وقعت الإمارات العربية المتحدة في 13 من أغسطس/آب الماضي اتفاقًا مع الاحتلال الإسرائيلي برعاية أمريكية، ورغم مباركة العديد من دول العالم لهذا الاتفاق الثلاثي باعتباره “اتفاق سلام” أولًا وأخيرًا، وفي ظل الموقف العربي الأقرب إلى المباركة والتأييد، فإن الفلسطينيين قيادةً وشعبًا رفضوا الاتفاق باعتباره اتفاق تطبيع قائم على إنكار المبادرة العربية وقرارات الشرعية الدولية كأساس للتسوية من جهة، وباعتباره مهد الطريق لمزيد من التطبيع العربي مع الكيان الإسرائيلي بما أثر سلبًا على العمق العربي المناصر للقضية الفلسطينية.
تعمل الإمارات العربية منذ توقيع الاتفاق الثلاثي على تنفيذ سياسة بروباغاندية للترويج لهذا الاتفاق وتحسين صورتها أمام العالم كدولة متحضرة وقوية تسعى للسلام، وهي في هذه السياسة تعمد إلى تسويق اتفاقها التطبيعي مع الاحتلال الإسرائيلي بشتى الوسائل، وذلك بهدف إعطائها مشروعية أخلاقية وبراغماتية تستطيع من خلالها فرض سياساتها ومنطقها المصالحي في منطقة الشرق الأوسط وجعلها سياسة مقبولة.
في هذا الإطار، نتابع يوميًا العديد من الندوات الافتراضية التي تعقدها مراكز البحث والفكر الإماراتية التي تسوق للإعلان الثلاثي، وتصفه بأنه أخلاقي ومبرر من حيث المصالح والقيم، وتستضيف هذه المراكز عددًا من الباحثيين المرموقين من بلدان عربية تؤيد الاتفاق وتباركه، ويعبر هؤلاء الباحثون بطبيعة الحال عن مواقف بلدانهم بطريقة غير مباشرة لا سيما أنهم ينتمون أيضًا إلى مراكز بحثية قريبة من الخط الرسمي لدولهم.
ما أود قوله هنا، أن هؤلاء الباحثين “المرموقين” وإن كانوا أساتذة جامعيون وباحثون، فإنهم يعبرون عن مواقف دولهم ومصالحها بالدرجة الأولى ولا يعبرون عن منطق علمي أكاديمي كما حاول المعدون لهذه الندوات الافتراضية تسويقه للمشاهدين.
أشارت بروباغندا الإمارات في مجال التسويق للاتفاق الثلاثي إلى جملة من الاستنتاجات المهمة التي تعبر عن المصالح الحقيقية للإمارات في اتفاقها مع الاحتلال الإسرائيلي؛ وأهم هذه المصالح:
- المصالح الاقتصادية المتمثلة بالاستثمارات الإماراتية في “إسرائيل” التي قد تزيد على تريليون دولار، إضافة إلى مصالح الغاز والنفط والتكنولوجيا والهايتك والسياحة وغيرها من الفوائد الاقتصادية التي ستجنيها دولة الإمارات جراء الاتفاق.
- المصالح الأمنية، بحيث يكفل هذا الاتفاق مواجهة الخطر الإيراني والتركي المتصاعد في المنطقة من خلال خلق حلف إستراتيجي قوي ومهم في منطقة الشرق الأوسط يستطيع إعادة توزيع القوى في المنطقة لصالح “قوى الاعتدال” كما تصفها مراكز الفكر الإماراتية.
- الاستقرار في المنطقة ومنع الإرهاب ومحاربة عوامل عدم الاستقرار غير التقليدية مثل الأوبئة والمخدرات وغسيل الأموال وغيرها التي تتطلب تعاونًا فعالًا على مستوى الإقليم.
توسعت هذه السياسة بالحديث عن فوائد التحالف مع “إسرائيل” في حفظ الاستقرار والأمن في المنطقة، متناسية طبيعة الكيان الإسرائيلي التوسعية والعنصرية التي تقوم على أفكار عدوانية بالأساس
من جانب آخر، تشير البروباغندا الإماراتية المتعلقة بالاتفاق الثلاثي إلى وجود العديد من العوامل “المبررة” التي أدت بالإمارات العربية إلى توقيع الاتفاقية مع “إسرائيل” بضمانات أمريكية، وأهم هذه العوامل:
- أن الولايات المتحدة ما زالت مستمرة في سياستها بالمنطقة والعالم بالانسحاب الإستراتيجي التدريجي، وبالضرورة فإن هذا الاتفاق يكفل لها غطاءً قويًا ومستمرًا لمصالحها في المنطقة.
- تطبيق هذا الاتفاق وامتداده ليشمل دولًا أخرى سيؤدي إلى تعزيز الأمن الإقليمي في منطقة مهمة جدًا للمصالح الأمريكية وهو الأمر الذي سيوفر على الولايات المتحدة الوقت والكلفة في حفظ هذه المصالح على المدى البعيد.
- هناك قضايا أخرى أصبحت أكثر أهمية في منطقة الشرق الأوسط من القضية الفلسطينية، لا سيما بعد الربيع العربي وانتشار الإرهاب والحروب الأهلية والتدخل التركي والإيراني في المنطقة، وهذا يلقي بظلاله على الدوافع الحقيقية للإمارات في الوصول إلى صيغة تعاون مع دولة إقليمية مهمة وهي “إسرائيل” من أجل مواجهة هذه المشاكل الإستراتيجية.
- رغبة الإمارات العربية في وقف عملية الضم التي كانت حكومة “إسرائيل” تنوي القيام بها لمنطقة الأغوار بما يهدد عملية السلام وبالنتيجة يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي.
كما تشير نفس السياسة الإعلامية الإماراتية للترويج إلى الاتفاق إلى أن أهم انعكاسات هذا الاتفاق ستشمل التالي:
- تغيير خريطة توزيع القوى في منطقة الشرق الأوسط لصالح المحور العربي الإسرائيلي ضد المحور الإيراني الشيعي وضد المحور التركي القطري.
- قيام العديد من الدول العربية باتباع الخطوة الإماراتية وتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” والدخول في المحور العربي الإسرائيلي.
- انتقال منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة جديدة من التنمية والاستقرار تمامًا كما حدث مع دول جنوب آسيا ودول شرق أوروبا.
- عملية التطبيع مع “إسرائيل” ستزيد من أوراق الضغط التي تمتلكها الدول العربية للضغط على “إسرائيل” وستؤدي هذه الأوراق لاحقًا إلى الضغط على “إسرائيل” من أجل حملها على منح “الفلسطينيين حقوقهم”.
في الواقع، أستطيع طرح العديد من الملاحظات المنهجية والعلمية والإستراتيجية على هذه السياسة البروباغندية المتعلقة بالترويج للاتفاق الثلاثي، ومن أهم هذه الملاحظات:
أولًا: توسعت هذه السياسة بالحديث عن فوائد التحالف مع “إسرائيل” في حفظ الاستقرار والأمن في المنطقة متناسية طبيعة الكيان الإسرائيلي التوسعية والعنصرية التي تقوم على أفكار عدوانية بالأساس، وبالضرورة يمكن أن تكون فوائد أي تعاون مع أي دولة فوائد عظيمة، لكنها مع كيان صهيوني توسعي كما هو الحال بالكيان الإسرائيلي، فإن التعاون سيؤدي إلى تحفيز هذا الكيان لفرض مزيد من الابتزاز السياسي وربما العسكري في مرحلة مقبلة على الإمارات، لا سيما أن فارق القوة واضح وكبير لصالح الكيان الإسرائيلي.
ثانيًا: اشتملت عقلانية العلاقات الدولية في هذه السياسة على حسابات الربح والخسارة للدول، وهو أمر منطقي ويشكل أساس النظرية السياسية في العلاقات الدولية، لكن هذا النموذج “العقلاني” كما هو معروف في النظرية الغربية لا يمكن أن يصلح في تفسير سلوك الدول والجماعات في سعيها للحفاظ على القيم العظمى مثل الحرية والكرامة والقومية والعدالة وغيرها من القيم التي لطالما عجزت النظرية السلوكية وما بعد السلوكية عن وضع محددات عقلانية لهذا السلوك.
بالمحصلة فإن الدول والجماعات لا تقوم في العادة بحسابات الربح والخسارة إذا تعلق الأمر بالحفاظ على حريتها والسعي لنيلها للاستقلال، وللتدليل على ذلك فضمن حسابات الخسارة والربح لا يمكن لأي ثورة شعبية أن تقوم وتنجح بعيدًا عن النموذج العقلاني الغربي ضد المستعمر القوي كما حدث في الثورة الجزائرية أو الثورة الهندية. وعلى ما سبق، فليس على الفلسطيني أن يقبل بالتغير في موازين القوى الإقليمية ويرضخ لشروط الاحتلال حتى لو كان فارق القوة كبير جدًا لصالح الاحتلال لأن المسألة تتعلق بقيمة التحرر من الاحتلال.
في الوقت الذي استند المنطق الإماراتي في بروباغندا التطبيع على أهمية الاتفاق الثلاثي وتحميل الفلسطينيين مسؤولية رفضه، لم يتم تناول صفقة القرن باعتبارها تمثل سقف التسوية السلمية المنصوص عليها في الاتفاق
ثالثًا: تفترض هذه السياسة البروباغندية أن الاتفاق الثلاثي سيؤدي إلى إعادة توزيع خريطة القوى في منطقة الشرق الأوسط لصالح محور التحالف العربي الإسرائيلي مقابل المحاور المعادية (التركي والإيراني)، إلا أن هذا الطرح ليس محل توافق في نظرية التوازن بالعلاقات الدولية، لأن الفجوة في القوة لصالح محور ضد الآخر قد تؤدي إلى عدم الاستقرار، حيث تقوم القوى الأضعف في العادة بالعمل على فرض معادلة قوة جديدة وإحداث خلل في توازن القوى لصالحها، وهو الأمر الذي سيعيد الإقليم إلى المنطقة الأولى من الصراع، لكن هذه المرة سيكون الصراع بين القوى الإقليمية الكبرى في إقليم الشرق الأوسط، وهو صراع سيكون مدمرًا على الصعد كافة.
رابعًا: تستند السياسة الإماراتية البروباغندية في مشروعيتها على نجاح اتفاقية التطبيع الإمارتية الإسرائيلية في وقف الضم دون التنويه إلى أنه تعليق مؤقت للضم وليس وقفه أو إلغاؤه وفي هذا مغالطة منهجية وواقعية، فنص الاتفاقية صريح وواضح، كما أن تصريحات الحكومة الإسرائيلية أيضًا واضحة بأن الاتفاق أخرج الضم من فوق الطاولة السياسية “طاولة المفاوضات والعمل السياسي”، لكنه يمكن أن يعود إلى الطاولة إذا توافرت الظروف، وقد تتحقق هذه الظروف في حالات ثلاثة، الأولى: تحقق الإرداة الأمريكية بإعطاء الضوء الأخضر للإسرائيليين بإجراء الضم، والثانية: إذا تلكأ الإماراتيون بتنفيذ إجراءات وبنود التطبيع غير المعلنة إلى الآن، والثالثة: إذا استمر الفلسطينيون في رفضهم للرضوخ للشروط الإسرائيلية والأمريكية المتعلقة بصفقة القرن.
خامسًا: في الوقت الذي استند المنطق الإماراتي في بروباغندا التطبيع على أهمية الاتفاق الثلاثي وتحميل الفلسطينيين مسؤولية رفضه، لم يتم تناول صفقة القرن باعتبارها تمثل سقف التسوية السلمية المنصوص عليها في الاتفاق، وبالضرورة فإن موضوعات القدس واللاجئين والدولة الفلسطينية كاملة السيادة مسقطة أصلًا في الاتفاق، وهو الأمر الذي تحاشى فيه هذا المنطق عن الغوص في غماره لدرجة أن لا يوجد بين ثناياه بتاتًا اي شيء عن صفقة القرن!
يمكن الاستنتاج بأن البروباغندا الإماراتية لتسويق الاتفاق الثلاثي لا تستطيع أن تصمد أمام الحقائق في إقليم الشرق الأوسط
سادسًا: حاولت البروباغندا الإماراتية تسويق موقف الإمارات بأنه منسجم مع المبادرة العربية للسلام التي صدرت عام 2002 وتجاهلتها “إسرائيل” وقتها، وهي مبادرة قامت بالأساس على منطق التطبيع مقابل السلام القائم على قرار 242، وفي الواقع، فإن هذه الاتفاقية هي خروج حقيقي وصريح عن المبادرة العربية للسلام، وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بعد التوقيع عليها مباشرة أنه نجح في فرض معادلة جديدة للسلام مع العرب وهو السلام المفروض بالقوة وليس السلام مقابل الأرض، وفي المحصلة فإن مرجعية المفاوضات في الاتفاق الثلاثي هي صفقة القرن وهذه الصفقة لا تقوم على أي مرجعية دولية وإنما على مبدأ الوقائع على الأرض كما يصفها عرابها كوشنر.
سابعًا: تسوق البروباغندا الإماراتية الاتفاق الثلاثي على كونه اتفاقًا بين دولتين قويتين اقتصاديًا وعسكريًا في المنطقة، لكنها لا تفصح عن ماهية التشابه بين الدولتين من حيث الطبيعة الاستعمارية والسياسة الخارجية الطائشة، فالإمارات العربية دولة تحتل أجزاءً كبيرةً من اليمن، تمامًا كما تفعل “إسرائيل” في الأراضي الفلسطينية، والإمارات العربية أيضًا ترتكب العديد من الحماقات العسكرية في ليبيا والعراق وسوريا كما تفعل “إسرائيل” في نفس هذه البلدان، وبالضرورة فإن طبيعة النظامين السياسيين في “إسرائيل” والإمارات تتشابه في الغوغائية المفرطة في العلاقات الخارجية، وتفقد هذه الطبيعة الاتفاق من أي أساس شرعي لوجوده إلا التحالف العسكري ضد الشعوب المقهورة في المنطقة العربية.
بناءً على ما سبق، يمكن الاستنتاج بأن البروباغندا الإماراتية لتسويق الاتفاق الثلاثي لا تستطيع أن تصمد أمام الحقائق في إقليم الشرق الأوسط، وتتمثل هذه الحقائق بشرعية الوجود الفلسطيني وهويته التي تناضل من أجل التخلص من الاحتلال الإسرائيلي.
ولن تكون هذه البرباغندا بتاتًا قادرة على إقناع الشعوب العربية ولا حتى شعوب العالم بأن “إسرائيل” دولة طبيعية في المنطقة، وفي المحصلة النهائية تبقي “إسرائيل” دولة احتلال في وعي الجماهير العربية، وتبقى الدولة الفلسطينية والقدس واللاجئين حقوقًا ثابتة في منظومة القانون الدولي وفي وعي الشعوب المتحفزة للثورة على قوى الاستعمار والعنصرية والظلم.