في الـ13 من أغسطس/آب الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حدثًا استثنائيًا بخصوص منطقة الشرق الأوسط: دولة خليجية جديدة، في طريقها إلى التطبيع مع دولة الاحتلال، وهي الإمارات.
باستثناء الأوساط الرسمية التي روجت لعبارات خطابية عن دعم السلام في المنطقة، أو وقائع غير حقيقية مثل مساهمة الاتفاق المرتقب في تعطيل خطة الضم، فقد اعتبرت معظم الأصوات العربية والإسلامية هذه الخطوة حدثًا مشينًا، وسنةً سيئةً، سيكون لها تبعاتها السلبية على مستقبل تطلعات الشعوب العربية عامة والشعب الفلسطيني خاصة، نحو التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية.
انتقادات رغم القمع
بعض المؤسسات والاتجاهات العربية والمصرية، حرصت على تسجيل رفضها لهذا الإعلان وتفنيده وإظهار عواره، رغم مما تتعرض له من قمع وتضييق داخلي وعواقب قد تنتظرها، خاصة أنها تخالف بذلك الخط السياسي الرسمي الذي هرول لمباركة الإعلان.
نشر حزب العيش والحرية، تحت التأسيس، الذي اعتُقل عدد كبير من قادته ورموزه في قضية “تحالف الأمل” مقالًا مطولًا يناقش، تاريخيًا، العلاقة العكسية بين تمدد رقعة الحريات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، وتقلص قدرة الأنظمة الحاكمة على التقرب من دولة الاحتلال، خوفًا من ردات فعل الجماهير وممثليهم في البنى الاجتماعية الأساسية.
كما أشار البيان إلى التشابه بين البنى السياسية والاقتصادية والنفسية للنخب الحاكمة العربية في علاقتها مع الشعوب، خاصة بعد تمكن هذه النخب من إفشال مشروع الربيع العربي إلى حد كبير، وبين علاقة دولة الاحتلال بالشعب الفلسطيني، قمعًا وعزلًا واستغلالًا للثروات، ومن ثم، كان التقارب وفق هذه الأطروحة، قادمًا لا محالة، في ظل رحيل الراعي الإمبريالي الأكبر عن المنطقة: الولايات المتحدة.
في عز سطوة السادات واستبداد مبارك، كان لشيوخ الأزهر مواقفهم الحاسمة تجاه نصرة القضية الفلسطينية ورفض الاحتلال
ونشر المرشح الرئاسي الأسبق حمدين صباحي، باسم أعضاء الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين، بيانًا يطالب فيه زملاءه بالجمعية بالاستمرار على موقفهم المناهض للتطبيع مع الاحتلال، مذكرًا إياهم بالمواقف المشرفة السابقة لأعضاء النقابة في رفض التعامل مع الاحتلال منذ “كامب ديفيد”، معتمدًا في طرحه على ما تبقى من استقلال هامشي لهذه النقابات يمكنها من ردع مروجي التطبيع داخل أروقتها، خاصة أننا صرنا أمام تطبيع بلا مقابل، حسب نص البيان.
بيان الأزهر الغائب
في ظلِ هذا الزخم غير الرسمي المناهض لإعلان التطبيع المرتقب، كان الجميع منتظرًا بيان الأزهر الشريف، حتى لو كان بيانًا شكليًا لذر الرماد في العيون.
فقضية فلسطين، على تعدد تعريفاتها وزوايا النظر إليها، عربية وإسلامية، القدس والأقصى، الموقف الأخلاقي ومناهضة الاستعمار، تفنيد الشبهات اليهودية، كانت دائمًا في صُلب اهتمامات المشيخة وشيوخها، في كل محطاتها، بغض النظر عن سقف الحرية المسموح داخليًا.
نذكر من ذلك على سبيل المثال، عام 1935، فتوى العالميْن الجليليْن، محمد رشيد رضا وأمين الحسيني، بتحريم بيع الأراضي العربية والفلسطينية لليهود، وإصدار الشيخ حسنين مخلوف فتوى وجوب الدفاع عن فلسطين بالنفس والمال عام 1948.
وفي عز سطوة السادات واستبداد مبارك، كان لشيوخ الأزهر مواقفهم الحاسمة تجاه نصرة القضية الفلسطينية ورفض الاحتلال، كما رفض الشيخ عبد الحليم محمود زيارة القدس تحت الاحتلال بصحبة السادات، ورفض الشيخ جاد الحق لقاء الرئيس الإسرائيلي عزرا وايزمان في عهد الرئيس مبارك.
حتى شيخ الأزهر الحاليّ أحمد الطيب، كانت له مواقفه الطيبة تجاه القضية الفلسطينية، مثل إصداره “وثيقة القدس” التي تفند الادعاءات اليهودية عن هذه المدينة المقدسة عام 2011، وإحيائه ذكرى النكبة في الـ15 من مايو كل عام، ورفضه مقابلة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، عقب قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
لكن ما حدث هذه المرة تجاه إعلان التطبيع كان مختلفًا تمامًا، فقد خيَم الصمت العام على موقف الأزهر، دون بيان شكلي أو مقال نقدي أو خطاب تعبوي، مع الأخذ في الاعتبار أن مشروع الاتفاق الذي سيجري توقيعه خلال أسابيع، وربما أيام، في البيت الأبيض، يتضمن مراوغةً إسرائيلية جديدة تجاه المسجد الأقصى، حيث تنص الأطروحات المنتشرة على السماح للعرب بالصلاة داخل حيز ضيق جدًا لا يتضمن كل البقاع المقدسة، كما سيكون الدخول للقدس عبر تأشيرة إسرائيلية بالطبع.
لم يكتفِ الأزهر بالصمت، لكنه، وللمفارقة، ندد بردود الفعل الشرعية القادمة من القدس حيال اعتبار صلاة الإماراتيين في المسجد الأقصى محرمةً، وهي الفتاوى التي تبدو من ظاهرها الرغبة في “الردع الشرعي” من جهة، صيانةً لما تبقى من القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية، كما يبدو منها أثر الصدمة من تدافع النشطاء الإماراتيين على مواقع التواصل للتعبير عن رغبتهم للصلاة في الأقصى تحت سلطة الاحتلال، وقد عرَض وكيل شيخ الأزهر في بيانه المندد بالفتاوي المقدسية بالعلاقات القطرية والتركية، بالاحتلال، كما لو كان بوقًا إماراتيًا يتلقى بياناته من المؤسسة الدينية الرسمية في أبو ظبي.
الحماية والاستعمال
حتى نفهم موقف الأزهر الأخير من إعلان التطبيع الإماراتي مع “إسرائيل”، ينبغي لنا الإشارة إلى المعادلة الثلاثية التي نشأت بين الطيِب وأبو ظبي والسيسي خلال السنوات الماضية.
تحتاج الإمارات إلى الدعم الديني من إحدى المؤسسات السنية المهمة في حربها على الإخوان المسلمين حتى لا يتهمها العالم الإسلامي بالحرب على الدين، كما تحتاج مؤسسةً تجابه “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” الذي يرأسه الشيخ القرضاوي في عاصمتها اللدود، الدوحة، بالإضافة إلى حاجتها لنفس المؤسسة كي تبني سرديتها الدينية الرسمية الملائمة لدورها السياسي عن: التسامح والسلام والإخاء العالمي بين الأديان الثلاث الكبرى.
ستصبح دار الإفتاء شخصيةً اعتبارية مستقلةً عن الأزهر، لها ميزانيتها ومقارها، مع اضطلاعها بمعظم أدوار الأزهر الرئيسة
قبل الطيب منذ عام 2013 لعب هذا الدور المشبوه للإمارات، مدفوعًا بكراهيته لجماعة الإخوان التي يختلف معها في بعض التفاصيل العقدية، وخوفه من نفوذها الذي خشي أن يتمدد حينئذ لحد الإطاحة به، باعتباره أحد رموز نظام مبارك، بالإضافة إلى الامتيازات المالية والهالة الرمزية الضخمة التي منحها له أبناء زايد.
في الفترة منذ أبريل/نيسان 2013 حتى عام 2020، حصل الطيب من الإمارات على ترسانة ضخمة من الجوائز والتكريمات الرمزية، ذات الصبغة السياسية بالطبع، التي تقدر قيمتها بآلاف، إن لم تكن ملايين الدولارات، في المقابل، فقد أدى الطيِب دوره كبوابة للقوى الناعمة الإماراتية في مصر، ومنفِذًا لأطروحتها السياسية في شقها الديني بكفاءة، معززًا علاقاته بأكبر قياداتها الرسمية: محمد بن زايد وعبد الله بن زايد ومحمد بن راشد آل مكتوم، فضلًا عن قيادات الصف الثاني من مديري المؤسسات الدينية شبه الرسمية مثل مجلس حكماء المسلمين ومجلس السلم وغيرها.
تطورت هذه العلاقة في فترة متأخرة من حكم السيسي من الدعم والدعم المقابل، إلى منطق الاستعمال مقابل الحماية، فالسيسي يرغب في القضاء على أي جهة أو مؤسسة أو شخص لا ينصاع لأفكاره وأوامره بحذافيرها، بما في ذلك شيخ الأزهر الذي يعارض بعض أطروحاته الهوجاء عن تجديد الخطاب الديني، لكن الإمارات دأبت على التدخل في اللحظات الأخيرة لفض الاشتباك وحماية الإمام، فيزداد الطيب طيبةً وإخباتًا وانصياعًا لحماة كرسيه في أبو ظبي.
حرب الإمام والرئيس التي يخمدها أبناء زايد كل مرة، باتت راسخة ومعروفة في المشهد السياسي المصري، وقد خرجت على الهواء في مناسبات كثيرة. بالنسبة للإمارات، فإن كفة خدمات الطيب التي يسديها إليها ترجُح إذا قورنت ببعض تحفظاته الدينية التي قد لا تروق إليها باعتبارها واحةً للإسلام المعتدل وقبلةً للتنوير، وبالنسبة للسيسي، فإن التدخلات الإماراتية في القرار المصري لمنع إطاحته بشيخ الأزهر مشروعة، بالنظر إلى دور أبو ظبي في تنصيبه وتمكينه من حكم مصر.
آخر فصول صراع القط والفأر بين السيسي والطيب، كان عندما حاول بعض البرلمانيين المقربين من السيسي تفصيل قانون يسحب البساط من تحت أقدام الطيب، ليمنحه للإفتاء، ومن بعدها الأوقاف، فبموجب القانون المقترح، ستصبح دار الإفتاء شخصيةً اعتبارية مستقلة عن الأزهر، لها ميزانيتها ومقارها، مع اضطلاعها بمعظم أدوار الأزهر الرئيسة بدايةً من شؤون المسلم اليومية كتحديد مواقيت الصلاة والأهِلة، مرورًا بالاستشارات الاجتماعية، وصولًا إلى تخريج الدعاة والبت في القضايا الدينية الخلافية.
دأبتِ الإمارات على ترويج أجندة متكاملة ومعجم لغوي وقيمي مضاد وبديل للتصورات التقليدية عن الدين التي تعزز بقاء الصراع العربي الإسرائيلي
في السابق، عندما كان السيسي يحاول الإطاحة بالطيب أو تنفيذ “إصلاحات دينية”، على غرار إصدار قرار رئاسي بمنع الطيب من السفر أو تقليص مدد بقاء شيخ الأزهر في منصبه خلال التعديلات الدستورية أو محاولة تمرير قانون ضبط الطلاق الشفوي أو مساواة المرأة بالرجل في الميراث، كانتِ المشكلة تُحل قبل تنفيذ الطيب وعيده المتجدد بـ”الحديث للأمة”، وللإمام سطوته ومريدوه، عبر زيارة من أو إلى أبو ظبي، أما هذه المرة، فقد سحب القانون من البرلمان مؤقتًا، عقب صمت الإمام على إعلان التطبيع.. فهل ذلك محض صدفة؟
اللعبة الكبرى
أفلت الإمام مؤقتًا، بحماية إماراتية، من مخططات الرئيس، وشكره ضمنيًا على “احترام الدستور”، في إشارة جديدة إلى الصراع المكبوت بينه وبين السيسي، لكن هذه الحماية ليست مجانية ولها ثمنها، فالاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، باعتباره إستراتيجية متكاملة لدمج دولة الاحتلال في النسيج العربي وتصفية القضية الفلسطينية، يضم، بطبيعة الحال، شقًا ناعمًا كبيرًا، يرتبط بتطويع الدين لخدمة هذا المشروع الكبير.
على مدار أعوام، دأبت الإمارات على ترويج أجندة متكاملة ومعجم لغوي وقيمي مضاد وبديل للتصورات التقليدية عن الدين التي تعزز بقاء الصراع العربي الإسرائيلي (ما لم يحل حلًا عادلًا) عن: التسامح والسلام والمحبة والتعايش والانفتاح والحوار ونبذ التطرف واحتضان الأديان الكبرى، كما أصدرت العام الماضي في هذا السياق وثيقة الأخوة الإنسانية، بحضور شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان.
اللافت هنا أن هذه المساعي الإماراتية الأخيرة تتقاطع مباشرةً مع الشق الناعم في مشروع التطبيع العربي الإسرائيلي عبر صهر الأديان، فيما يعرف بمدرسة “الدبلوماسية الروحية” التي يتبناها الاحتلال لتحقيق هدفين: الدمج بين اليهودية من جهة، وبين الإسلام والمسيحية من جهة أخرى، وبين العبرية والعربية، مع التأكيد على ضرورة حل النزاعات التاريخية عبر “إعادة الحق لأصحابه” تاريخيًا، تحت شعار:”صهر الأديان الإبراهيمية”، بدا هذا الشق الديني واضحًا في تسمية الاتفاق بإعلان “إبراهام” وبالتسامح الإسرائيلي المفخخ تجاه صلاة العرب في الأقصى.
المنتَج الأخير لهذا التصور، انصهار الأديان وإعادة الحق لأصحابه (اليهود)، هو تصفية القضية الفلسطينية التي حالت لعقود دون التطبيع بين العرب ودولة الاحتلال، نظريًا عبر ما يعرف بـ”صفقة القرن”، المدعومة خليجيًا بشكل عام وإماراتيًا بشكل خاص، أو من خلال الإجراءات الأحادية التي تنفذها “إسرائيل” تباعًا على الأرض، على غرار إعلان القدس عاصمة موحدة للاحتلال، ومخططات ضم الضفة الغربية.
ويؤدي الطيِب دورًا وظيفيًا في هذه الخطة، عبر ترويجه المستمر للإمارات وانخراطه في مشاريعها التي تهدف لانصهار الأديان الإبراهيمية وفق ما يخدم الرواية الإسرائيلية قاصدًا أو دون أن يدري، وصولًا إلى صمته السلبي عن الإعلان الأخير، مقابل الحماية والحفاوة الإماراتية، ونكايةً في الإخوان وداعميهم، لكن ترى هل يستحق ذلك المقابل الضئيل كل هذه التضحيات التي يندى لها الجبين، التي يبدو أنها مستمرة؟