يمثل العثمانيون منذ دخولهم بلاد الشام عام 1516 ركنًا أساسيًا من تاريخ الدولة اللبنانية، وظلت لسنوات عدة شريكًا محوريًا في منظومة البناء والتنمية، وذلك رغم اختزال بعض المثقفين والمؤرخين – لأسباب سياسية وتاريخية – الوجود العثماني في لبنان خلال سنوات الحكم الأخيرة.
ترك العثمانيون بعد مغادرتهم لبنان العديد من المعالم الأثرية والمعمارية والبنوية التي ساهمت في ترسيخ أركان الدولة، ففي بيروت هناك محطة القطارات في مار مخايل والمحجر الصحي في الكرنتينا وغيرها، أما في طرابلس فهناك تكية الدراويش المولوية وحمام العظم (الجديد) وجامع محمود بك السنجق وجامع محمود لطفي الزعيم (المعلق) والجامع الحميدي وسبيل الباشا الوزير محمد باشا والتكية القادرية وساعة التل، وفي صيدا ما زال قصر دبانة وخان صاصي نماذج صامدة في البلدة القديمة تقدم نموذجًا مميزًا للعمارة العثمانية.
ومن بين الآثار التي تركتها الحضارة العثمانية وأرست بها معالم الدولة اللبنانية وضعها الأسس الأولية لبناء منظومة الصحة في البلاد، فقبيل دخول العثمانيين لبنان كانت العاصمة بيروت غارقة في مستنقع الانهيار العلمي الذي عم حينها معظم المناطق العربية والإسلامية ما بعد العصور الوسطى.
في ذلك الوقت واجه اللبنانيون الكثير من المعاناة نتيجة العودة إلى الأساليب التقليدية في معالجة المرضى، إذ اختفت البيمارستانات (المستشفيات) المتخصصة، فيما حل محلها الكيانات الطبية المتدنية، وكان الحلاق في ذلك الوقت هو من يؤدي دور الطبيب المعالج، ومن هنا جاء المثل اللبناني الشهير “بيكون عبيحلق بيصير عم بيقبع أضراس”.
خستة خانات بيروت
حرصت الدولة العثمانية منذ الوهلة الأولى لدخول بيروت على توفير الخدمات الصحية اللازمة كخطوة أولى لتحسين الوضع المتردي الذي كان على بعد خطوات قليلة من الانهيار، حيث بدأت في وضع أساس بعض الخستة خانات “مستشفيات”، البداية كانت بالمستشفى العثماني في بيروت بجوار بوابة يعقوب وذلك في أواسط القرن الثامن عشر.
لم يكن البناء وحده هدف العثمانيين، بل حرصوا على توفير أكبر قدر من الأطباء الأكفاء المشهود لهم بالخبرة والكفاءة
نجح هذا المستشفى في تقديم الرعاية الصحية لعشرات آلاف اللبنانيين، لكنه لم يكن كافيًا لتغطية المساحة الجغرافية الكبيرة، واستمر قرابة عشرة عقود حتى تم بناء مستشفى أخرى في بيروت في منطقة سراي الحكومة وسط العاصمة، وذلك في أوساط القرن التاسع عشر، ليضع لبنان أول أقدامه على سلم المنظومة الصحة المؤهلة لخدمة اللبنانيين.
لم يكن البناء وحده هدف العثمانيين، بل حرصوا على توفير أكبر قدر من الأطباء الأكفاء المشهود لهم بالخبرة والكفاءة، ومن أشهر الأطباء الذين عملوا في المستشفى الحكومي العثماني في بيروت الدكتور إبراهيم أفندي صافي والدكتور خيري بك وغيرهم من نخبة الأطباء والمسعفين والأطقم الطبية في البلاد.
في كتابه “القول الحق في بيروت ودمشق” الصادر عام 1890 وصف عبد الرحمن بك سامي المستشفى العثماني بقوله: “توجهت مع حضرة عزتلو محي الدين بك حمادة لزيارة مستشفى الحكومة السنيّة. فقابلنا هناك جانب الفاضل الدكتور خيري بك، نجل أحد أعيان الآستانة العليّة، وأرانا مع رفقائه الأطباء غرف المستشفى ومعداته، فإذا هو كامل الترتيب، نظيف للغاية، وجميع أسرته على أحسن ما شاهدت في المستشفيات (الأسبتاليات). وكان المرضى قليلين وذلك لجودة الهواء واعتناء حضرات الأطباء. ومما زادني سرورًا أُنس حضرة الدكتور خيري بك، ومعاملته مع حضرات رفقائه المرضى باللطف والاعتناء والاهتمام الزائد. وبلغني أن معظم الفضل في قلة الأمراض عائد لحضرة الفاضل حمادة بك رئيس مجلس بلدية بيروت، الذي يفرغ جهده أناء الليل وأطراف النهار مهتمًا بأحوال النظافة، وإزالة ما يضّر بالصحة العموميّة”.
وكان للفقراء في المناطق النائية نصيب كبير من اهتمام العثمانيين، حيث أنشأوا عدة مستشفيات لخدمة غير القادرين مثل المستشفى البروسي المعروف باسم (خستخانة بروسيا) الذي يقع قرب الكلية السورية الإنجيلية في بيروت، وكان مقصد الفقراء من مختلف المناطق، حيث كان الكشف والعلاج مجانًا، في حين كانت الراهبات تعتني بالمرضى وبنظافة الغرف.
علاوة على المستشفى اليسوعي في اليسوعية (شمال بيروت)، الذي تحول اسمه فيما بعد إلى المستشفى الفرنسي، وكان يقوم عليه أطباء الكلية اليسوعية والراهبات العازاريات، كما أنشأت الطائفة الأرثوذكسيّة في العهد العثماني مستشفى الروم في الأشرفية (شرق بيروت) وقد تقدم للتطبيب فيه مجانًا كل من الدكتور فان ديك والدكتور حبيب طبجي والدكتور سمعان الخوري.
الدولة العثمانية ولبنان
لعبت الشخصنة دورًا سلبيًا في توثيق المراحل التاريخية، أودت بكثير من محطاته بعيدًا عن السياق الزمني والظرفي له، ولعل الحالة اللبنانية أكبر دليل على هذا التدليس إن جاز لنا نعته هكذا، فالعديد من الشواهد توثق التأثير الحضاري للعهد العثماني في لبنان غير أن بعض الساسة والمثقفين شنوا هجومًا غير مبرر تاريخيًا حيال تلك المرحلة.
كان الرئيس اللبناني ميشال عون، قد أطلق قبل فترة تصريحًا مثيرًا للجدل حين اعتبر أن الدولة العثمانية “مارست إرهاب دولة ضد اللبنانيين” وهو التصريح الذي أثار حفيظة السلطات التركية الذي رأته افتئات واضح على الحقائق التاريخية، إلا أن المنصفين من المؤرخين اللبنانيين كان لهم رأي آخر.
المؤرخ اللبناني خالد الجندي، ردًا على تلك التصريحات قال إن الدولة العثمانية (1299: 1923) ساهمت بشكل كبير في تطوير لبنان على المستويات كافة، فأنشات المستشفيات وأقامت المراكز التجارية والثقافية، كما حرصت على المساواة وتجنب الطائفية حين أنشأت الكنائس جنبًا إلى جنب مع المساجد، وهو عكس ما مارسه الاستعمار الفرنسي والأوروبي بصفة عامة على سبيل المثال.
سجل صفحات التاريخ بشتى انتماءاتها الدور الحضاري الذي لعبه العثمانيون في دعم المنظومة الصحية اللبنانية
الجندي في تصريحاته لـ”الأناضول” عقد مقارنات بين واقع اللبنانيين تحت الاستعمار الفرنسي (1920: 1943)، وحال بلدهم أيام العثمانيين، مضيفًا أنه في زمن السلطنة العثمانية كان التعايش بين جميع الطوائف هو السمة السائدة لتلك المرحلة، وكان العثمانيون يعاملون الجميع بمساواة دون تمييز أو تفرقة كما هو اليوم.
ففي عهد الاستعمار الفرنسي كان نهب خيرات البلاد وسلب إرادتها وإحداث الفرقة بين طوائفها السياسية والدينية هو المنهج الذي لجأ إليه الفرنسيون الذين يسعون اليوم لمخاطبة ود اللبنانيين، استغلالًا للظروف الراهنة التي يمرون بها، على عكس الفترة العثمانية التي نقلت بيروت على وجه التحديد إلى آفاق أخرى من التطور في المجالات كافة، اللهم إلا السنوات الأخيرة التي تعرضت فيها البلاد لممارسات سلطوية مجحفة إلى حد ما.
الرأي ذاته ذهب إليه رئيس المكتب السياسي للجماعة الإسلامية في لبنان، عماد الحوت، الذي أكد أن “الدولة العثمانية جزءٌ من تاريخنا الذي نعتز به ونفتخر، وأقامت حضارةً احترمها القاصي والداني في تلك الأيام، فجاءتنا بالكهرباء وشبكة القطارات والمدارس والمستشفيات وغير ذلك مما نعاني من افتقاده اليوم”.
واستنكر البرلماني اللبناني السابق الاتهامات التي وجهت للعثمانيين بأنهم دولة إرهابية أو دولة احتلال، لافتًا إلى أن الاحتلال الحقيقي كان فرنسيًا، وهو ما أدى إلى انتفاضة المكونات السياسية والدينية اللبنانية كافة، فتمخض عن ذلك ثورة الاستقلال التي أطاحت بهذا الاحتلال الغاشم.
وفي المجمل تسجل صفحات التاريخ بشتى انتماءاتها الدور الحضاري الذي لعبه العثمانيون في دعم المنظومة الصحية اللبنانية، التي لا تزال ترتكز عليها حتى يومنا هذا، ورغم محاولات التشويه لتأثير تلك الحقبة المهمة في تاريخ اللبنانيين، فإن الحقائق لا تمحى بالأهواء ولا الميول، لتبقى المستشفيات الحاليّة في قلب بيروت وضواحيها أكبر شاهد على هذا الدور الذي لا يمكن تجاهله مهما علت أصوات التشكيك في الداخل والخارج.