منذ أن أطل بوجهه إلى المشهد السياسي السوداني ظل رئيس المجلس العسكري، حينها، رئيس مجلس السيادة السوداني الانتقالي الآن، عبد الفتاح البرهان، يتخبط الخطى في الانتماء إلى جهة أو حاضنة سياسية، ففي البدء ظل يلوح بورقة “الدعم السريع” قائلًا إن المليشيات جاءت من رحم القوات المسلحة السودانية.
كان البرهان يردد ذلك طمعًا في نيل الرضا الإقليمي من الإمارات والسعودية، اللتين تستخدمان قوات الدعم السريع وقائدها ضمن أجندتهما السياسية، ففي ظنه، في ذلك الوقت، أن دعم الدولتين يضمن له البقاء على سُدة الحكم، وهو الذي قال في لقاء تليفزيوني أن أباه تنبأ له بحكم السودان.
تحركات قديمة متجددة
هذه التحركات التي بدأ فيها البرهان في الاتصال بعدد من الجهات الإقليمية والمحلية، تأتي بعد أن تلقى صفعة قاسية من القوى السياسية المدنية وحكومتها التنفيذية، برفضها للتطبيع مع “إسرائيل”، الأمر الذي دفعه بعد يومٍ واحد من الرفض أن يطالب السودانيين بمنح الجيش التفويض لتولي زمام الأمور، مخاطبًا السودانيين باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية، حيث يبدو البرهان، الذي بدأ عملية التطبيع التي لم تلق سبيلًا للتطبيق في السودان، باحثًا عن السلطة كي يتمم ما بدأه من تفاهمات في أثناء لقائه مع بنيامين نتنياهو بأوغندا في فبراير/شباط الماضي، الذي كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي، اللقاء الذي تم من دون علم وإشراك القوى السياسية المدنية.
في أولى محطاته الخارجية بعد توليه زمام الأمور في البلاد، بعد سقوط نظام البشير في أبريل/نيسان العام الماضي توجه البرهان أولًا إلى مصر، حيث التقى هناك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مقدمًا له التحية العسكرية، مخلفًا سخطًا واستهزاءً في الأوساط السودانية، إثر حادثة التحية العسكرية من رئيس وزعيم دولة إلى رئيس دولة أخرى.
وقبل أيام، أشار عضو عسكري في مجلس السيادة الانتقالي، المكون من عسكريين ومدنيين، ياسر العطا، بأن مسألة التطبيع مع “إسرائيل” لم تحسم بعد، بحسب لقاءٍ له في قناة “بي بي سي” بُث الأحد بداية هذا الأسبوع، واستخدم العطا مصطلحًا خلافيًا حينما قال إن الأمر متروك لتقديرات “مصلحة السودان”، قائلًا إنه إلى الآن لم تقدم إجابة نهائية، بما يتوافق واتجاهات البرهان التطبيعية.
ظل البرهان دائمًا يحاول الزج بكيانات وأجسام مرفوضة من الثوار داخل العملية السياسية السودانية لتقوية موقعه الشخصي في العملية السياسية، دون مراعاة اتجاهات الثورة السودانية ومطالبها، ومتماهيًا مع المتاح بما يضمن استمراره، طامحًا في حكم السودان حكمًا أبديًا، على شاكلة من سبقوه من العسكريين الذين استأثروا بالمدة الأطول في حكم السودان منذ استقلاله.
وكشفت وسائل إعلام رسمية الإثنين الماضي أن عبد الفتاح البرهان توجه إلى دولة إريتريا في زيارة رسمية امتدت يومًا واحدًا، قابل فيها الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، الرئيس الانتقالي لإريتريا منذ العام 1994.
تأتي الخطوة بعد يوم واحد من كشف مجلس السيادة الانتقالي عبر صفحاته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي عن لقاء جمع البرهان مع من أسمتهم “قوى إعلان البرنامج الوطني”، برئاسة التجاني السيسي، الذي كانت سلطات الفترة الانتقالية في السودان قد ألقت عليه القبض قبل أسابيع بتهمة التورط في فساد في أثناء توليه مناصب تنفيذية في عهد حكم البشير، ثم أطلق سراحه لاحقًا دون توضيح من جهات رسمية، ولقي إعلان المقابلة في الصفحة الرسمية لمجلس السيادة، سيولًا من الانتقادات والشتائم والوصم بالتبعية لنظام عمر البشير.
استطاع السياسيون المدنيون في السلطة الانتقالية بالسودان أن يقلصوا بشكلٍ كبير من سلطة القوى العسكرية التي تبدو لوهلة متناغمة لكنها، على عكس غريمها، القوى المدنية، تتشكل من أفراد عظيمي النفوذ صغار الأماني، استطاعت الحواضن السياسية المدنية استيعابهم لصالحها وكبح أمانيهم ومن ثم دمجهم في العملية السياسية.
يعود ذلك لأن القوى العسكرية المشاركة في السلطة حاليًّا كانت عبارة عن “أفراد” من جهات عدة في المؤسسة العسكرية والأمنية، تخيرهم المخلوع البشير في لحظة هلعٍ ظنًا منه أنهم يدينون له بالولاء، وما إن غفل حتى انقضوا عليه.
مخاوف أخرى
في جانب آخر، يتشبث العسكريون بالسلطة خشية من توابع جريرة فض الاعتصام، التي تشير الشبهات، بحسب المعطيات المتاحة، أنهم ضالعون فيها، منهم البرهان نفسه الذي أطل بعد فض الاعتصام بسويعات ليلقي بيانًا فظًا، معلنًا وقف التفاوض مع القوى السياسية المدنية وتشكيل حكومة تسييرية، ما استحال تطبيقه إثر مقاومة السودانيين وقواه السياسية المدنية.
تفرق المكون العسكري في الحكومة الانتقالية السودانية إلى عدة جهات، يتحرك كلٌ منهم على حسب هواه ومصالحه ومخاوفه، في غياب لرؤية واحدة، فأحد أبرز الوجوه العسكرية “حميدتي” بدأ في التشتت، الذي كان أكثر الورقات الرابحة بالنسبة للعسكريين، مع خفوت حرب اليمن، وبدء تشكل حسابات جديدة على أرض المعركة، قد تستغني فيها الإمارات والسعودية عن تحالفهما الدائم.
مؤخرًا، بدأ البرهان في تسويق نفسه في أشكالٍ عديدة، منها الشعبية، التي حاول فيها بظهوره يجلس مع ضحايا ومتضرري الفيضانات هذا العام في السودان أن يُظهر نفسه كالخليفة الراشد المهموم بأمر العامة.
المراقب للمشهد السياسي السوداني، لا يغفل عن أن البرهان مؤخرًا تحول إلى فرد يعمل وحيدًا، فخلال الأسابيع الماضية، بعد مطالبته التفويض من الشعب، أنشأ الفريق أول عبد الفتاح البرهان، عددًا من الحسابات الرسمية على عدد من مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى شاكلة الزعماء الجماهريين طالبت الحسابات من عامة الشعب أن تبدي آراءها وملاحظتها إلى رئيس الوزراء، لكن ما إن انهال السودانيين انتقادًا وشتائم وسخرية للحسابات، سارعت صفحات مجلس السيادة الانتقالي لإنكارها صلة البرهان بتلك الحسابات.
تأتي هذه التحركات في وقت كانت فيه فترة سيادة البرهان على المجلس السيادي كادت أن تنتهي، فبحسب الاتفاق الموقع بين المدنيين والعسكريين، فإن رئاسة المجلس السيادي الانتقالي تسند للعسكريين أولًا لفترة أقل من عامين، ثم تسند للمدنيين، الفترة التي مضى عليها عامًا كاملًا، لكن مددت الفترة الانتقالية أشهر أخرى بحسب اتفاقية السلام الموقعة مؤخرًا في أغسطس/آب المنصرم مع عدد من حركات الكفاح المسلح.