غربي معرة مصرين بين مدينة إدلب والحدود التركية تقف “لين” التي لم تكمل أعوامها العشر بعد في ساحة المخيم الذي يحمل اسم قريتها (مخيم أهل التح) بعد أن بللت شعرها بالماء للمرة العشرين ربما منذ انفجرت شمس هذا الصباح، متحركة أسرع مما يجب إلى كبد السماء.
لين تقف في ساحة مخيم أهل التح – بلدة باتنتة في إدلب
من يعلم ما الذي يدور في خاطر لين وهي تمد بصرها على الأراضي أمامها متجاوزًا الخيم المتهالكة؟!
أكاد أجزم أنها تفكر في منزلهم الريفي في قرية التح جنوبي معرة النعمان، الذي أُجبر أهلها – ككل أهل منطقتهم – على النزوح منه أواخر العام المنصرم، بعد أن اقتربت قوات نظام آل الأسد منهم، ضمن حملة جيش الاحتلال الروسي للسيطرة على منطقة إدلب، التي توقفت بعد اتفاق روسي/تركي في مارس/آذار الماضي، مخلفة مليون ونصف مليون فاقد لمنزله وحامل صفة “مُهَجَّر”.
بنى المهجرون مخيماتهم بعشوائية وبدائية بما توافر بين أيديهم في كل فسحة أوصلتهم إليها أقدارهم من إدلب إلى عفرين، وكان عليهم أن يعيشوا في تلك الخيام عاصفة ثلجية في فبراير/شباط مطلع هذا العام أخذت حصتها من حيواتهم ومضت، وتنفّس من لا يدري الصعداء لانتهاء فصل الشتاء بكل مآسيه على أهل الخيام.
لكن من يظن أن برد الشتاء هو أقسى ما يمر على المُهَجّر في خيمته، لا يعلم ما الذي يعنيه العيش في الصيف تحت حرارة شمس حارقة لا يردها عنه إلا قماش خيمة مهترئة، كما أخبرني صديق يومًا!
طفل يخرج من نافذة خيمته – مخيم أهل التح في إدلب
ثم جاءت موجة الحرارة التي ضربت سوريا ودولًا أخرى في المنطقة – منذ أسبوعين تقريبًا – تطلب حصتها – هي الأخرى – من أرواح السوريين، وحدث أن غصّت المجموعات الإخبارية المحلية في الشمال السوري بالعواجل – التي لم تعد كذلك – عن حالات الإغماء المتكررة في المخيمات نتيجة درجات الحرارة المرتفعة التي وصلت 45، خاصة للأطفال والمسنين.
خيمة الإجرام
يقع مخيم أهل التح، غربي معرة مصرين قريبًا من بلدة باتنتة، بين مدينة إدلب والحدود السورية التركية، حيث يقطن المخيم 1900 مهجر من أبناء قرية التح ضمن 450 خيمة وشبه خيمة، بحسب مديره الأستاذ عبد السلام محمد يوسف، ومعظم هذه الخيم من نموذج خيمة السفينة أو ما يدعونه هناك “خيمة الإجرام”! فهي لا تقي قاطنها برد شتاء ولا حرّ صيف، فضلًا عن سرعة اهترائها الذي يدفع الأهالي لترقيعها بشكل متكرر.
أطفال يجلسون في ظل خيمة – مخيم أهل التح في إدلب
في ظل “خيمة الإجرام” جلس هؤلاء الأطفال يلوذون بها من أشعة الشمس التي لا تقل إجرامًا، فقد شهدوا بأعينهم ما الذي يعنيه التعرض لها طويلًا، عندما خرّ جارهم الستيني أمامهم وتراكض أهل المخيم يظلونه، مستعملين المياه لإعادته إلى وعيه، قبل أن تأتي سيارة الدفاع المدني لنقله إلى المستشفى، حيث يشهد المخيم منذ أسبوع تقريبًا حالات إغماء متكررة تصيب المسنين والأطفال تحديدًا كما أخبرنا الأستاذ عبد السلام، ولا يجد قاطنو المخيم إلا المياه التي باتوا يهيلونها على أجسادهم وأجساد أطفالهم عدة مرات في اليوم الواحد.
استخدام المياه لتخفيف الحرارة المرتفعة للأطفال – مخيم أهل التح في إدلب
وأصبح شائعًا في المخيم مشهد الأطفال بين يدي أمهاتهم، يصببن عليهم المياه لتخفيف وطأة الحرارة المرتفعة، وهو ما تفشي ابتسامات الأطفال بأنهم يجدونه أمرًا ممتعًا، وربما لعبة جديدة تكسر حياة المخيم الرتيبة المليئة بالشقاء، فاتخذ بعضهم من برميل فارغ مسبحًا شخصيًا يتناوبون الجلوس فيه، بعد أن ملأوه بالماء.
طفل يجلس في برميل بعد أن ملأه بالماء – مخيم أهل التح في إدلب
نداءات استغاثة
يعاني معظم قاطني مخيمات الشمال السوري من اهتراء خيمهم رديئة القماش، التي يشغل ترقيعها وتدعيمها جزءًا من أيامهم، خاصة أنها الآن سكنهم الوحيد، بعد أن باتت العودة إلى مناطقهم أبعد فأبعد مع استعصاء الحلول السياسية وتعنت روسيا ومن معها.
لكن عمليات الترقيع التي يقومون بها مستخدمين غالبًا “البطانيات” التي وُزِّعَت عليهم في الشتاء، لا تزيد من حال الخيم إلا تهالكًا وضعفًا أمام الظروف الجوية القاسية مع تبدل الفصول، دون أن يجد كثير منهم مالًا لشراء خيمة جديدة أو حتى لدفع “مبلغ معتبر” لقاء قماش شادر يقوم مكان المهترئ.
خيمة مهترئة تقطنها عائلة مهجرة – مخيم أهل التح في إدلب
ومع غياب إمكانية تدعيم الخيام بجهود ذاتية، يمضي الأستاذ عبد السلام جل وقته في التواصل مع المنظمات الإغاثية والمتبرعين، محاولًا الحصول على دعم بأي شكل يرمم “المساكن الجديدة” لأهل قريته، عله يحصل على خيم عازلة أو “غير مهترئة” على الأقل.
أما قاطنو المخيم فلا يجدون لمقاومة الحرارة إلا وضع قطع قماش يبللونها باستمرار على أسقف خيامهم، فيما لجأ بعضهم الآخر – الذي تساعده بنية خيمته الجيدة – إلى وضع مزيج من الطين والمياه، وجعله كمادة إكساء على أسقف وجدران الخيمة، على أمل أن يشكل ذلك طبقة عازلة تخفف من أثر الحرارة على عائلته ريثما تنقضي الموجة كما يأمل.
رجل يبلل قطعة قماش وضعها على سقف خيمته لتخفيف الحرارة – مخيم أهل التح
خيمة قام أهلها بتغطيتها بمزيج من الطين والإسمنت لتخفيف الحرارة – مخيم أهل التح
لا يبدو أن حلولًا إسعافية قريبة ستغير من حال أهل المخيم أو أي من مخيمات الشمال السوري الكثيرة، ولا يوجد ربما أي حل للمأساة الحاضرة الدائمة المتجددة مع كل موجة حر أو برد إلا بعودة هؤلاء لمنازلهم وبلداتهم التي هُجِّروا منها، التي يبدو أن كل ما يحدث معهم يذكرهم بها وبعظم جريمة من أخرجهم منها، فقبل أن نغادر المخيم أخبرنا أحد قاطنيه الذي رفض السماح لنا بالتقاط صورة له:
“نحن صح تهجرنا وعم نشوف جهنم الدنيا.. بس يا ويلهم من الله هالظلّام روسيا وإيران والنظام.. رح يشوفو جهنم الآخرة.. وما رح ينفعهم شي وقتها”.