ترجمة وتحرير: نون بوست
لا أستطيع النوم داخل شقتي خلال فصل الصيف في العاصمة تونس. تقع شقتي في أعلى مبنى مكون من ثلاثة طوابق في وسط العاصمة التونسية، وتصبح بمثابة فرن في أشهر حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو وآب/ أغسطس. تنبعث الحرارة من الجدران، ثم تتحرك في شكل دائري بواسطة مروحة تحاول دون جدوى تبريد الغرفة. عند حلول الليل، تنخفض درجات الحرارة ويعود النسيم، لكن الهواء في الداخل يظل كثيفا ودافئًا بشكل خانق. لاحظت أن جيراني بدأوا في النوم في الخارج في شرفة منزلهم، ولذا اتبعتُ حذوهم وبدأت أنام على شرفة السطح.
يعد النوم في الخارج أسلوبًا لطالما استُخدم للنوم بأريحية في المناخات الحارة. أخبرني والدي أنه اعتاد هو وإخوته أثناء نشأته في إيران على نقل المراتب إلى السطح للنوم في الصيف. ولكنهم توقفوا عن فعل ذلك عندما انتقلوا إلى منزل جديد واشتروا مكيف هواء.
على الرغم من أن مكيف الهواء أصبح الآن الحل الأمثل للحفاظ على البرودة، إلا أنه يمثل كارثة بيئية. فوفقًا للوكالة الدولية للطاقة، تستخدم المباني أكثر من نصف الكهرباء في العالم، في الغالب لتعديل درجة الحرارة والتهوية، وتستهلك وسائل تبريد الهواء نسبة 20 بالمئة تقريبًا من الطاقة.
في السنة الماضية، كانت أجهزة تبريد الهواء مسؤولة عن 1 جيجا طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. ومن المفارقات أن التكنولوجيا المصممة للتبريد تتسبب في رفع درجة حرارة الكرة الأرضية. في سياق متصل، يقول آلان شورت، أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة كامبريدج ومؤلف كتاب “انتعاش البيئات الطبيعية في العمارة”، إن تكييف الهواء غيّر بشكل أساسي عمل المهندس المعماري، حيث “لم يعد المهندسون المعماريون يأخذون البيئة بعين الاعتبار عند تشييد المباني بعد الآن – بل أصبح مهندس تكييف الهواء يفعل ذلك”.
يؤكد تغير المناخ بشكل متزايد على ضرورة إعادة النظر في هذا الموضوع المهمل. تزايدت موجات الحر من حيث العدد والشدة في جميع أنحاء العالم، وشهد الشرق الأوسط درجات حرارة قياسية تجاوزت 50 درجة مئوية هذا الصيف، وفي 17 آب / أغسطس، سجل وادي الموت في كاليفورنيا الرقم القياسي العالمي الذي بلغ 54.4 درجة مئوية.
تشهد أوروبا أيضًا عددًا مزيدًا من موجات الحر التي أحاطت بمدنها. هذا الشهر، شهدت المملكة المتحدة أطول فترة تتميز بدرجات حرارة مرتفعة منذ أن بدأت عمليات التسجيل الجوية في الستينات، حيث وصلت إلى 37.8 درجة مئوية. وسجلت باريس السنة الماضية أعلى درجة حرارة على الإطلاق بلغت 42.6 درجة مئوية.
الجدران الحجرية السميكة للمدينة في العاصمة تونس وأبوابها الخشبية المطلية باللونين الأزرق والأبيض.
يعاني أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف تكييف الهواء أكثر من غيرهم، في المقابل يزيد القادرون على توفير وسائل التكييف من تفاقم المشكلة. تتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن الطلب على الطاقة لغرض التبريد يمكن أن يتضاعف ثلاث مرات بحلول سنة 2050، إذا لم يتم اتخاذ أي إجراء. ومع ذلك، يقول شورت: “من الممكن تماما إنشاء مبانٍ مريحة في المناخات الحارة، والتي ستسفر عن تأثيرات كربونية ضئيلة، [لكن] المهندسين المعماريين عمومًا يتبعون نماذج قديمة جدًا وحديثة متأخرة”.
تقليديا، صُممت المنازل في تونس لتخفيف الحرارة، حيث صُنعت الجدران من الأحجار السميكة ووقعت تغطية الفناء المركزي جزئيًا بالإيوان، مما يوفر الظل ويبرد الهواء خارج الغرف، كما تقول شيراز مصباح، الباحثة في مختبر علم الآثار والهندسة المعمارية في المغرب العربي، والتي بُني منزلها في تونس بجدران حجرية ذات مقاس 50 سنتيمتر.
حيال هذا الشأن، تقول مصباح: “عندما تدخل المنزل، قد تعتقد أنه مكيف – حيث يمتص الحجر الحرارة ولا يسمح لها بالدخول إلى المنزل”. (الجدران في المبنى الذي أقطن فيه، والتي أخبرتني مصباح أنها بُنيت بين الستينات والثمانينات، تعد أقل سمكا).
المباني الاستعمارية في تونس مع وحدات تكييف هواء مثبتة من الخارج.
منزل تقليدي عتيق في المدينة.
في بداية الفترة الاستعمارية سنة 1881، رفض الحكام الجدد الأساليب التقليدية وبدأوا في بناء منازل على الطراز الأوروبي بنسق سريع، وذلك من أجل جذب الفرنسيين للعيش في تونس. في هذا السياق، تقول مصباح: “تم بناء المدينة الاستعمارية ‘بعقلية الغزاة’ “ووفقًا للمبادئ الغربية. لم تكن جميع المباني مصممة للتدفئة على الإطلاق، وامتلكت نوافذ كبيرة جدًا”.
على عكس الطرق والمنازل ذات الطراز الأوروبي، صُممت متاهة الشوارع في مدينة تونس لتخفيض الحرارة والحفاظ على الخصوصية. “كشف [الفرنسيون] عن ثرواتهم وأطلت منازلهم على الخارج، لكن عندما نغلق المنزل تكون الحرارة منخفضة أيضا”.
إن البرج الزجاجي هو أكبر مثال على عبارة المنزل “المفتوح على الخارج”، وأكثرهم عرضة لأشعة الشمس. ترسخ النمط السائد الآن في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، مع تشييد مبان زجاجية بالكامل بإطارات فولاذية. تم بعد ذلك إعادة إنتاج الهياكل المشيدة في الخمسينات، مثل ناطحة “ليفير هاوس” في نيويورك، في جميع أنحاء العالم بغض النظر عن المناخ، وهو انعكاس للجمالية الحداثية المعروفة باسم الطراز الدولي. يقول شورت: “كانت الفكرة هي إنشاء مبان متطابقة المظهر للأماكن المختلفة حول العالم، وفكرة تكييف الهواء هي تطابق كل المباني من الداخل: جعلها كلها باردة”.
وسط المدينة في دبي، بناطحات السحاب الزجاجية الخاصة بها ومراكز التسوق المكيفة. كانت تستخدم أبراج الرياح للحفاظ على البرودة.
تشتهر مدينة دبي اليوم بناطحات السحاب الزجاجية ومراكز التسوق المكيفة، لكنها كانت تحافظ على البرودة باستخدام أبراج الرياح – وهي أبراج مربعة في الجزء العلوي من المبنى من شأنها توجيه الهواء إلى الداخل عبر فتحات موجودة على الجوانب الأربعة.
هذه الأبراج – التي تم استخدامها في الشرق الأوسط منذ 1300 سنة قبل الميلاد على الأقل – تعمل بشكل طبيعي على تكييف الهواء في المباني عن طريق التحكم في الرياح. تم التخلي عن أبراج الرياح في دبي منذ أوائل القرن العشرين – باستثناء الافتخار بها كجزء من تراث البلاد على المباني والمقاعد ومنافض السجائر – ولكن المهندسين المعماريين في أماكن أخرى يستخدمونها للتخلص من الحاجة إلى مكيفات الهواء.
استخدم شورت وزملاؤه مصدات الرياح والحجارة في التصميم لعملية بناء مصنع الخمور “فارسونز” في مالطا – أحد أقدم المباني منعدمة الانبعاثات الكربونية – فتمكنوا من خفض درجة الحرارة بمقدار 14 درجة مئوية عن ذروة درجة الحرارة بالخارج.
أما في الصين، استخدموا أساليب مستوحاة من برج الرياح لتوزيع الهواء في المباني الحديثة المكونة من 25 طابقا. يقول شورت: “لقد حاولنا إعادة بناء مزايا بعض المنازل التقليدية في الشرق الأوسط في هذه الأبراج”، مضيفا أن جائحة فيروس كورونا قد أكدت على الحاجة إلى التهوية الطبيعية في المباني للمساعدة في طرد الفيروسات للخارج. من جهة أخرى، وقع إعادة استخدام نفس التكنولوجيا القديمة من قبل المهندسين المعماريين في شركة “زيد فاكتوري”، الذين قاموا بتحفير سقف مشروعهم السكني منعدم انبعاثات الكربون في جنوب لندن بأنابيب رياح متعددة الألوان في سنة 2002.
سقف الحمام وبرج الرياح. أصفهان، إيران.
أبراج الرياح في لافت، إيران.
بالنسبة لبعض المهندسين المعماريين، يقترن الاهتمام بالابتكارات البيئية للعمارة العامية بالتركيز الثقافي المتجدد على المنطقة المحلية. يقول لوسيو فريغو، مؤسس شركة ماتيريا المدمجة، وهي شركة تنمية حضرية مستدامة: إن “هناك استياء من اللغة المعمارية المسطحة التابعة للطراز الدولي – قد باتت كل المدن المتطابقة، وهناك اهتمام جديد بالحركة الخضراء. فاليوم يقول الناس: دعونا نعيد بناء علاقتنا مع التقاليد”.
في القنيطرة، غرب المغرب، تم تغطية محطة قطار جديدة من تصميم شركتي سيلفيو داسيا للهندسة المعمارية وعمر كوبيتي للهندسة المعمارية بشبكة مشربية – وهي عنصر من عناصر العمارة الإسلامية التي تقلل درجات الحرارة من خلال التظليل وإحداث تهوية طبيعية للهواء. يقول المهندس المعماري عمر كوبيتي: “كان الهدف هو تقليل تكييف الهواء قدر الإمكان و إعطاء المبنى هوية تعكس العمارة التقليدية”.
مدرسة بينجا ريفرسايد الأهلية، موزمبيق.
كان أحد مشاريع فريغو مدرسة في موزمبيق مع المهندس المعماري فرانسيس كيري، الذي صمم مدرسة ابتدائية مناخية طبيعية حازت على جوائز في بلدته غاندو في بوركينا فاسو، ومعارض سيربنتين في لندن. تكون درجة حرارة المدرسة أبرد من الخارج بين 12-15 درجة مئوية بفضل الطوب الحراري الطيني والتهوية الطبيعية الداخلية والسقف المكون من طبقتين. ومع ذلك، يقول فريغو إن “الناس يشتكون قليلا” من الحرارة، وما زال العديد من العملاء يطالبون بمكيفات الهواء، التي تدل على علو المكانة الاجتماعية.
تقول سوزان رواف، بروفيسورة في الهندسة المعمارية في جامعة هيريوت وات في إدنبرة، إن هذا يحدث لأن مجال صناعات تكييف الهواء قد خدعتنا. “قاموا بإقناعنا بالأسطورة القائلة إنه لا يمكنك أن تشعر بالراحة إلا بين 20 و26 درجة مئوية فقط من أجل بيع آلاتهم لنا، ولكن في الواقع تمكنت البشرية من العيش في مدى واسع من درجات الحرارة”. وتضيف رواف أن المنزل في 35 درجة مئوية يمكن أن يكون “مريحًا”، اعتمادا على الشخص والموقع. قد يتطلب الأمر ثورة ثقافية للتقليل من شأن وعصرية مكيفات الهواء.
المصدر: فايننشال تايمز