شكلت الأممية الشيعية إحدى أبرز تجليات الثورة في إيران، وذلك عبر تأميم كل الحركات والمجتمعات الشيعية في العالم، من خلال تذويبها سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وأيديولوجيًا ضمن الوعاء الإيراني الكبير، وتحويل هذه الحركات والمجتمعات إلى مصدات إستراتيجية لنظام ولاية الفقيه، وذلك عبر التأكيد أن إيران المسؤولة عن جميع الشيعة في العالم.
فالأممية الشيعية – حسب فكر الثورة الإيرانية – جاءت لتجاوز الحدود السياسية التي تفصلها عن المجتمعات الشيعية في الدول الأخرى، من أجل الارتباط والتعاون السياسي، فهي سعي إيراني لربط شيعة العالم عبر الحدود الوطنية لتعزيز المصالح القومية الإيرانية، في تشكيل الإمبراطورية الشيعية العالمية التي تعتبر الجمهورية الإسلامية نواتها الحقيقية.
إذ برزت التعبيرات الأساسية لمفهوم الأممية الشيعية في العديد من مواد الدستور الإيراني عام 1979، التي أكدت مبادئ سياسية عديدة منها العالمية ونصرة المستضعفين ومحاربة الاستكبار، كما أنها أكدت الدور الأممي للحرس الثوري في دعم الحركات والجماعات الإسلامية “السنية والشيعية” على حد سواء، فمنذ اللحظات الأولى لانتصار الثورة عام 1979، ارتكز مفهوم الأممية الشيعية بصورة أساسية على تقسيمات الخميني للعالم، فقد قسم العالم إلى ثلاثة أقسام رئيسة وهي: عالم إسلامي تقوده إيران وعالم اشتراكي يقوده الاتحاد السوفيتي وعالم رأسمالي تقوده الولايات المتحدة.
رؤية إيران للأممية الشيعية
هدف إيران في تأكيد الأممية الشيعية عبر نظرية ولاية الفقيه، ليست مجرد شعارات ثورية، بل مواقف وتصريحات صدرت عن المرشد الأعلى أو حتى قيادات في الحرس الثوري، ومن ذلك ما قاله اللواء يحيى رحيم صفوي المستشار العسكري للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي: “العالم يتجه نحو إقامة حكومة إسلامية عالمية بإدارة إيران”، ووفقًا لوكالة فارس الإيرانية، فقد اعتبر صفوي أن شبان العالم الإسلامي في اليمن والعراق، يحتذون بنموذج شبان إيران، في إشارة إلى تأسيس مجاميع وأحزاب تابعة لنظام ولاية الفقيه.
فقد نجحت إيران عبر السنوات التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق، في تهيئة الأرضية المناسبة لتقوية نفوذها الديني في العالم الإسلامي، ولم يكن الجانب الديني ببعيد عن مجالات الهيمنة الأخرى، سواء كان ذلك على مستوى رجال الدين أم الأحزاب الإسلامية أم حتى الميليشيات المسلحة، بطريقة تشبه إستراتيجية الاتحاد السوفيتي تجاه الحركات الشيوعية في العالم الثالث في أثناء الحرب الباردة، وهو ما اصطلح على تسميته بالطريق نحو بناء الأممية الشيوعية.
هدف إيران في تأكيد الأممية الشيعية عبر نظرية ولاية الفقيه، ليست مجرد شعارات ثورية، بل مواقف وتصريحات صدرت عن المرشد الأعلى
عززت إيران منذ عام 1979، الخريطة الشيعية مقابل الخريطة الإيرانية، لأنها تفضل الاعتماد على المجتمعات الشيعية غير الإيرانية (الهزارة في أفغانستان والشيعة في جنوب لبنان والعراق والعلويين في سوريا والحوثيين في اليمن) أكثر منها على جماعات إيرانية عرقيًا كالأكراد والطاجيك، هذه الجماعات الشيعية بوصفها غاية ووسيلة للسياسة الخارجية الإيرانية، هي في الوقت نفسه تعبير أساسي عن الحركة الثورية التي تسعى إيران لتعميمها من أجل تحقيق الجيوبوليتيك الشيعي، وبعد أن نجحت ركيزتها الأولى في لبنان عبر “حزب الله”، وعلى غرار الاتحاد السوفيتي الذي كان في إمكانه الاعتماد على دعم الأحزاب الشيوعية في مختلف مناطق العالم، فإنها أوجدت لها جماعات شيعية تدعمها تحت مسميات عدة، ومن ثم تكاثرت الأحزاب الإلهية والأنصار وأنواع الحشود وغيرها، لكن تعقيدات نقطة الارتكاز الإيديولوجية هذه كبيرة.
فمع أن المذهب الشيعي لا يركن إلى مفهوم الأمة القومية التي تحمل خطر تقسيم الإسلام والتحذير المستمر من الواقع الوطني القومي للمذهب الشيعي، لكن المفارقة ونقطة الضعف هنا أن إيران نفسها دمجت بين شيعيتها وقوميتها وجعلتهما أمرًا واحدًا، فعندما تدعو إلى تبعية الشيعة للجامعة الشيعية ومركزها الدولة – الأمة إيران، فإنها تطرح عليهم التحدي الصعب بالتخلي عن انتمائهم الوطني، فكيف يمكنهم ذلك على خلفية الصراع التاريخي الذي أججته ممارساتها نفسها منذ بداية الثورة السورية! وأضافت إليه إعلانها استعادة الإمبراطورية الفارسية واحتلال 4 عواصم عربية!
إيران والمركزية الشيعية
في هذا الإطار ترتبط الأممية الشيعية بفكرة رئيسة وهي “مركزية إيران” في العالم الشيعي، التي تشير إلى تحول إيران إلى مركز الإسلام العالمي وتشكيل أمة إسلامية واحدة باستثارة الولاء الديني للشعوب لصهرها وتوحيدها خارج إطار الولاء الوطني، وجمعها تحت قيادة إيران وحكومة الولي الفقيه التي تقدم “الإسلام الصحيح” وتحافظ عليه لتقودها وتدافع عنها، وتحويل مدينة قم إلى مركز إسلامي عالمي بدلًا من مكة المكرمة والمدينة المنورة.
إن المركزية الشيعية برزت مع السنوات الأولى من نجاح الثورة الإيرانية، وبموجبها تم تقسيم العالم إلى قسمين هما: دار الإسلام ودار الكفر، إذ إن الأصل في الشريعة الإسلامية أنها شريعة عالمية، وعليه فإن إيران من يقود دار الإسلام حسب مفاهيم المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني، أما دار الكفر فإنها تشمل منطقتين هما: دار الحرب ودار العهد، وكل دار تحكمها مجموعة من القواعد العامة في التعامل مع غير المسلمين، ووفقًا لذلك فإن الأسس التي تقوم عليها الإستراتيجية الإسلامية تتركز على المصلحة الإسلامية العليا والعمل على إبقاء المركزية الشيعية نموذجًا للمجتمعات الإنسانية في السياسة القائمة على مبدأ الأصالة المذهبية في التعامل، ومن هنا تشير المركزية الشيعية بأنها جزء لا يتجزأ من الأممية الشيعية التي وضع أسسها الخميني.
أما الفكرة الأخرى التي تشكل الأساس الرئيس لفكرة الأممية الشيعية هي “الجمهورية الإسلامية”، فالحديث عنها بحاجة إلى الكثير من التفصيل والبيان، ومن هنا نكتفي بذكر إشارة مختصرة عنها، فوفقًا لما جاءت به المادة 57 من الدستور الإيراني عام 1979، التي أشارت إلى أن “السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، التي تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة”، وعبر هذه المادة الدستورية يتضح لنا أن إيران تقدم نظامها السياسي للعالم الإسلامي على أنه نظام أممي، ولا يقتصر على حدود إيران الحاليّة، وعللت إيران السبب في ذلك إلى أن هدف الجمهورية الإسلامية إقامة الحكومة الإسلامية العالمية بقيادة الولي الفقيه، وعلى جميع مجتمعات العالم الإسلامي أن تقتدي بنظام الجمهورية الإسلامية وتسير خلفه.
الفضاء الشيعي أوجد صلة رئيسة بين فكرتي الأممية الشيعية والجيوبوليتيك الشيعي، وعلى هذا الأساس وجدت إيران في فكرة الأممية الشيعية مجالًا عامًا يمكن عن طريقه ربط جميع الفضاءات الشيعية في العالم الإسلامي
كما سعى الخميني إلى تقديم الجمهورية الإسلامية على أنها تمثل انتصارًا حقيقيًا لثورة الإمام الحسين في كربلاء، وذلك عن طريق إقامة نظام حكم إسلامي يرتبط بالولي الفقيه الذي ينتسب لأهل البيت، وهو بذلك يرسل رسالة مباشرة للمجتمعات الشيعية في إطار العالم الإسلامي، بأن نظام الجمهورية الإسلامية يمثل مرحلة مهمة من مراحل التمهيد للمهدي، ليشكل الحكومة الإسلامية العالمية بقيادته، ومن أهم الأمور التي تدل علی أن الجمهورية الإسلامية هي دولة التمهيد للمهدي، هو رعاية الولي الفقيه للدولة الإيرانية، الذي ينبغي أن يكون ولي أمر المسلمين جميعًا، ومن ثم يمكن تعريف الجمهورية الإسلامية بأنها “النظام السياسي الذي جاءت به الثورة في إيران، الذي يكتسب شرعيته السياسية والتاريخية من كونه نظامًا يقوم على ولاية الفقيه الممهدة للإمام المهدي، الذي يعد حسب القائمين عليه النظام السياسي الشرعي الوحيد في العالم الإسلامي، وينبغي على المجتمعات الإسلامية وتحديدًا الشيعية الاقتداء به والارتباط عضويًا بالولي الفقيه القائم بأمر المسلمين”.
إستراتيجيات تحقيق الأممية الشيعية
عملت إيران على تنفيذ غاياتها وأهدافها القومية في تحقيق الجيوبوليتيك الشيعي عبر الأممية الشيعية، عن طريق إستراتيجيات عديدة ذات مستويات مختلفة، مستوى أعلى يطلق عليه “الخطة الكبرى لإقامة إمبراطوية المهدي العالمية”، ومستوى أدنى يعالج ما نطلق عليه الإستراتيجية المرحلية ذات المدى القريب والمتوسط “الإمبراطورية الشيعية الإقليمية”، إذ تحدد الخطة الكبرى إستراتيجية تنفيذ الأهداف العليا بعيدة المدى، التي تسعى إلى تحقيقها طبقًا لمراحل زمنية، حتى يكون القرن الحاليّ هو قرن إيران الشيعية بامتياز، أو كما أطلق عليه الدستور الإيراني عام 1979، قرن الحكومة الإسلامية العالمية التي يقودها الإمام المهدي، ويهيئ له ذلك ولي أمر المسلمين المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، أما الإستراتيجية المرحلية ذات المدى القريب والمتوسط، التي تعمل عليها حاليًّا في العالم الإسلامي، فهي ترسم أسلوب التعامل لتأمين دولة القلب المذهبي من التهديدات الخارجية.
إن الفضاء الشيعي أوجد صلة رئيسة بين فكرتي الأممية الشيعية والجيوبوليتيك الشيعي، وعلى هذا الأساس وجدت إيران في فكرة الأممية الشيعية مجالًا عامًا يمكن عن طريقه ربط جميع الفضاءات الشيعية في العالم الإسلامي وما بعده بالمركزية الإيرانية، لتشكل في النهاية مجالًا إستراتيجيًا رحبًا ممثلًا بالجيوبوليتيك الشيعي، عبر سلسلة من العلاقات السياسية والأمنية والدينية، وهي إستراتيجية اعتمدتها إيران طويلًا لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في إطار العالم الإسلامي.