استيقظ المصريون صبيحة الـ3 من سبتمبر/أيلول الحاليّ على قرار صادر عن رئيس الجمهورية يحمل رقم 459 لسنة 2020 منشور بالجريدة الرسمية في عددها 33 مكرر (ح)، خاص بإزالة صفة النفع العام عن عدد من أملاك الدولة العامة الحيوية وضمها للصندوق السيادي.
القرار الرئاسي تضمن نقل ملكية 190 فدانًا أو ما يوازي 800 ألف متر مربع تقع في قلب القاهرة وتقدر قيمتها بمئات المليارات من الجنيهات، من الملكية العامة للدولة التي هي في الأساس ملكية الشعب، إلى ملكية الصندوق الذي وافق البرلمان المصري (مجلس النواب) في يوليو 2018 على تأسيسه تحت مسمى “صندوق مصر”، برأسمال 200 مليار جنيه (11.2 مليار دولار تقريبًا).
العديد من المخاوف فرضت نفسها عقب هذا القرار لا سيما أن بعض العقارات المنقول ملكيتها للصندوق تعد ثروة تراثية ومعمارية وتاريخية كبيرة، كمجمع التحرير في وسط العاصمة، أحد أبرز ملامح مصر الحديثة، وهو ما أثار تساؤل الشارع عن مصير أصول الدولة العقارية في ظل الهرولة نحو تضخيم ثروات هذا الكيان حديث النشأة.
لم تكن تلك المخاوف وليدة اللحظة، بل ترجع إلى قبل عامين حين تم تدشين الصندوق، الذي من المفترض أن يتولي إدارة فوائض الدولة المالية في الخارج على غرار الصناديق السيادية الخليجية والصناديق المشابهة في دول أوروبا، غير أن اقتصار الأمر على أن تؤول إليه أصول الدولة لإدارتها كان مثار جدل كبير، إذ لا فرق في هذه الحالة بينه وبين الوزارات الاقتصادية الأخرى.
يذكر أن حجم ثروات الصناديق السيادية في مختلف دول العالم يتجاوز حاجز الـ7 تريليونات دولار في بعض التقديرات، ويعد صندوق معاشات التقاعد النرويجي أكبر تلك المنظومة على الإطلاق، إذ يبلغ حجمة نحو تريليون دولار، أما على المستوى العربي فيتصدر صندوق أبو ظبي، الثالث عالميًا، بإجمالي أصول 683 مليار دولار، يليه صندوق النقد السعودي في المركز الخامس عالميًا بأصول 494 مليار دولار.
مصير أصول مصر العقارية
شمل القرار الأخير بجانب مجمع التحرير الذي يعد أضخم مجمع حكومي في مصر، مقر وزارة الداخلية القديم والمقر السابق للحزب الوطني المنحل، على طريق كورنيش النيل، الذي تعرض لحريق في أثناء ثورة 25 يناير، إضافة إلى مباني وأرض القرية التعليمية الاستكشافية بمدينة السادس من أكتوبر وملحق معهد ناصر بكورنيش شبرا مصر وأرض حديقة الأندلس بطنطا.
المادة الخامسة من قانون تدشين الصندوق، أعطت رئيس الدولة الحق المطلق في نقل ملكية أي من أصول الدولة غير المستغلة لصندوق مصر، وهو ما أثار المخاوف بشأن ضم المزيد من الأصول الأخرى، خاصة القريبة من تلك التي تم نقل ملكيتها قبل أيام، وعلى رأسها برج القاهرة ومرفق مترو الأنفاق وأراضي سكك حديد مصر، بجانب حديقة الحيوانات بالجيزة ومقر اتحاد الإذاعة والتليفزيون.
القائمون على أمور الصندوق وعلى رأسهم رئيس الجمهورية لم يوضحوا الأسس القانونية التي على أساسها تم التنازل عن هذه الأصول الإستراتيجية المملوكة للدولة لصالح السيادي، وهو ما أحدث حالة من الغموض والبلبلة لدى كثير من المتابعين لا سيما خبراء الاقتصاد، ما عزز المخاوف التي ساقها البعض منذ تدشين هذا الكيان.
في أكتوبر/تشرين الأول 2018 تقدّم عضو مجلس النواب المصري محمد فؤاد، بطلب استيضاح من رئيس الوزراء بشأن المعايير التي على أساسها ستؤول ملكية أصول بالدولة إلى “صندوق مصر”، لافتًا حينها إلى ما أثير بشأن “اعتزام بعض الوزارات والجهات الحكومية، ومنها على سبيل المثال – لا الحصر – وزارتي الصحة والسكان، البدء في عملية حصر لأصولها غير المستغلة الواقعة تحت ولايتها، تمهيدًا لطرحها في شراكة مع القطاع الخاص، ومن ضمنها مستشفى العباسية للصحة النفسية بمحافظة القاهرة وبعض القصور بمحافظة المنيا بصعيد مصر ومجموعة من المباني بمحافظة المنوفية”. ومن ثم نقل تبعيتها وملكيتها للصندوق.
وفي الوقت الذي تهرول فيه الدولة لزيادة رصيد هذا الصندوق، هناك تساؤل يطرح نفسه على ألسنة المتخصصين يتعلق بمدى ملاءمة الظرف الاقتصادي المصري لخطوة كهذه، إذ تذهب كل التعريفات الأكاديمية والاقتصادية أن صناديق الثروة السيادية عبارة عن كيانات قانونية لإدارة فوائض الدولة واستثمارها من أجل مستقبل أبنائها.
وفي المقابل فإن سياسة الاقتراض التي تعتمد عليها الحكومة لسد العجز الذي تعانيه وأدت في نهاية المطاف إلى ديون خارجية غير مسبوقة في تاريخ مصر، تجاوزت حاجز الـ112 مليار دولار، هذا بخلاف الضغوط الممارسة على المواطنين لعلاج أخطاء النظام، كل هذا لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون بيئة خصبة لتدشين صندوق كهذا على غرار ما هو معمول به في دول العالم الأخرى.
حصانة مطلقة ضد الرقابة
حصل الصندوق على العديد من المميزات القانونية والإدارية لم تحصل عليها مؤسسة حكومية قبله، بل تجاوز في مجملها تلك التي تحصل عليها الوزارات السيادية بالدولة، وهي النقطة التي عززت المخاوف ودفعت بالبعض إلى طلب استيضاح رسمي بشأن آليات الحساب والمراقبة.
وفق التعديلات الطارئة على قانون تأسيس هذا الكيان، التي أقرها البرلمان، فإنه بات محصنًا وبشكل كامل من كل أوجه الرقابة بنوعيها، الرسمية والشعبية، كذا المساءلة والملاحقة القانونية، وهذا من شأنه أن يفتح بابًا كبيرًا للفساد والمحسوبية، بل قد يعرض المال العام للدولة للإهدار في ظل هذا المناخ المفتقد لأبجديات الحساب والعقاب.
إضافة إلى ذلك فإنه قد حصل على حزمة امتيازات غير مسبوقة، على رأسها إعفاء التعاملات كافة من كل أشكال الضرائب والرسوم، ما يعني أن خريطة أنشطته وتحركاته ستتحمل الدولة وحدها كلفتها دون أي أعباء على الكيان أو الاستفادة الشعبية منه، وهو ما قد يجعله بحسب وصف البعض “دولة داخل الدولة”.
ورغم التصريحات الصادرة عن الرئيس التنفيذي للصندوق بأنه يخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، كما أنه مطالب بتقديم تقرير سنوي للجمعية العمومية يستعرض خلالها نشاطه المالي والإداري على مدار العام، ويتم رفعه لرئيس الدولة، فإن تلك التصريحات خوت من أي إشارة لا من قريب أو بعيد لمراقبة أنشطة وقرارات الصندوق الذي من المتوقع أن يدير أصول تتجاوز قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.
الغموض الذي يحيط بالصندوق وجدران التحصين الأسمنتية ضد الرقابة والمساءلة، تضع ما يقرب من 90% من أصول وممتلكات الدولة المصرية على المحك، كونها من الممكن وفق التعديلات الأخيرة أن تصبح بين غمضة عين وانتباهتها تحت قبضة هذا الكيان صاحب الحرية المطلقة في التصرف فيها، والمتحرر تمامًا من أسس المحاسبة والمراجعة.