.