بعد انقطاع دام أكثر من 8 سنوات، عقد الأمناء العامون للفصائل الفلسطينية اجتماعًا نادرًا، ضم كل ألوان الطيف السياسي بهدف مناقشة 3 ملفات رئيسية هي: صفقة القرن الأمريكية المزعومة ومخطط ضم “إسرائيل” مساحات واسعة من الضفة الغربية وعمليات التطبيع العربية معها.
ضم الاجتماع الذي عقد في 3 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، بالتزامن بين رام الله وبيروت عبر الفيديو كونفرنس، الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة وقيادات من حركة فتح والفصائل الأخرى.
تمثلت أهمية هذا اللقاء في كونه الأول من نوعه منذ فبراير/شباط 2012، وهو العام الذي عقدوا فيه آخر اجتماع لهم في العاصمة المصرية القاهرة، عندما كان الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير، الذي يضم الأمناء العامين مفعلًا.
في اللقاء الجديد، اتفق المجتمعون على أغلب مخرجاته، وأهمها: “تحقيق الوحدة الوطنية وإعادة ترتيب البيت الداخلي بهدف التصدي للتحديات والمؤامرات التي تواجه القضية والتأكيد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس المحتلة”.
على الرغم من ذلك، تحفظت حركة “الجهاد الإسلامي”، على بندين من مخرجات الاجتماع وهما: “بند الموافقة على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وبند آخر يتعلق بأسس تفعيل منظمة التحرير”، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
وشددت الحركة في بيان لها على “التمسك بالعمل على تحرير فلسطين كاملة من البحر إلى النهر وعدم التفريط بأي ذرة من ترابها المقدس”، كما دعت إلى “إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير وفق أسس يتم الاتفاق عليها من جميع القوى الفلسطينية”.
لكن هناك بندًا ثالثًا اختلفت عليه الأطراف المجتمعة دون أن يتم إعلانه، مثّل في كل اللقاءات السابقة، معضلة أمام تحقيق المصالحة الداخلية وإنهاء الانقسام المستمر بين حركتي فتح وحماس منذ يونيو/حزيران 2007، هذه المعضلة تتمثل في المقاومة المسلحة، حيث أكدت حركتا حماس والجهاد الإسلامي في الاجتماع الأخير ضرورة مقاومة الاحتلال بكل الطرق بما فيها السلاح، لكن البيان الختامي أقر فقط “المقاومة الشعبية”.
شدد هنية أن سلاح المقاومة الفلسطينية غير قابل أن يوضع في أي خطة أو تسوية
ويتبنى الرئيس عباس خيار المقاومة الشعبية السلمية غير المسلحة، ودعا في كثير من المناسبات إلى وقف العمليات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، حتى إنه شدد على أنه لن يسمح بحدوث انتفاضة فلسطينية ثالثة، في حين أن الفصائل الفلسطينية تقر بأهمية المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين.
فبعد اجتماع الأمناء العامين بيوم، شدد إسماعيل هنية على أن “المقاومة المسلحة هي أمر إستراتيجي لتحرير كل فلسطين”، مؤكدًا أن أي مقاربة تتفق عليها “حماس” مع بقية الفصائل لن تمس سلاح المقاومة، وأردف: “نتفق على أشكال المقاومة كافة بما فيها الشعبية، لكن ليس على حساب المقاومة المسلحة”، وأكد ذات الأمر في فعالية مختلفة من بيروت بالقول: “صواريخ المقاومة تصل إلى تل أبيب وما بعد تل أبيب”، وفي فبراير/شباط 2020، شدد هنية أن “سلاح المقاومة الفلسطينية غير قابل أن يوضع في أي خطة أو تسوية”.
وطالبت خطة السلام الأمريكية المزعومة (صفقة القرن)، التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب، في 28 من يناير/كانون الثاني 2020، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بـ”تفكيك” سلاح الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وإعلانه منطقة منزوعة السلاح.
وكانت اللجنة الرباعية الدولية (تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)، قد طالبت حماس عام 2006 بـ”نبذ الإرهاب، والاعتراف بحق “إسرائيل” بالوجود، وبالاتفاقات الموقعة بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية ونزع سلاح الحركة”، مقابل الاعتراف بها كطرف مقبول به في الساحة.
هذا المطلب يتجدد في المحافل الدولية حينما يتحدث مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون عن إمكانية تحسين الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، أو في الرسائل الدولية للفلسطينيين، أو يُدرج ضمن شروط رفع الحصار الإسرائيلي المستمر منذ أكثر من 14 عامًا.
وتجدد هذا المطلب عام 2017، عندما رهنت “إسرائيل” استئناف مفاوضات السلام مع السلطة الفلسطينية بنزع سلاح “حماس”، لكن لم تنجح أي من تلك المحاولات.
مستقبل المصالحة
لكن هل يتسبب امتلاك الفصائل الفلسطينية للسلاح والاختلاف بينها وبين السلطة الفلسطينية على شكل المقاومة بفشل أحد أهم مخرجات اجتماع الأمناء العامين الأخير، المتمثل بـ”تشكيل لجنة لتقديم رؤية إستراتيجية لتحقيق المصالحة في غضون 5 أسابيع”؟
يرى المحلل السياسي الفلسطيني الدكتور ناصر الصوير أن “جميع الكلمات التي ألقيت في الاجتماع الأخير، شدد المتحدثون فيها على مواقفهم المعروفة أصلًا، فلم يعلن رئيس السلطة محمود عباس أو حركتا حماس والجهاد الإسلامي عن أي توجه جديد”.
وقال في حديث لـ”نون بوست”: “لم يذكر عباس، مهندس اتفاق أوسلو كلمة المقاومة أبدًا خلال كلمته، ولم يعلن عن إستراتيجية جديدة فيما يخص التعامل مع دولة الاحتلال، ما زالت المسافة شاسعة جدًا بين جميع الأطراف”.
تتمثل مشكلة السلاح في غزة، بتخوف السلطة الفلسطينية من عودة استخدامه ضدها، كما جرى في أحداث الانقسام الداخلي عام 2007
وكان الصوير يتوقع أن يتقدم كل طرف نحو الآخر ومن ثم الاجتماع حول نقطة ارتكاز واحدة، مضيفًا: “من الغريب أنه لم يجر الحديث بشكل محوري عن أهم مشكلة تواجه الفلسطينيين، وهي الانقسام الداخلي”.
وفي نوفمبر/تشرين الأول 2017، هيمنت قضية سلاح المقاومة الفلسطينية وموضوع السيطرة الأمنية على تصريحات طرفي الانقسام، فبينما شددت حركة حماس على أن السلاح خط أحمر، قالت حركة فتح إنه لا بد من تسليمه.
وقال عضو المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحية في مؤتمر صحفي آنذاك لإعلان نتائج الحوار الفلسطيني الذي أجري في القاهرة خلال نفس الشهر: “سلاح المقاومة لا مساومة فيه ويجب على الجميع الكف عن الحديث عنه”.
في الجهة المقابلة، قال حسين الشيخ عضو اللجنة المركزية في حركة فتح ورئيس هيئة الشؤون المدنية إن سلاح المقاومة ليس شأنًا تنظيميًا ولا فصائليًا، وأضاف أن المصالحة لا تتم إلا بوجود سلاح واحد وسلطة واحدة وقانون واحد.
وتتمثل مشكلة السلاح في غزة، بتخوف السلطة الفلسطينية من عودة استخدامه ضدها، كما جرى في أحداث الانقسام الداخلي عام 2007، وقال عباس في أكتوبر/تشرين الأول 2017: “لو شخص من فتح في الضفة حامل سلاح غير السلاح الشرعي، أنا أعتقله، وهذا ما سأعمل عليه في غزة، يجب أن يكون هناك سلاح شرعي واحد بيد السلطة الفلسطينية”.
أما مشكلة السلاح دوليًا، فيعكسها تخوف عباس من وصمه المستمر بـ”الإرهاب”، وهو الوصف الذي يطلقه عليه مسؤولون إسرائيليون واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، في كل مرة يحاول فيها تنفيذ اتفاق مصالحة مع حماس.
وصرح عباس في فبراير/شباط 2020: “قلت للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنني لا أومن باستخدام السلاح في العصر الحاليّ فهو بلا جدوى، نحن لا نريد السلاح.. نريد أن نبني دولتنا وأن يعيش شعبنا في أمن وأمان واستقرار، وسأسعى أن تكون دولة فلسطين منزوعة السلاح”، وأكمل: “قلت لترامب، أبني مدرسة أفضل من أن أشتري دبابة، أبني مستشفى أفضل من أن أشتري طائرة، فقال لي أنت رجل سلام عظيم.. ليش بيقولوا عنك إرهابي؟ إحنا متفقين”.
ويدعم مخاوف عباس بشأن المقاومة المسلحة، تصنيف واشنطن عام 1997 حركة حماس “منظمة إرهابية”، وإدراج الخزانة الأمريكية رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في 2018، في قائمتها لـ”الإرهاب”، وهو ما يجعل قيادة السلطة الفلسطينية مترددة، بشأن الإقدام على أي اتفاق مستقبلي جدي للمصالحة الداخلية.
يقول الكاتب الفلسطيني أسامة عثمان: “تقف الاشتراطات الأميركية المسبقة، كما الإسرائيلية الاحتلالية، شبحًا يستبق الآفاق الأخيرة، ويصادر الإرادة الفلسطينية الشعبية، حين تُسقِط مكونًا فلسطينيًّا (حركة حماس)، يحظى بتمثيل شعبي أقرته نتائجُ انتخاباتٍ بإشراف دولي”.
وأضاف في مقال نشر في أكتوبر/تشرين الأول 2017 حينما كانت تجري حراكات قوية بشأن تحقيق المصالحة: “يبدو الانسياق وراء هذا المطلب، وهو تجريد حماس والمقاومة من سلاحها، أقرب إلى التمنيات الإسرائيلية، إذ يرفض بنيامين نتنياهو هذه المصالحة التي يراها زائفة، ما لم تتمثّل تصوراته، وهي الاعتراف بـ”إسرائيل”، وتجريد الجناح العسكري لحماس من السلاح، وقطع العلاقة مع إيران”.
ومِن شأن الاستجابة إلى هذه الاشتراطات إحباط الجهود، بل نسفها من أساسها، وأن يعود الوضع الفلسطيني إلى المربع الأول، وهو الصدام، بحسب عثمان الذي يواصل: “الصحيح أن أمورًا من هذا القبيل لا يليق بها التفرد، والاستجابة إلى الإملاءات الخارجية، بقدر ما تحتاج إلى الوقوف على تطلعات الشعب والاستئناس برأيه، من خلال مؤشرات الانتخاب والتمثيل”.