يبدو أن النفوذ الفرنسي في إفريقيا بدأ ينحسر شيئًا فشيئًا لصالح قوى إقليمية أخرى، ففي دولة مالي الغنية بالذهب مثلًا فقدت باريس السيطرة لصالح موسكو وهو ما ظهر جليًا في الانقلاب الأخير الذي عرفته هذه الدولة الإفريقية.
ضربة للمخابرات الفرنسية
منتصف أغسطس/آب الماضي، تخلص الماليون من رئيس البلاد إبراهيم أبو بكر كيتا (75 عامًا) الذي يعد أحد أبرز رموز الفساد وأعوان الإليزيه في الداخل، ممن يعملون وفق أجندات تخدم الدولة الفرنسية أكثر من الوطن.
سقوط نظام كيتا مثل جرس إنذار ورسالة شديدة اللهجة لفرنسا، خاصة أن هذا “التمرد” أو “الانقلاب” فاجأ عناصر مخابراتها المنتشرين هناك، فرغم وجودهم في البلاد لم يتوقعوا أن يحدث مثل هذا التغيير وكانوا يعتقدون أن الأمر سيتوقف عند المظاهرات والاحتجاجات السلمية فقط وأن حليفهم سيبقى على رأس السلطة.
ومنذ 2013 تنشر فرنسا قرابة (4500 عسكري) داخل الدولة الإفريقية في إطار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الصادر في 20 من ديسمبر/كانون أول 2012، الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال، وهي القوة الموجودة حتى الآن دون أي إنجاز محقق على أرض الواقع.
تراجع الدور الفرنسي خلال الفترة الأخيرة في دولة مالي، وقد تم التأكد من ذلك من خلال رحيل الرئيس كايتا
باريس التي طالما ساندت الديكتاتور كيتا وكانت بمثابة الداعم الأكبر له في مواجهة تطلعات شعبه، وذلك في مقابل حصولها على العديد من الامتيازات التي رهنت القرار السياسي للبلاد لصالح الإليزيه، لم يرق لها التغيير الذي حصل في هذه الدولة الإفريقية ونددت به مرارًا وتكرارًا وحشدت المجتمع الدولي للتنديد به ورفض التعامل مع السلطات الجديدة.
ويرى العديد من الماليين أن بوبكر كيتا يمثل الوجود الفرنسي في بلادهم، ما يجعل سقوطه مفتاحًا أساسيًا لوضع حد لفرنسا هناك، فهو الضامن لمصالحهم ورجلهم الذي يفتح لهم الطريق لنهب ثروات البلاد، رغم أن غالبية الشعب تعيش في فقر وخصاصة.
هذا الأمر جعل وقع سقوط كايتا مدويًا في مراكز الحكم في فرنسا، خاصة أن هذه الدولة الأوروبية تعتبر مالي قاعدة النفوذ الفرنسي المتبقي داخل القارة السمراء، وعليه ظلت حاضرة وبقوة في المشهد بتفاصيله كافة، حتى تحولت مالي إلى ما يشبه المستعمرة الفرنسية.
رحيل كايتا عن الحكم بهذه الطريقة، أكد أن الوجود الفرنسي في هذه الدولة الإفريقية غير مرضي عنه، وأن المشاعر المعادية للفرنسيين التي يغذيها الشك في أن المستعمر السابق يتدخل في شؤون البلاد تنامت بشكل كبير.
الدور الروسي في الانقلاب
صحيح أن النفوذ الفرنسي تراجع خلال الفترة الأخيرة في دولة مالي، وقد تم التأكد من ذلك من خلال رحيل الرئيس كايتا، لكن هذا التراجع لصالح من؟ لمعرفة ذلك الأمر وجب التحري في علاقات قادة الجيش الذين قادوا الانقلاب هناك.
هذا الانقلاب الذي نفذه مجموعة من الضباط الشباب وانتهى بالإطاحة بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا واعتقاله والعديد من أركان حكمه، خطط له الثنائي مالك دياو وساديو كامارا، وهما عقيدان بالجيش ويشغلان مناصب رفيعة في قاعدة كاتي العسكرية.
فاجأ الانقلاب في مالي المخابرات الفرنسية
هؤلاء القادة، وفق وسائل إعلام محلية ودولية، تلقوا تدريبات عسكرية في روسيا مطلع العام الحاليّ، وأفادت تلك التقارير أن القوات المسلحة الروسية رتبت للتدريب، وأن القادة العسكريين كانوا في روسيا منذ يناير/كانون الثاني من العام الحاليّ، وعادوا إلى مالي قبل أيام قليلة من الانقلاب العسكري.
الدور الروسي في الانقلاب يتضح أيضًا في الجانب الدبلوماسي، ففي الوقت الذي رفضت فيه أغلب الدول الغربية والإفريقية الاعتراف بالمجلس العسكري الذي تولى الحكم في مالي، كان السفير الروسي في مالي إيغور غروميكو، من أوائل الدبلوماسيين الأجانب الذين استقبلهم المجلس العسكري عقب الانقلاب.
تغير المعادلة
فبراير/شباط 2013، استقبل المئات من السكان المحليين في مدينة تمبوكتو الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في المطار بدفء، رافعين لافتة كبيرة عليها عبارات شكر لفرنسا وزعيمها، فيما خرج الآلاف إلى الشوارع للترحيب بالرئيس الفرنسي.
بعد 7 سنوات ونصف تغيرت الصورة، ففي 21 من أغسطس/آب الماضي، خرجت مظاهرات داعمة للانقلابيين في ساحة الاستقلال بالعاصمة المالية باماكو، لشكر روسيا، وهتف المتظاهرون “نريد التعاون مع روسيا” و”نريد روسيا” و”منذ اليوم الأول الذي وقع كايتا، اتفاقية عسكرية مع فرنسا أفلست مالي”.
ليس هذا فحسب، فقد عبر متظاهرون عن تفضيلهم لتعاون دولتهم مع روسيا والصين وتنويع شركائها على التعاون مع فرنسا، وهو ما يمثل صدمة كبيرة للفرنسيين، ذلك أن القرار السياسي في هذا البلد الإفريقي ظل في قبضة الحكومة الباريسية حتى بعد أن نعمت البلاد باستقلالها عام 1960.
تغلغل روسي على حساب فرنسا
هذا الانقلاب العسكري، أثبت أن روسيا تتغلغل على حساب فرنسا في مالي، سعيًا من موسكو إلى العودة لغرب القارة الإفريقية حيث كان الحضور السوفييتي طاغيًا ومتنوعًا هناك ولسنوات عدة، يذكر أن مالي كانت حليفة للاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة في غرب إفريقيا.
كان الاتحاد السوفييتي لاعبًا رئيسيًا في إفريقيا خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، حيث وفر الاتحاد مظلة أيديولوجية وسندًا عسكريًا ودعمًا كبيرًا للحركات الإفريقية المناهضة للاستعمار وللإمبريالية العالمية حينها.
هذا الاهتمام الروسي بإفريقيا، بدى واضحًا وجليًا في السنوات الأخيرة، وقد تعددت مظاهره بين السياسي والاقتصادي والأمني
عملت موسكو على انتهاز الفرصة لاقتحام أحد أبرز نقاط نفوذ باريس في إفريقيا، حيث أخفقت تدخلات فرنسا في مالي في إيجاد حلول للأزمات المتعددة في البلاد، وتعاني مالي من عدم الاستقرار، فهناك العديد من قبائل الطوارق تسعى إلى الاستقلال والانفصال بإقليم أزواد في شمال مالي، فضلًا عن صعود تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي، وظهور العديد من الجماعات الجهادية المسلحة هناك.
وفي وقت وجيز، تمكنت روسيا من التمركز بصورة واضحة وجلية في مالي، حتى في ظل وجود آلاف الجنود الفرنسيين هناك، وكانت موسكو قد وقعت اتفاقًا للتعاون الأمني والعسكري في يونيو/حزيران الماضي مع باماكو، نتج عنه تكوين قادة في الجيش أشرفوا على الانقلاب الأخير.
إستراتيجية أشمل
التغلغل الروسي في مالي يأتي ضمن إستراتيجية أشمل تسعى من خلالها موسكو إلى العودة مجددا للقارة الإفريقية وحجز موقع مؤثر وفاعل لها في المشهد السياسي الإفريقي بعد سنوات من خروج القارة السمراء عن دائرة الاهتمام الروسي.
تلقى قادة الانقلاب تدريبهم في روسيا
هذا الاهتمام الروسي بإفريقيا، بدا واضحًا وجليًا في السنوات الأخيرة، وقد تعددت مظاهره بين السياسي والاقتصادي والأمني، حيث وجهت استثماراتها نحو دول القارة وقدمت الدعم الكبيرة لزعمائها خاصة المناوئين للغرب والساعين للتخلص من جلباب الدول الاستعمارية.
وتأمل موسكو في منافسة القوى العالمية الكبرى في إفريقيا، ونخص بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، خاصة أن مكانة هذه الدول في القارة السمراء شهدت تراجعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة نتيجة أسباب عدة يطول الحديث عنها.
الهدف من ذلك، كسب تأييد الدول الإفريقية في المحافل الدولية، وأيضًا الاستئثار بخيرات القارة الكثيرة، ففيها يوجد النفط والغاز واليورانيوم والذهب والألماس والحديد وغيرها من الثروات الباطنية الثمينة، دون أن ننسى السوق الاستهلاكية الضخمة هناك.