ترجمة وتحرير: نون بوست
قائمة سريعة: من بين الأشياء العديدة التي قد تشعر بها بكثرة هذه الأيام، هل يعد الملل أحدها؟ قد يبدو الأمر وكأنه شيء يجب التنصل منه تلقائيا في وقت تتعثر فيه البلاد. والواقع أن التاريخ الأمريكي يتعقد كل ساعة، لذلك نحن بحاجة إلى الانتباه. لكن الملل، على غرار الكثير من الأحاسيس البشرية المزعجة، يمكن أن يخالج الشخص في أوقات غير ملائمة. ومن بعض النواحي، فإن النسيان النفسي للوباء خلق البيئة المناسبة للإحساس بالملل – أو على الأقل للإحساس بإحباط مزعج مستمر يمكن أن يشبهه كثيرا.
في الأساس، يمثل الملل كما عرَّفه تولستوي “رغبة في تحقيق الرغبات”. وفي وصفه لهذا الشعور الذي يخنق الأطفال أحيانا كالبطانية الخشنة، أوضح المحلل النفسي، آدم فيليبس، هذه الفكرة قائلا إن الملل هو “تلك الحالة من الحياة المعلقة التي تُخلق فيها الفرص ولكنها لا تتطور، ومزاج القلق المستمر الذي يتضمن هذه الرغبة السخيفة والمتناقضة، أي الرغبة في امتلاك رغبة”.
في كتاب جديد بعنوان “خارج جمجمتي: سيكولوجيا الملل“، يصف عالم الأعصاب، جيمس دانكرت، وعالم النفس، جون دي إيستوود هذا الإحساس بشكل جيد على أنه حالة معرفية لها شيء مشترك مع متلازمة طرف اللسان، وهو الإحساس بأن شيئا ما مفقود، على الرغم من أننا لا نستطيع أن نحدد بالضبط هذا الشيء.
إن دانكرت وإيستوود ليسا الوحيدين اللذين قدما تفسيرا للملل. في العقدين الماضيين، ازدهر مجال كامل حول دراسات الملل، مصحوبا بالمؤتمرات والحلقات الدراسية والندوات وحلقات العمل ومجموعة من الأوراق التي تحمل عناوين مثل “البحث عن المعنى: الحنين باعتباره ترياقا للملل” (وهو شعور سبق وأن مررت به) و “تملكني الملل: تناول الطعام للهروب من وعي الذات التي تشعر بالملل” (بالتأكيد مررت بهذه التجربة أيضا). وبالطبع، هناك “قارئ دراسات الملل“، والذي يحمل العنوان الفرعي الممل بشكل مناسب “أطر العمل ووجهات النظر”.
لقد أصبح واضحا أن الملل له تاريخ ومجموعة من العوامل الاجتماعية المحددة، وعلى وجه الخصوص ارتباط وثيق بالحداثة. في الواقع، مثل وقت الفراغ أحد الشروط الأساسية، حيث كان لابد من أن يتحرر عدد كاف من الناس من مطالب العيش ليحظوا بوقت يجب عليهم ملئه.
تواجدت إشارات إلى الملل قبل فترة طويلة من ازدهار هذا المفهوم في منتصف القرن التاسع عشر
في المقابل، ضاعفت الرأسمالية الحديثة من وسائل التسلية والمواد الاستهلاكية، بينما قوضت المصادر الروحية للمعنى التي كانت تُمنح ذات يوم بشكل أو بآخر تلقائيا. تزايدت التوقعات بأن الحياة ستكون مسلية، على الأقل في بعض الأحيان، وأن الناس سيكونون مثيرين للاهتمام – وبالمثل تزايدت خيبة أملهم عندما لم تتحقق توقعاتهم.
في المدينة الصناعية، تم تقسيم العمل والترفيه بطريقة لم تكن موجودة في المجتمعات التقليدية، وكان العمل نفسه في كثير من الأحيان أكثر مللا ومنظما بشكل صارم. علاوة على ذلك، كما يشير العالم السياسي إريك رينجمار في مساهمته في “قارئ دراسات الملل”، غالبًا ما يحدث الملل عندما نكون مضطرين للانتباه، وفي المجتمع الحضري الحديث، كان هناك الكثير مما كان من المتوقع أن ينتبه إليه البشر، مثل صفارات المصنع وأجراس المدارس وإشارات المرور وقواعد المكتب والإجراءات البيروقراطية والمحاضرات التي تقدم بالطرق التقليدية (اجتماعات زوم).
اعتبر شوبنهاور وكيركيغور الملل آفة خاصة في الحياة الحديثة. نشأت روايات القرن التاسع عشر جزئيا كحل لتجربة الضجر، وغالبا ما تحكم الضجر بسير أحداث هذه الروايات. ماذا كانت إيما بوفاري، شخصية الرواية الصادرة في سنة 1856، ستكون إن لم تكن تشعر بالملل من زوجها المماطل والوجود الإقليمي والحياة نفسها عندما فشلت في إظهار الألوان اللامعة للخيال؟
أوبلوموف (ظهرت الرواية التي تحمل نفس الاسم من تأليف إيفان غونتشاروف بعد ثلاث سنوات من رواية جوستاف فلوبير)، هو رجل لا لزوم له يستفيد من المعاش الذي يوفره عقار إقطاعي ويمضي الوقت مع أسرته في صمت كبير ونوبات من التثاؤب اليائس المعدي. على الرغم من أنه كان من الممكن في اللغة الإنجليزية أن تكون “شخصا مملا” في القرن الثامن عشر، إلا أن أولى الأمثلة الموثقة لاستخدام مفردة الملل لوصف شعور ذاتي لم تظهر حتى سنة 1852 في رواية “المنزل الكئيب” لديكنز، والذي عانت منه الشخصية المسماة بشكل ملائم، السيدة ديدلوك.
صنف هايدغر، أحد أبرز واضعي النظريات حول الملل، هذا الشعور إلى ثلاثة أنواع: الملل العادي، على سبيل المثال، عند انتظار القطار؛ واحساس بالضيق لم يربطه بالحداثة أو بأي تجربة محددة بل بالحالة الإنسانية نفسها؛ وفقدان لا يوصف لشيء لا يمكن تسميته ويبدو مألوفا لنا تماما. (ربما يكون هذا النوع الثالث قد قدم بيتا إضافيا جيدا لأغنية بيغي لي “إيز ذات أول ذار إيز؟”).
في حال كنا مدعوين إلى حفل عشاء، يقول هايدغر: “نجد هناك الطعام المعتاد والمحادثة المعتادة على المائدة. لا يعد كل شيء لذيذا فحسب، بل كل شيء يدل على حسن الذوق أيضا”. لم يكن هناك شيء غير مرضٍ في هذه المناسبة على الإطلاق، ومع ذلك، بمجرد العودة إلى المنزل، يأتي ذلك الإدراك غير المرغوب فيه: “لقد شعرت بالملل بعد كل ما شهدته في هذا المساء”.
تواجدت إشارات إلى الملل قبل فترة طويلة من ازدهار هذا المفهوم في منتصف القرن التاسع عشر. استند سينيكا في القرن الأول، إلى حالة من الملل من الحياة، وهي حالة مزاجية تشبه الغثيان، والتي ظهرت من خلال التفكير في السمة الدورية المستمرة للحياة: “إلى متى ستظل الأمور على حالها؟ بالتأكيد سأكون مستيقظا، سوف أنام سأشعر بالجوع، سوف أحس بالبرد والحر. ألا توجد نهاية لذلك؟ هل تسير كل الأشياء في دائرة؟”.
اشتمل تشخيص الملل على عنصر من النقد الاجتماعي- غالبًا للحياة في ظل الرأسمالية
من جهة أخرى، كان رهبان العصور الوسطى عرضة لشيء يسمى الفتور الروحي، وهو “نوع من الارتباك العقلي غير المعقول”، كما كتب الزاهد جون كاسيان في القرن الخامس، حيث لم يكن بإمكانهم فعل الكثير سوى الدخول والخروج من زنازينهم، والتحسر على عدم قدوم “أحد من الإخوة” لرؤيتهم، والنظر إلى الشمس “كما لو كانت بطيئة جدا عند الغروب”.
كما أشار العلماء، فإن الفتور الروحي يبدو كثيرا مثل الملل (الاكتئاب أيضًا)، على الرغم من أنه كان مرتبطا بحكم معين: كان الفتور الروحي يعد إثما لأنه جعل الراهب “عاطلا وغير مفيد لكل عمل روحي”. ومع ذلك، كانت هذه الأوصاف بمثابة نذير استثنائي لشعور سيتم توزيعه لاحقا بشكل أكثر ديمقراطية.
في هذه التجسيدات السابقة، مثل الملل “ظاهرة هامشية محفوظة للرهبان والنبلاء”، كما كتب لارس سفندسن في “فلسفة الملل“. في الواقع، مثل الملل شيئا “يرمز للمكانة”، حيث بدا أنه ابتلاء فقط “لأصحاب المكانات العليا في المجتمع”. هذا مقنع، على الرغم من أنني أشك في أن بعض الأحاسيس الذاتية بالملل تمتلك تأثيرا أكثر جوهرية – مثل الفرح أو الخوف أو الغضب. من المؤكد أن الفلاحين في العصور الوسطى أيضا قد حدقوا أحيانا في الفراغ وتحسروا على حساء الشعير، وتلهفوا للاحتفال التالي للقرية والقليل من فوضى الكرنفالات.
في السنوات الأخيرة، تمت دراسة شيء مثل الملل وتوثيقه في حيوانات غير محفزة، والتي يبدو أنها تجادل ضد كون الملل هو بناء اجتماعي بالكامل. (من المؤكد الملل هو الذي يدفع كلبي المدمن على العمل لسحب مجلة من على طاولة القهوة، بعد التحقق أولا من أن بعض البشر قد رآه، ثم الركض في أرجاء المنزل مع المجلة لكي نلاحقه).
في كتابه “الملل: تاريخ حي”، يقدم بيتر توهي حلاً مفيدًا للنقاش بين أولئك الذين يقولون إن الملل سمة أساسية (أو خلل) للإنسانية وأولئك الذين يقولون إنه نتيجة ثانوية للحداثة. ويدعي بأننا بحاجة إلى التمييز بين الملل البسيط – الذي ربما يكون الناس (والحيوانات) قد اختبروه في بعض الأحيان – و “الملل الوجودي” أي شعور بالفراغ والعزلة الذي يمتد إلى ما هو أبعد من التعب العقلي اللحظي، وهو مفهوم ربما لم يتخلل المعجم العاطفي لكثير من الناس حتى القرنين الماضيين، عندما ساعد الفلاسفة والروائيون والنقاد الاجتماعيون في تعريفه.
عبر التاريخ، اشتمل تشخيص الملل على عنصر من النقد الاجتماعي- غالبًا للحياة في ظل الرأسمالية. وفي هذا السياق، جادل الفيلسوف في مدرسة فرانكفورت ثيودور أدورنو بأن أوقات الفراغ تتشكل أساسا من خلال “الكلية الاجتماعية” – وهي “مقيدة” بالعمل، الذي يمثل نقيضها. وقال أدورنو:” إن الملل هو إحدى وظائف الحياة التي تُعاش في ظل الإكراه على العمل، وفي ظل التقسيم الصارم للعمل”.
إن ما يسمى بوقت الفراغ – الهوايات والعطلات الإلزامية التي تجعلنا نقبل أيام العمل الصارمة في الاقتصاد الرأسمالي- هو في الحقيقة علامة على عدم حريتنا. جادل ديفيد غرايبر، في أطروحته المؤثرة حول “الوظائف التافهة”، يجادل بأن التوسع الهائل في الوظائف الإدارية – يستشهد على سبيل المثال، “بالصناعات الجديدة الكاملة”، مثل الخدمات المالية والتسويق عبر الهاتف – يعني أن “عددا كبيرا من الناس، في أوروبا وأمريكا الشمالية على وجه الخصوص، يقضون حياتهم العملية بأكملها في أداء المهام التي يعتقدون وبشكل سري أنه لا يلزم القيام بها”. ويمكن أن تكون النتيجة بائسة. وهنا يحدث ما أسماه أدورنو “الملل الموضوعي”، على الرغم من أن غرايبر يحذر من أنه “بالنسبة للبعض يؤدي غياب الهدف بالنسبة للبعض إلى تفاقم الملل، وبالنسبة إلى الآخرين يؤدي إلى تفاقم القلق”.
تزعم مدارس فكرية أن الملل هو مشكلة اهتمام
أثارت موسيقى البانك الملل باعتبارها تحريضا على التمرد شبه السياسي ـ مثل فرقة ذا كلاش ومللها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، أو أغنية “وايتينغ روم” لفرقة لفوغازي، حيث جعل الوقت، الذي كان مثل “الماء يتدفق في البالوعة”، الصبي يفقد صبره مع العالم كما كان.
لكن في حين أن النقاد الاجتماعيين يمكن أن يمنحوا الملل تهمة قوية معينة، الكثير من الناس يقللون من شأن تجربتهم العادية مع الملل أو ينكرون وجودها تماما. ربما يكون هذا خطأ النظام، لكنه يبدو وكأنه خطأنا. فالملل هو حالة غير كاريزمية واضحة للوجود.
في هذا السياق، يلاحظ سفندسن أن الملل “يفتقر إلى سحر الكآبة- سحر مرتبط بعلاقة الكآبة التقليدية بالحكمة والحساسية والجمال”. وسوف يكون الملل قريبه، ولكنك لا تسمع في كثير من الأحيان الملحدين يشتكون من ذلك. فالاكتئاب له علاقة بالملل (وكتب أندرو سولومون أن نقيض الاكتئاب ليس السعادة بل الحيوية)، لكن يُنظر للاكتئاب على أنه سريري وكيميائي، وربما يكون الاعتراف به أسهل به في الكثير من البيئات الاجتماعية أكثر من الملل المزمن. وإذا كنت تشعر بالملل، فقد تكون مملا.
تقول عالمة النفس ساندي مان، في كتابها لسنة 2016 “علم الملل” أن “الملل هو الضغط الجديد”، حالة يتردد الناس في تقبلها، تماما كما كانوا يترددون في الاعتراف بالتوتر. لكني أشك في أن الملل سيصبح حالة يعترف الجميع بمعاناتها. فالاعتراف بأنك متوتر يعني أن هناك من هو بحاجة إليك، أو أنك مشغول، وربما حتى أمك مهم للغاية. وكن أن تقول إنك تشعر بالملل يوحي – كما حدث عندما كنت طفلا، وكان البالغون يشتكون إذا لم يكن لديك ما تفعله- أنك تفتقر إلى الخيال أو المبادرة، أو أنك محظوظ في الحصول على وظيفة تعبر عن “شغفك”.
تقول قصيدة جون بيريمان “أغنية الحلم 14”:” الحياة، يا أصدقاء، مملة. يجب ألا نقول ذلك. في نهاية المطاف، السماء تومض، البحر يشتاق / نحن أنفسنا نلمع ونتوق/ أخبرتني والدتي مرارا وتكرار عندما كنت صبيا / ‘إن الاعتراف بأنك تشعر بالملل / يعني أنه ليس لديك/ إمكانيات داخلية”.
على الرغم من أن الملل لم يعد يصيب معظم الناس باعتباره خطيئة، كما كانت السبع خطايا المميتة بالنسبة لرهبان العصور الوسطى، إلا أن العار لا يزال مرتبطا به، خاصة عندما لا يمكن إلقاء اللوم على وظيفة تتحملها فقط لكي تتمكن من دفع الفواتير. وأن تشعر بالملل أكثر من أي وقت مضى تبدو كشكوى صغيرة ومثيرة للقلق، أو كشكل من أشكال الابتعاد الضعيف عن عالم يتطلب إجراء عاجلا لمحاولة تصحيحه (مع تقديم وسائل ترفيه لا نهاية لها لإلهائنا).
إن تفسير الملل شيء واحد وقياسه مختلف تماما. ففي الثمانينات من القرن الماضي، طور نورمان سوندبيرج وريتشارد فارمر، وهما باحثان في علم النفس في جامعة أوريغون، مقياس الشعور بالملل، لتقييم مدى سهولة ملل الشخص بشكل عام. وقبل سبع سنوات، ساعد جون إيستوود في التوصل إلى مقياس لقياس مدى ملل الشخص في هذه اللحظة.
في السنوات الأخيرة، أجرى باحثو الملل دراسات استقصائية ميدانية يطلبون فيها، على سبيل المثال، من الناس الاحتفاظ بمذكرات وهم يمارسون حياتهم اليومية مع تدوين حالات من اللامبالاة. (وكانت نتيجة أن هذه الأساليب الجديدة مفيدة للغاية بخصوص دراسات الملل – حيث تُشير مان إلى الزملاء الذين قابلتهم في “‘دائرة’ الملل”.) ولكن، العديد من الدراسات تنطوي على تعزيز الباحثين للملل في بيئة معملية، عادة مع طلاب الجامعات، لدراسة كيفية تأثير هذا الشعور غير المريح على الناس.
إن إنشاء محتوى ممل هي مهمة يتناولونها بشيء من البراعة، والنتائج تثير مشهدا من كوميديا بيكيت الحزينة. على سبيل المثال، أخرج أحد خريجي جيمس دانكرت في جامعة واترلو مقطع فيديو ممل بشكل استثنائي تم استخدامه لإثارة ضجر الأفراد لأغراض البحث. يصور المقطع رجلين يعلقان الغسيل على رف معدني في غرفة صغيرة فارغة بينما يتمتمون بالتفاهات. (“هل تريد مشابك غسيل؟”)
قام باحثون آخرون بترك المشاركين في الدراسة لمشاهدة فيلم تعليمي حول إدارة مزارع الأسماك أو جعلهم ينسخون اقتباسات من مقالة مرجعية حول الإسمنت. بعد ذلك، تحقق الباحثون من مدى رغبة المشاركين الشاردين في تناول بعض الأطعمة غير الصحية (نسبة لا بأس بها منهم، في إحدى هذه الدراسات).
عندما يكتب الباحثون المعاصرون في الملل في تخصص علم النفس كتبا للجمهور الشعبي، فإنهم غالبا ما يتبنون أسلوبا سريعا ومبهجا وغنيا بالمعلومات
يقوم باحثو الملل المعاصرون، مع كل مقاييسهم ورسومهم البيانية، بطرح بعض من نفس الأسئلة الوجدانية التي شغلت الفلاسفة والنقاد الاجتماعيين. يزعم أحد الفرق أن الملل ينبع من نقص في المعنى: لا نستطيع الاهتمام بما نقوم به طويلا إذا كنا لا نكترث بما نفعله في الأساس.
في المقابل، تزعم مدرسة فكرية أخرى أن الملل هو مشكلة اهتمام: إذا كانت المهمة صعبة للغاية أو سهلة للغاية بالنسبة لنا، يتبدد التركيز ويتوقف الدماغ. يجادل دانكرت وإيستوود أن “الملل يحدث عندما نقع في معضلة في الرغبة؛ نريد أن نفعل شيئا ولا نريد فعل أي شيء” ويحدث كذلك “عندما تكون قدراتنا العقلية ومهاراتنا ومواهبنا في وضع الخمول – عندما نكون غير مشغولين ذهنيا”.
أخبرتني إيرين ويستجيت، أخصائية علم النفس الاجتماعي في جامعة فلوريدا، أن عملها يشير إلى أن كلا العاملين – قلة المعنى وانهيار الانتباه – يلعبان دورا مستقلا ومتساويا تقريبا في مللنا.
فكرتُ في الأمر على هذا النحو: قد يكون النشاط رتيبا – كالمرة السادسة التي تقرأ فيها كتاب “أرنب نافل” لطفلك المقاوم للنوم، أو مرور الساعة الثانية من عنونتك مغلفات لحملة سياسية تهتم بها بحق – ولكن لأن هذه الأشياء، لأسباب مختلفة، ذات قيمة بالنسبة لك، فهي ليست مملة بالضرورة. أو قد يكون النشاط جذابا دون مغزى حقيقي — أحجية الصور المقطعة التي تقوم بها أثناء فترة الحجر الصحي، أو الحلقة السابعة من مسلسل على “نيتفليكس” انجذبت إليه. إذا كان النشاط مفيدا وجذابا، ستكون بخير، وإذا لم يكن كذلك، لك تذكرة باتجاه واحد نحو الضجر.
عندما يكتب الباحثون المعاصرون في الملل في تخصص علم النفس كتبا للجمهور الشعبي، فإنهم غالبا ما يتبنون أسلوبا سريعا ومبهجا وغنيا بالمعلومات، مع قدر كبير من المساعدة الذاتية – ذلك مختلف تماما، بعبارة أخرى، عن الفينومينولوجيا الواقعية والنقد المناهض للرأسمالية الذي كان الفلاسفة يميلون إلى تقديمه عندما نظروا في طبيعة الملل.
إن تحليل الملل الذي طرحه علماء النفس ليس سياسيا، والحلول المقترحة هي في الغالب فردية: يحثنا دانكرت وإيستوود على مقاومة إغراء “الاسترخاء على الأريكة مع كيس رقائق بطاطس” وبدلا من ذلك البحث عن أنشطة تضفي إحساسا بالمسؤولية وتعيد توجيهنا نحو أهدافنا. قد يكونان حازمين بعض الشيء لنظرهم من خلال عدساتهم الثقافية الخاصة – فيشيرون إلى أن مشاهدة التلفاز دائما ما يكون نشاطا متدني الشأن، بغض النظر عما تشاهد.
الأهم من ذلك أن ليس لديهم الكثير ليقولوه حول الصعوبات التركيبية التي قد يواجهها الناس في تحسين السيطرة على وقتهم ومسؤولياتهم في الحياة. إنك لست بحاجة لأن تكون أدورنو لتتفهم تلك الصعوبات. كما كتبت باتريشيا ماير سباكس في كتابها “الملل: التاريخ الأدبي لحالة عقلية“، إن الملل الذي يقدم نفسه على أنه “شعور بسيط يستطيع أن يقلل من أهمية العالم” يدل على “حالة يتم فيها تعيين أهمية أكبر للفرد، وقوة أقل”.
مع ذلك، إذا كنت تبحث عن بعض الطرق العملية لإعادة صياغة التجارب التي غالبا ما تكون مملة أكثر مما ينبغي، فهناك أفكار محددة ومدروسة يمكن العثور عليها في أبحاث دراسات الملل. وهي مفيدة بشكل خاص في معالجة ظاهرة الملل في المدارس والجامعات.
يبلغ الملل ذروته في أواخر سن المراهقة ثم يبدأ في الانخفاض، ويصل إلى أدنى مستوى في عمر الخمسينات
في استطلاع سنة 2012 لطلاب الجامعات الأمريكية، قال أكثر من 90 بالمئة إنهم يستخدمون هواتفهم الذكية أو أجهزتهم الأخرى في المحاضرات، وقال 55 بالمئة منهم إن السبب في ذلك الشعور بالملل. وجدت مقالة نُشرت في سنة 2016 أن بالنسبة لمعظم الأمريكيين، كان النشاط المرتبط بأعلى معدلات الملل هو الدراسة. (أقلها: الرياضة أو التمارين).
استنتج بحث أجرياه ساندي مان وأندرو روبنسون في إنجلترا أن الدورات المحوسبة كانت من بين أكثر التجارب التعليمية مللا، في حين أن أقلها كانت المناقشات الجماعية التقليدية في إطار المحاضرات. وتقدم مان في كتابها “علم الملل” ملاحظات جديرة بالاهتمام حول تكتيكين يساعدان الناس على التقليل من الملل أثناء الدراسة: الاستماع إلى الموسيقى والرسم. وفقا لها، الرسم (الذي يعمل أيضا في الاجتماعات المثيرة للنعاس) “هو في الواقع استراتيجية ذكية جدا تستحضرها أدمغتنا لتسمح لنا بالحصول على المستوى المناسب من التحفيز الإضافي الذي نسعى إليه – ولكن ليس بالقدر الذي لا نستطيع به الاستماع لما يدور حولنا”.
قد يكمن جذر الملل في المدرسة بالعمر أيضا: فقد وجدت الدراسات التي بحثت في الملل على مدى العمر أنه بالنسبة لمعظم الناس، يبلغ الملل ذروته في أواخر سن المراهقة ثم يبدأ في الانخفاض، ويصل إلى أدنى مستوى في عمر الخمسينات، ليرتفع قليلا بعد ذلك (للأسف، قد يكون سبب ذلك أن الناس يصبحون أكثر انعزالا عن المجتمع، أو أكثر ضعفا في الإدراك).
يولي كتاب “خارج جمجمتي” اهتماما كبيرا لمسألة ما يجعلنا الملل نفعله – من خلال البحث الميداني. لقد أصبح من المألوف في السنوات الأخيرة الإشادة بالملل باعتباره حافزا للإبداع، ونصح الجميع، وخصوصا الأطفال، بالحصول على المزيد منه. راجع، على سبيل المثال، كتاب منوش زومورودي الصادر سنة 2017، “ملول وعبقري: إعادة اكتشاف فن الشرود المفقود“. إن للفكرة جاذبية حدسية وتاريخ مرموق. حتى والتر بنجامين استحضر الإمكانات الخيالية للملل الذي كان “طائر الأحلام الذي يفقس بيضة من التجارب”.
يسحق دانكرت وإيستوود طائر الأحلام ذاك، بقولهما إنه لا يوجد الكثير من الأدلة التجريبية على أن الملل يطلق العنان للإبداع. أظهرت إحدى الدراسات أنه عندما أُشعر الأفراد بالضجر في مختبر (كانت قراءة أرقام من دليل الهاتف جهرا هي الوسيلة المختارة لإثارة الملل هنا)، كانوا أكثر قدرة على التفوق في مهمة معيارية يستخدمها علماء النفس لتقييم الإبداع، وهي ابتكار أكبر كم من الاستعمالات الممكنة لزوج من الأكواب البلاستيكية.
بعبارة أخرى، كانت النتائج متواضعة للغاية. عندما يتمنى الناس أن نشعر كلنا بالملل أكثر، أو يتحسرون على الأطفال المجدولين والمستمتعين بوقتهم لدرجة أنهم لا يشعرون بالملل. فإن ما قد يعنونه حقا هو أنهم يتمنون لو أن لدينا المزيد من وقت الفراغ، ومن الأفضل أن يكون غير مرتبط بالأجهزة الإلكترونية، للسماح لعقولنا بالمرح والاستمتاع أو الاستقرار في عالم أحلام – وهذا النوع من أحلام اليقظة ليس مملا على الإطلاق.
مثل بعض الباحثين الآخرين الذين يعانون من الملل الذين قرأت عنهم، لم يستطيع دانكرت وإيستوود مقاومة الاستشهاد ببعض القصص المثيرة التي يُفترض أنها توضح العواقب الوخيمة للشعور بالملل – روايات إخبارية يدعي فيها الأشخاص الذين ارتكبوا جريمة شنيعة أنهم فعلوا ذلك بسبب شعورهم بالملل. لكن هذه القصص لا تسلّط الضوء على هذه الظاهرة العامة.
في الواقع، يعتبر الملل بمثابة المذنب الأكثر منطقية لبعض المخاطر الاجتماعية الأكثر شيوعا. على سبيل المثال، أجرى كل من وينن فان تيلبورغ وإيريك إيغو، وهما عالما النفس البحثيان الرائدان اللذان يتبنيان نظرية افتقار المعنى للملل، دراسات تُظهر أن الملل المستحث يزيد من إحساس الناس بهوية المجموعة ويقلل من قيمة “الجماعات الخارجية”، فضلا عن تنامي مشاعر السياسية الحزبية.
بيد أن دانكرت وإيستوود يجادلان، وبشكل متواضع، أن الملل ليس جيدا ولا سيئا، ولا مؤيدا ولا معاديا للمجتمع. وإنما هو أشبه بإشارة ألم تنبهك إلى الحاجة إلى القيام بأمر ممتع للتنفيس عن نفسك. سواء قمت بشيء مرح وصاخب وتحطمت سيارتك أو تطوّعت في مطبخ لإعداد الطعام للمشردين، فالأمر متروك لك.
أي شيء يجعل التركيز أكثر صعوبة، وأي شيء يجعلنا فقط سطحيين أو منخرطين بشكل همجي، من شأنه أن يضاعف من هذه المسألة
يتلقى دانكرت وإيستوود ملاحظة متوسطة وبديهية مماثلة عندما يخوضان في مناقشة بشأن ما إذا كان الملل قد يتزايد في هذه المرحلة بالذات من الرأسمالية المتأخرة. هل أصبحنا نشعر بالملل أكثر منذ بدأت التكنولوجيا الاستهلاكية واسعة الانتشار تتلاعب باهتمامنا؟ هل أصبحنا أقل قدرة على تحمل الإحساس بالملل في الوقت الراهن حيث أصبح عدد قليل منا غالبا ما يمر بمواقف مملة بشكل اعتيادي- طابور مركز تعليم السياقة أو قاعة الانتظار في عيادة طبيب – دون هاتف ذكي وجميع وسائل الترفيه الأخرى؟
أظهرت دراسة نُشرت في سنة 2014، وتم تكرارها لاحقًا على نحو مماثل، مدى الصعوبة التي يجدها الناس عند الجلوس بمفردهم في غرفة والتفكير فقط، حتى لمدة 15 دقيقة أو أقل. واختار ثلث الرجال وربع النساء من المشاركين أن يصعقوا أنفسهم بالكهرباء بدلا من عدم فعل أي شيء على الإطلاق، على الرغم من أنه سُمح لهم باختبار شعور الصعقة في وقت سابق، وقال معظمهم إنهم مستعدون لدفع المال شرط ألا يُجرّبوا هذا الإحساس بالذات مرة أخرى. (على سبيل المثال، عندما أجريت التجربة في المنزل، اعترف ثلث المشاركين بأنهم قاموا بالغش، من خلال إلقاء نظرة خاطفة على هواتفهم المحمولة أو الاستماع إلى الموسيقى.)
أتساءل عما إذا كانت المواضيع البحثية في عصر سابق، قبل أن نصبح عبيدا لأجهزتنا، سريعة إلى حد كبير مع الشبكات الكهربائية. من جانبها، كان لإيرين ويستجايت، التي كانت أحد مؤلفي الدراسة، اهتمام أعمق بكيفية تشجيع الناس على الاستمتاع بالتفكير، والذي بدا لي وكأنه بحث مؤثر، لكنها قالت إن بحثها أظهر أن هذا الأمر كان ممكنً – على سبيل المثال، من خلال تشجيع الناس على التخطيط لما سيفكرون فيه عندما يجدون أنفسهم بمفردهم.
نظرا لأن الملل، من وجهة نظر دانكرت وإيستوود، يعتبر مسألة لا تحظى بالاهتمام الكافي إلى حد كبير، فإن أي شيء يجعل التركيز أكثر صعوبة، وأي شيء يجعلنا فقط سطحيين أو منخرطين بشكل همجي، من شأنه أن يضاعف من هذه المسألة.
كتب دانكرت وإيستوود: “بعبارة أخرى، التكنولوجيا لا مثيل لها في جذب وأسر انتباهنا، ويبدو أنه من المعقول أن قدرتنا على التحكم في انتباهنا عمدا قد تتلاشى استجابة لقلة توظيفه”. ومع ذلك، أوضحا أيضا بأنه ليس لدينا نوع الدراسات الطولية التي من شأنها أن تكشف لنا ما إذا أصبح الناس يشعرون بالملل أكثر أو أقل مما كانوا عليه من قبل. وفي استطلاع أجرته مؤسسة غالوب سنة 1969، قال 50 بالمئة من المشاركين إن حياتهم كانت “روتينية أو حتى مملة للغاية”. أي حياتهم وليس يومهم في العمل. وللأسف، لم يطرح منظمو الاستطلاع هذا السؤال في استطلاعات الرأي اللاحقة.
في دراسة بحثت في ردود الفعل العاطفية إزاء الحجر الصحي لفيروس كوفيد-19 في إيطاليا، أشار الناس إلى الملل باعتباره الجانب الثاني الأكثر سلبية في مطالبتهم بالبقاء في منازلهم، بعد الحرمان من الحرية وقبل الحرمان من الهواء النقي مباشرة. وفي شهر آذار/ مارس، بحثت مقالة نُشرت في صحيفة “واشنطن بوست” في الجانب الإيجابي للوباء بالنسبة للباحثين في مجال الدراسات التي تتناول الملل.
فهل يشكل الملل فرصة لإعادة ضبط العلاقات على نحو إبداعي، حيث يأمل الناس في أن يبقى الحال كذلك إلى الأبد، أم يمكن أن تتحول الرتابة العادية وتداعياتها أو إجهاد الحجر الصحي، إلى سلوك خطير أو عكسي أو غير اجتماعي؟ حيال هذا الشأن، أخبرتني ويستغايت، التي بدأت دراسة عبر الإنترنت عن الملل المبلغ عنه ذاتيا وردود فعل الناس عليه أثناء فترة الإغلاق، أنها تعتقد أن جائحة كوفيد-19 تشكل جزء من تجربة طبيعية. في العادة، يعترف الناس بالشعور بالملل لنحو نصف ساعة في اليوم، لذلك كان من الصعب أن نتفطن إليهم حين يمرون بهذا الوضع، ولكن قد يكون الأمر أسهل في الوقت الحاضر.
في حال نشأ الملل في غياب المعنى، فإن القيود التي يفرضها الوباء علينا قد لا تُشعرنا بالملل، على وجه التحديد (في المقابل، قد تكون مثيرة للقلق، مستنزفة عاطفيًا، ومشحونة بعدم اليقين). وإذا كانت حياتك تخضع لقيود أكثر هذه الأيام، فإنك على الأقل ملتزم بذلك بهدف محاولة السيطرة على الوباء وإنقاذ الأرواح. والقدر الصغير من العطف الذي نُظهره للناس الذين نحتمي معهم، والذي يظهرونه لنا، له بعض الصدى الجديد لهم.
مع ذلك، هناك أيضا أمر تصالحي وإنساني حول التأكيد على الحق في الشكوى من الملل في الأوقات الصعبة – تَوق جامح إلى الحياة العادية وتنوع الحياة. وفي كتاب جديد بعنوان “سكوير هانتينغ: خمسة كتاب في لندن بين الحربين”، نقلت فرانشيسكا وايد بعض الاقتباسات عن المؤرخة إيلين باور، في سنة 1939. وكتبت أن هذه الحرب المدمرة قد انتهت، موضحة أن “الملل الناتج عنها أمر لا يصدق. لقد انطفأت مثل شمعة. أنا لست سوى تذمر مجسّد، مثل أي شخص آخر”. ولكن أحيانًا يكون التذمر الشيء الوحيد الذي يبقينا على قيد الحياة.
المصدر: ذا نيو يوركر