لو قدر لهذا العنوان أن يكتب وينشر باللغة الإنجليزية والأوساط الغربية، لواجه أنواع الاتهامات بالانحياز العنصري! فاستخدام كلمة الشذوذ بحق المثليين، يعتبره نشطاء اضطهادًا وتعديًا على الحرية الشخصية، وحتى تعبير الشذوذ الجنسي يترجمها غوغل بمثل كلمة المثلية “homosexuality”، في حين أن كلمة شذوذ تعني “Anomaly”، ويبدو أن غوغل لا يريد التعرض لنفس الهجوم الذي شنه مفوض الاتحاد الأوروبي في تقريره عام 2015 عن الحرية الجنسية، وهو نفس التقرير الذي كتبه عام 2011 ويقول فيه: “تحرم بعض منظمات مجتمع الميم من التسجيل أو تمنع من تنظيم اجتماعات ومظاهرات سلمية في أوروبا. تخضع حرية التعبير للمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية والخناثى لقيود غير مبررة. هرب العديد من الأشخاص من مجتمع الميم إلى الدول الأعضاء في مجلس أوروبا من دول لا تتمتع فيها حقوق الإنسان بالحماية وقد يتعرضون لخطر التعذيب أو الإعدام بسبب ميولهم الجنسية أو هويتهم الجنسية، لكن القادة لا يقومون بما يلزم لحمايتهم وهذا انتهاك لحقوق الانسان”.
سدوم وعمورة.. أليس فيهم رجل رشيد؟
تتفق الديانات الثلاثة التي يتبعها أكثر من نصف سكان العالم أن قرى سدوم وعمورة – البحر الميت حاليًّا – كانت قرى الخطيئة التي تمارس الشذوذ على نطاق واسع في حدود العام 2000 قبل الميلاد، يشير القرآن صراحة أن تلك القرى كانت أول من ابتكر هذا النوع من العلاقة: “ما سبقكم بها من أحد من العالمين”، تقول سورة الأعراف عن القوم، وبعيدًا عن العقوبة التي حلت بهم، التي تقول بعثة من جامعة كولورادو الأمريكية فحصت بقايا الآثار في المكان إن هناك أدلة تشير إلى وقوع انفجار كبير هدم البنايات هناك خلال ثوان معدودة، فإن قضية الشذوذ ظلت إلى حد منتصف القرن الماضي ممارسة سرية لا تظهر للعيان في كثير من الأحيان، فهي لم تنقطع وبقيت وإن بنطاق محدود.
ماذا حصل إذن؟ بدأ الأمر مع تأثر الزواج بالتطور الصناعي، في كتابه “100 سنة قادمة” يقول الكاتب الأمريكي الألمع جورج فريدمان إنه ومع نهاية القرن التاسع عشر بتوسع الرأسمالية والثورة الصناعية الباحثة عن موظفين بأجر، تحول مركز الإنتاج من العائلة إلى المصنع، “لقد كانت الزراعة والتجارة وغيرها تعتمد كثيرًا على عدد أفراد الأسرة، بالتالي فإن الزواج والإنجاب لم يكن مسألة تتعلق فقط بالشهوة الجنسية، إنما كان لها بعد اقتصادي” يقول فريدمان.
“مع ظهور الثورة الصناعية، تحولت المعادلة بالكامل، أصبح وجود الكثير من أفراد الأسرة عبئًا لا مصدر ربح كما السابق، وبالتالي صار الناس يكتفون بطفل واحد، وهكذا فقد الزواج جانبًا اقتصاديًا أعطاه قيمة مضافة على مدى قرون”.
مركز التحكم الرئيسي انتقل من الدولة التي تميل لحماية القيم، إلى منطق الربح الذي يهدم كل ما يقف أمامه
مع توسع العمل وإزاحة وحدة الأسرة الإنجابية كمركز للإنتاج الذي يحافظ على الحياة، فإن الزواج لم يتلاش، في الواقع، ظل الزواج مهمًا جدًا في تنظيم المجتمع، لكنه معناه تغير وأصبح موقعًا للوفاء العاطفي الشخصي. في هذه الأثناء، عندما لا يعود الأطفال ضروريين للبقاء على قيد الحياة، فإنهم يبدأون في تمثيل الحب الأسري والسعادة المنزلية، لا معيارا لقوة الأسرة.
في كتابه “السياسة الجنسية، المجتمعات الجنسية: تكوين أقلية مثلي الجنس في الولايات المتحدة: 1940-1970”، وهو أكثر الكتب التي بحثت عميقًا في قضية الشذوذ، يرى الكاتب جون دي إيميليو عن صعود الشذوذ في القرن العشرين أن التغييرات الحاصلة في الظروف المادية للحياة أدت لتطوير مفاهيم أيديولوجية مختلفة للزواج والأسرة والحميمية والجنس، “مع مرور الوقت لا يقتصر الأمر على الاختيار والجاذبية والرغبة في تحديد كيفية زواج معظم الناس بشكل مركزي فحسب، بل يصبح الزواج نفسه أقل أهمية للناس للتعبير عن هذا الحب وفعال” يقول دي إيميليو.
يوضح الكاتب أن الطفرة الحقيقية حصلت خلال الحرب العالمية الثانية، يؤخذ 16 مليون شاب بعيدًا عن عائلاتهم، بعيدًا عن مدنهم وأحيائهم، بعيدًا عن كل ما عرفوه، ويوضعون في بيئة من الذكور فقط، وهو ما يصنع الكثير من النشاط الجنسي بينهم، وإضافة لذلك، هذا العالم من الشباب يخلق أيضًا مساحة للتعبير عن المثلية الجنسية في الخفاء. في هذا السياق، يكون الرجال الذين لديهم انجذاب قوي إلى الرجال الآخرين أكثر قدرة على العثور على بعضهم البعض بسهولة.
يضيف دي إيميلو: “إذن لديك أعداد متزايدة من الأشخاص في عالم ما بعد الستينيات يعيشون معًا لأجزاء من حياتهم قبل الزواج أو ربما لم يتزوجوا أبدًا، وهو ما لم يكن صحيحًا قبل قرن من الزمان. ليس من المصادفة أن تعمل النساء أيضًا مقابل أجر، في النهاية، ينتهي الأمر بموقف يكون فيه العديد من الأسوياء في علاقات حميمية دون زواج أو إنجاب أطفال مما يفتح مساحة أكبر لتخيل بناء حياة حول الانجذاب من نفس الجنس، لأن العلاقة الحميمية لم تختلف عن المثلية الجنسية”.
في فترة السبعينيات – في نهايتها تحديدًا – يحصل تغيير مهم، أدى فشل التيار الكينيزي من الرأسمالية، إلى صعود التيار النيوليبرالي، كان ميلتون فريدمان وفريدريك حائك، المبشرين بعالم تكون فيه السلطة لرؤوس الأموال لا الحكومات، وهو ما حصل.
يبني التيار النيوليبرالي نظرته للاقتصاد وبالتالي المجتمع ضمنًا، على أساس تحكم الشركات العملاقة وليس الدولة. في حقبة الثمانينيات، ينجح التيار بإيصال رئيسين مهمين: مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في أمريكا، صاحب المقولة الشهيرة: الدولة هي المشكلة وليس الحل. لكن مالذي يعنيه هذا؟
أصبح يعني أن مركز التحكم الرئيسي انتقل من الدولة التي تميل لحماية القيم إلى منطق الربح الذي يهدم كل ما يقف أمامه، تعتمد النيوليبرالية أصلًا على التحرر من كل القيود كما يوضح فريدريك حايك في كتابه “الطريق إلى العبودية”، بالتالي فإن الاستقلال المالي الذي تمنحه الرأسمالية بتحديثها النيوليبرالي الجديد، تؤدي وإن كان عرضًا لتفتيت أهم كيان في المجتمع: الأسرة.
القيم الأخلاقية.. سقوط بالضربة القاضية!
مع صعود الليبرالية شيئًا فشيئًا، لم يكن من الصعب معرفة أين يتجه العالم في منظومة القيم المعرفية. الغريب أن الدكتور عبد الوهاب المسيري تنبأ خلال رسالته للدكتوراه في جامعة روتجرز بالولايات المتحدة الأمريكية في تسعينيات القرن الماضي، بانعطاف الممارسة الجنسية في الغرب نحو “المثلية”، بل وتوقع حتمية هذا الانحراف واصفًا إياه بـ”الانحراف الجنسي البروتستانتي”.
الوصول لهذا القعر المنحط في نقاش قضية تميز الإنسان عن باقي المخلوقات يكشف القاع الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية في منظومة القيم
يقول المسيري إن الحضارة الغربية تعتمد على اللذة كمعيار للقيمة، لكن العلاقة وفق هذا المعيار تصبح مشكلة، لأنها تتجاوز مسألة اللذة إلى تبعات أخرى منها الإنفاق والإنجاب وتكوين الأسرة أو حتى في نوع علاقات المواعدة التي تسمى “dating”، يظل الالتزام والارتباط سمة أساسية فيها وتكون مقدمة للزواج دائمًا وبالتالي نحن نتحدث عن ثوابت الآن.
في كتابه “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان”، يقول المسيري إن الإنسان في وجهة النظر الغربية المعاصرة كيان مستقل أحادي بعيد عن منظومة الأسرة أو المجتمع، وهو في المقابل مجموعة من الحاجات المجردة التي تحددها الرأسمالية واللذة، ويظهر الهجوم على الطبيعة البشرية هنا في المفهوم الجديد للأقليات الذي يروجه النظام الدولي الراهن وهيئة الأمم المتحدة وبعض المنظمات التي تدور في فلكهما، فالجماعات الدينية الصغيرة أقلية، والجماعات الإثنية الصغيرة أقلية، والشواذ جنسيًا والنساء أقلية، والمعاقون أقلية، والمسنون أقلية، والبدينون أقلية، والأطفال أقلية، وكل واحد من هؤلاء له حقوق مطلقة.
وفق هذا يطرح المسيري أن النتيجة النهائية من ذلك كله تحول فكرة المجتمع إلى أمر مستحيل، فلا يوجد عقد اجتماعي ثابت، وإنما تصبح النسبية هي الأصل ولا يعد للمعايير المطلقة التي يمكن قياس الأشياء عليها أي وجود، ومع تحول النسبية لتكون هي الأصل، لن يكون بانتظارنا إلا الفوضى، يقول المسيري.
رغم ذلك، لم يكن طريق الشواذ مفتوحًا بالكامل حتى في المجتمعات الغربية، ربما كانوا يستفيدون من مبادئ الحرية والحقوق المدنية وما كانت تفعله النيوليبرالية، لكن ذلك لم يكن كافيًا، فاتبع الشواذ طرقًا أخرى في إثبات وجودهم وتحولوا إلى جمعيات وتجمعات تشبه مؤسسات المجتمع المدني تقول رأيها في حقوق المرأة وتدين غزو العراق وتستنكر انتهاك حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وغير ذلك، كانت الإستراتيجية مقصودة، إثارة الضوضاء والشوشرة بشأن فكرة جديدة، يسهل تقبلها حتى لو كان الجميع ضدها، تعرض الأمر للنقاش على نطاق واسع، من بينها أن حقوق الشواذ لا يمكن إخضاعها للنقاش كونها مسألة جينية بحتة لا دخل للإنسان فيها وبقيت هذه الفكرة سدًا منيعًا حتى دحضته أكبر البحوث في التاريخ الطبي، بعدما كشفت دراسة نشرتها مجلة “nature”، شملت نصف مليون جين أن الجينات لا علاقة لها بالميول الجنسية ولا تحدد كون المرء شاذًا من عدمه إنما العوامل النفسية والبيئية والاجتماعية.
بالمجمل، تطرح قضية الشذوذ سؤالًا جوهريًا عن مدى الهدم الذي تتعرض له القيم المعرفية، وإلغاء أي ثابت في تلك القيم حتى لو كان قضية يجمع عليها الأسوياء! إن الوصول لهذا القعر المنحط في نقاش قضية تميز الإنسان عن باقي المخلوقات يكشف القاع الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية في منظومة القيم، وإذا كانت سدوم وعمورة مضرب المثل في الفاحشة والرذيلة، لا عجب أن يقام لهم نصب تذكاري قريبًا، ليمثلوا التحرر والحقوق هذه المرة، فعلًا.. إنها لا تعمى الأبصار.. ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!