امتدادًا لملف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض الذي تصنفه أنقرة تنظيمًا إرهابيًا، تتناول الأسطر التالية لـ”نون بوست” ملف الحزب في سوريا وتاريخه فيها وخريطة انتشاره في سوريا وحلفاؤه ومستقبل وجوده هناك.
حزب العمال في سوريا قبل الثورة
يعود تاريخ وجود حزب العمال الكردستاني في سوريا إلى عام 1981 عندما عُقِد مؤتمر حزب العمال الكردستاني الأول في سوريا في الفترة بين 15 و25 من يوليو/تموز، فحضر ذلك المؤتمر ما يقرب من 60 قياديًا ومقاتلًا من أعضاء الحزب، ومنذ ذلك الحين توطدت علاقات نظام حافظ الأسد مع العمال الكردستاني، إذ عقد في عام 1984 مؤتمر ثانٍ للحزب في سوريا وعقب ذلك المؤتمر شن الحزب عمليات مسلحة واسعة ضد أهداف عسكرية داخل الأراضي التركية في العديد من المدن التركية الجنوبية.
في مقال نشر على الموقع الرسمي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى عام 2012، يؤكد كاتب المقال سونر جاغبتاي أن حزب العمال الكردستاني انتشر في وادي البقاع في لبنان الذي سيطرت عليه سوريا فيما بعد خلال الحرب الأهلية، وشهدت تلك الفترة دعم الاتحاد السوفييتي للحزب في تلك المنطقة من أجل زعزعة استقرار تركيا التي كانت تمثل عضوًا بارزًا في حلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة، لافتًا إلى أن كلًا من سوريا والاتحاد السوفييتي جهزا مقاتلي الحزب بالسلاح فضلًا عن التدريب.
ويضيف كاتب المقال أن السنوات اللاحقة شهدت شن حزب العمال بعض الغارات من داخل الأراضي السورية باتجاه تركيا، إلا أنه ومع انهيار الشيوعية انتهى الدعم السوفيتي للحزب، لكن الدعم السوري له استمر وتصاعد من أجل كسب نظام حافظ الأسد مزيد من الأوراق ضد تركيا من خلال مطالبة دمشق بمحافظة هاتاي التركية، فضلًا عن مطالبات سورية أخرى بتقاسم مياه نهري دجلة والفرات.
وفي سعي تركي لإنهاء دعم سوريا للحزب، عملت أنقرة في بادئ الأمر على ذلك عبر الطرق الدبلوماسية، إلا أنها لم تنجح وأنكر السوريون حينها إيواءهم لمقاتلي الحزب وقياداته رغم أن زعيم الحزب عبد الله أوجلان كان يجري مقابلات صحفية مع وسائل الإعلام الدولية من موقعه في العاصمة السورية.
بعد أن استنفدت أنقرة الخيار الدبلوماسي، لجأت في تسعينيات القرن الماضي إلى الخيار العسكري، حيث هددت باجتياح سوريا عسكريًا ما لم تنه دمشق دعمها للحزب، الأمر الذي نجم عنه طرد دمشق لأوجلان وتوقيع البلدين اتفاقية أضنة عام 1998 ثم اعتقال أوجلان بعملية مخابراتية في إفريقيا وحكم عليه بعد ذلك بالسجن المؤبد، وبذلك يكون حزب العمال الكردستاني قد انتهى من سوريا حتى عاد للظهور مجددًا عقب بداية الثورة السورية التي اندلعت في مارس/آذار 2011.
عودة العمال الكردستاني لسوريا بعد الثورة
بعد إخراج دمشق لأوجلان من سوريا، تحسنت علاقات دمشق مع أنقرة وشهد البلدان تبادلًا تجاريًا ملحوظًا وعلاقات سياسية مميزة، ومع وصول حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم عام 2002، تطورت علاقات الصداقة والتعاون بين البلدين، ووصلت إلى حد التعاون الإستراتيجي، إذ عززت تركيا علاقاتها مع نظام “بشار الأسد” الذي خلف والده، وجاءت هذه السياسة التركية استنادًا إلى العمق الإستراتيجي وتصفير العلاقات مع الجيران التي تبناها العقل المفكر لحزب العدالة والتنمية حينها أحمد داوود أوغلو، حتى جاءت الثورة السورية عام 2011، لتشهد انقلابًا تركيًا على نظام بشار الأسد بعد الأفعال المروعة التي ارتكبها الأسد بحق السوريين.
إذ وبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011 وقطع أنقرة علاقاتها مع دمشق احتجاجًا من الأخيرة على استخدام النظام السوري العنف الوحشي ضد السوريين، عادت دمشق إلى سياستها القديمة، ففتحت الأبواب من جديد لحزب العمال الكردستاني، خاصة أن دمشق سمحت لفرع الحزب المحلي في سوريا (حزب الاتحاد الديمقراطي) بالتوسع والسيطرة على بعض المناطق الحدودية السورية مع تركيا، ما تسبب في استعادة حالة التوتر بين البلدين.
في أوائل الاحتجاجات السورية في مارس/آذار 2011، سمحت الحكومة السورية لزعيم حزب الاتحاد الديمقراطي السوري صالح مسلم بالعودة من منفاه إلى سوريا لقيادة الحزب، وفي النصف الأول من عام 2012 سحبت دمشق قواتها من معظم مناطق الكثافة الكردية وذلك لحاجتها إلى قوات أمنية لمواجهة السوريين في العمق السوري وكذلك لعدم وجود تهديد كبير لنظام الأسد في مناطق الأكراد.
وسهّلت سوريا دخول المئات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى أراضيها بالتنسيق مع الحكومة العراقية، ودخل هؤلاء الأراضي السورية بكامل تجهيزاتهم القتالية لدعم حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب) للضغط على تركيا وليس للقتال إلى جانبه.
وعن بدء العمل العسكري لحزب العمال الكردستاني في سوريا في هذه الفترة، تشير التقارير إلى أن الحزب بدأ نشاطه العسكري بشكل معلن في الربع الأخير من عام 2011، وكان النشاط مقتصرًا على إقامة بعض الدوريات في الطرق الفرعية المؤدية لبعض القرى الحدودية في ناحية الجوادية وديريك السوريتين، ثم استلم بعض القرى الحدودية مع بدايات سنة 2012.
وعلى إثر اتفاق أنقرة مع أوجلان على هدنة بينها وبين الحزب، أمر أوجلان مقاتليه بالخروج من الأراضي التركية، إذ كانت الفترة بين عامي 2012-2015 هي الفترة التي انتقلت خلالها أعداد كبيرة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني إلى سوريا، وكان ذلك مصدر ترحيب للأتراك في حينها، إذ اعتقد الأتراك أن المحرقة السورية كفيلة بالقضاء عليهم.
يشير الواقع الميداني إلى أن مناطق شرق الفرات السورية باتت مناطق نفوذ مطلقة لحزب العمال الكردستاني، حيث قضى الحزب وحلفاؤه في سوريا على أي صوت كردي معارض لوجود الحزب هناك، وبالتالي أضحت هذه المناطق رهينة الدور الأمريكي المتماهي مع وجود حزب العمال الكردستاني.
دور الولايات المتحدة
على الرغم من إعلان الرئيس الأمريكي عزمه سحب قواته من مناطق الأكراد في سوريا عام 2018، فإن الأشهر اللاحقة أثبتت أن الولايات المتحدة لا تزال موجودة وبقوة في جميع المناطق التي توجد فيها قوات سوريا الديمقراطية، حيث تسيطر قوات حماية الشعب الكردية التي تضم قوات سوريا الديمقراطية وغيرها من التشكيلات الكردية على جميع المناطق شرق نهر الفرات، وبطول حدود مع تركيا يصل إلى قرابة الـ450 كيلومترًا، وهو ما يشكل هاجسًا أمنيًا وإستراتيجيًا للأتراك.
وعن أسباب عدم انسحاب واشنطن من سوريا كما وعد ترامب، تشير دراسة نشرت على موقع الجزيرة إلى أنه وبعد القضاء على تنظيم الدولة (داعش) في العراق ومعظم الأراضي السورية، تقلصت مصلحة الولايات المتحدة فيها على اعتبار أن خطر التنظيم يكاد لا يذكر، غير أن ما أبقى وجود القوات الأمريكية في شرق الفرات بحسب الدراسة هو النفوذ الإيراني، الذي تسعى الولايات المتحدة لعدم تناميه ومنعه من فتح طريق بري يصل طهران بلبنان عبر العراق ودمشق، فضلًا عن أن الانسحاب الأمريكي وفي حال حدوثه قد يشكل فرصة لإيران التي لديها علاقات جيدة مع العمال الكردستاني، وبالتالي توسع النفوذ الإيراني لشرق الفرات والسيطرة على الموارد الطبيعية هناك من نفط وغاز وأراضٍ زراعية خصبة، وهو ما سيشكل فرصة للنظام السوري (المتحالف مع إيران) للعودة مرة أخرى والسيطرة على هذه المناطق بما سيصب في مصلحة إيران بالدرجة الأولى، خاصة أن النظام السوري استطاع بسط سيطرته على جميع المناطق التي انتفضت عليه باستثناء محافظة إدلب، وهو ما يجعل قواته العسكرية والأمنية على استعداد لعملية عسكرية أخرى بعد أن فرغت من القضاء على الثورة السورية.
وبالتالي يبقى ملف حزب العمال الكردستاني قائمًا في سوريا، مع تصارع قوى دولية وإقليمية على هذه المنطقة، خاصة إيران وروسيا من جهة والولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية ذراع الكردستاني من جهة أخرى، فضلًا عن الأتراك الذي يعتقدون أن استمرار توسع نفوذ حزب العمال في شرق الفرات سيشكل بيئة خصبة للحزب في مده بالمقاتلين والموارد والسلاح الذي يُزوَّد به الأكراد السرويون من كثير من الدول الغربية.