يعيش السودانيون في العديد من الولايات أوضاعًا كارثيةً إثر الفيضانات التي ضربت البلاد فأسفرت حتى كتابة هذه السطور عن مقتل 101 سوداني وإصابة 46 آخرين، فيما تم تشريد مئات الآلاف من السكان، بعد أن أدت إلى انهيار أكثر من 100 ألف منزل، بحسب البيانات الصادرة عن الجهات الرسمية.
وإزاء هذه الوضعية الحرجة المتوقع تفاقمها أعلن مجلس الأمن والدفاع (أعلى هيئة أمنية في البلاد) حالة الطوارئ في أنحاء البلاد كافة لمدة 3 أشهر، بجانب اعتبار السودان منطقة كوارث طبيعية، بعدما تجاوزت رقعة الخسائر حاجز النصف مليون إنسان بحسب تصريحات وزيرة العمل والتنمية الاجتماعية لينا الشيخ.
ورغم استنفار السلطات السودانية لمواجهة الأزمة، فإنها تعرضت لهجوم وانتقادات حادة بسبب ما سُمي “التحرك البطيء والمتأخر”، هذا بجانب تجاهلها للتحذيرات السابقة الصادرة عن الهيئة العامة للأرصاد الجوية التي توقعت في مايو/أيار الماضي ارتفاعًا غير مسبوق في مناسيب النيل.
رئيس الجمعية السودانية للأرصاد الجوية، حمّل الحكومة المسؤولية لضعف استجابتها للتحذيرات التي أطلقتها الهيئة ومركز “إيقاد” للتوقعات المناخية قبل عدة أشهر، لافتًا إلى أن تلك التحذيرات أفادت حينها بأن بحيرة فكتوريا التي ينبع منها النيل الأبيض ستشهد بدورها فيضانات هي الأعلى منذ 50 سنة، الأمر الذي لم تضعه الدولة في حسبانها، إلا بعد أن فاض النيل وغمرت المياه العديد من الأحياء.
ويخيم شبح سيناريو فيضانات الخرطوم 1988 على الشارع السوداني، ومن قبلها فيضانات 1946، تلك الكارثة التي خلفت وراءها عشرات القتلى، فيما فقد أكثر من مليوني مواطن منازلهم بعد أن غمرت مياه نهر النيل معظم مناطق شمال ووسط البلاد، هذا في الوقت الذي يخشى آخرون أن تتجاوز الأزمة الحاليّة تلك التي كانت قبل 32 عامًا حال استمر الوضع على ما هو عليه.
منسوب قياسي
يعد منسوب النيل الأزرق هذا العام هو الأكبر منذ عقود طويلة، حيث ارتفع إلى 17.58 متر (57 قدمًا)، فيما وصفته وزارة المياه والري بأنه وصل إلى “مستوى تاريخي منذ بدء رصد النهر في العام 1902″، وكانت القمة السابقة 17.26 متر، بينما أوضح وزير الري ياسر عباس أن المنسوب الحاليّ كان أعلى من فيضان 1946 القياسي الذي كان عند محطة الخرطوم، في حدود 17.14 متر.
ويبدأ موسم الأمطار الخريفية في السودان من يونيو/حزيران ويستمر حتى أكتوبر/تشرين الأول، فيما يحاصر الفيضان أغلب مناطق ولاية الخرطوم المطلة على 3 أنهر “النيل الأزرق والأبيض ونهر النيل الرئيسي” أما جزيرة توتي – قرب مقرن النيلين الأزرق والأبيض -، فتعاني سنويًا من أزمات متلاحقة من أجل النجاة من الغرق.
يذكر أن فيضان النيل يهدد سنويًا سلسلة جزر في مناطق أبو حمد بولاية نهر النيل، ما يدفع السلطات إلى إخلاء هذه الجزر لعدة أسابيع لحين انجلاء ذروة الفيضان منتصف أغسطس/آب، لكن خلال السنوات الأخيرة تغير الوضع بصورة كبيرة حيث بات للنيل ذروات فيضانية أخرى في سبتمبر/أيلول، وهو ما حدث.
ولمواجهة الكارثة اتخذت السلطات عددًا من الإجراءات منها تصريف المياه من سد الرصيرص بواقع 550-650 مليون متر مكعب يوميًا، مع مراعاة الحفاظ على سلامة السد حال احتجاز كميات مياه أكبر، هذا بجانب مساعي تصريف المياه في عدد من الأنهار الأخرى مثل نهري الرهد والدندر.
وعن الاتهامات التي وجهت لسد النهضة بإثيوبيا والسد العالي بمصر وتحميلهما مسؤولية تفاقم الكارثة، أشار الوزير السوداني أنهما ليس لهما أي علاقة بما حدث، مضيفًا في تصريحات له “حال تشغيل سد النهضة فإنه سيحمي السودان من الفيضانات، كما أن بحيرة السد العالي تنتهي بنحو 150 كيلومترًا جنوبي وادي حلفا وآخر امتداد للبحيرة شمال دنقلا بمسافة كبيرة، وبالتالي ليس لها أثر في فيضان النيل في الخرطوم ولا في منطقتي مقاشي وحزيمة بالولاية الشمالية”.
ما الأسباب؟
بعد تبرئة وزير الري السوداني للعوامل الخارجية فيما يتعلق بمسؤوليتها عن الأوضاع المتدهورة اتجهت الأنظار إلى العوامل الداخلية التي كانت سببًا رئيسيًا في الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة التي تعاظمت معها الخسائر على المستويات المادية والبشرية، على رأسها عدم قدرة معظم السدود الداخلية في البلاد على حجز كميات كبيرة من المياه كونها غير مؤهلة لذلك من الناحية الإنشائية والهندسية.
علاوة على ذلك فإن البنية التحتية للمناطق والقرى السودانية التي ضربها الفيضان ليست على المستوى القادر على التصدي لمثل هذه الفيضانات، فمعظم بناياتها بالطوب اللبن، وهو ما يجعلها هشة في مواجهة مثل تلك الحوادث، هذا بخلاف غياب الخطط الإستراتيجية المعدة لمجابهة فيضانات الخريف بجانب عدم وجود الموارد المادية اللازمة لذلك.
وبجانب تلك العوامل الداخلية فهناك عوامل أخرى من صنع الطبيعة، كان لها دور مؤثر في تفاقم الأزمة، كوجود وديان ضخمة تربك قراءات مناسيب نهر النيل بعد عبوره إثيوبيا للسودان، إضافة إلى وجود روافد موسمية للنيل الأزرق – مثل أنهار الرهد والدندر وعطبرة – تدفع سنويًا بمياه مهولة لمجرى نهر النيل في موسم الفيضان.
الأمطار الغزيرة التي شهدتها البلاد خلال الآونة الأخيرة كان لها دور كبير في تعميق الأزمة، حسبما أشار الأستاذ في هندسة السدود المائية محمد حافظ في تصريحاته لـTRT عربي، حين علل ما حدث بأن “المنطقة المدارية التي يمر فيها السودان وحتى الصين، كانت غنية جدًا بالمياه خلال الأسابيع الماضية، بسبب غزارة الأمطار التي سقطت بكثافة أكبر من قدرات السدود”، محملًا التغيرات المناخية المسؤولية الكبرى لما وصلت إليه الأمور.
#فيضانات_السودان
هكذا تنهار البيوت الشعبية ومنازل الضعفاء
اللهم كن لهم عوناً ونصيرا pic.twitter.com/k2wPGscIOw— أبوبكر أحمد محمد احمد الدالي (@q12kVf1YAQF6vSI) September 5, 2020
خسائر فادحة
رغم عدم وجود إحصاء رسمي بشأن الخسائر المتوقعة للفيضانات الحاليّة، فإن التقديرات تشير إلى أنها ستكون مكلفة للغاية، سواء فيما يتعلق بالخسائر البشرية (101 قتيل قابل للزيادة) أم الخسائر المادية المتعلقة بتشريد عشرات الآلاف وتركهم لمنازلهم، بجانب الأضرار التي لحقت بقطاع الصناعة والزراعة والعمالة.
بعض الخبراء ذهبوا إلى أن الكلفة الأولية لإعادة إعمار ما دمرته السيول سيتجاوز ملياري دولار، منها خسائر زراعية وسكنية وفي البنية التحتية، حسبما قدر الخبير الاقتصادي عادل عبد المنعم، الذي لفت إلى تضرر أكثر من نصف مليون فدان زراعي من تبعات الفيضانات.
التقديرات الرسمية تشير إلى انهيار 5500 منزل في خمس ولايات بشكل كامل بسبب الفيضانات، فيما تعرض 100 ألف منزل لانهيارات جزئية، فضلًا عن إتلاف المنازل وإتلاف آلاف الفدادين من المحاصيل الزراعية ونفوق أعداد كبيرة من المواشي، فيما كشف مجلس الأمن والدفاع عن خسائر باهظة في قرابة 16 ولاية في البلاد.
وأمام هذا الوضع المتأزم بادرت بعض الدول بإرسال مساعدات عاجلة للسودانيين، لكنها بالطبع لن تكون كافية، في ظل ترجيحات استمرار الوضع لفترات قادمة، مع احتمالية تكراره خلال السنوات المقبلة، ما يتطلب ضرورة تبني سياسات وإستراتيجيات رسمية ذات تمويل كافٍ لمواجهة تلك المخاطر التي ربما تتجاوز تداعياتها حاجز عض الأصابع والرضا بالقضاء والقدر إلى ما هو أكبر من ذلك.
أزمة جديدة تضاف إلى سلسلة الأزمات التي يواجهها سودان ما بعد البشير، فبينما يسارع عبد الله حمدوك وحكومته من أجل تحسين الأوضاع المعيشية هربًا من المأزق الاقتصادي الذي تواجهه البلاد، إذ به يتلقى هذه الطعنة غير المتوقعة، لتضعه ورفاقه في موقف حرج أمام الشعب المتعطش لجني ثمار ثورته في أسرع وقت، الذي ليس لديه أي مشكلة في النزول للشارع مرة أخرى كما حدث قبل عامين.