المشهد الأول: انفجار مرفأ بيروت
التاريخ: 4 من أغسطس 2020.
النتائج: 190 قتيلًا و6500 مصاب وخسائر تتجاوز حاجز الـ15 مليار دولار.
المشهد الثاني: فيضانات السودان
التاريخ: أوائل سبتمبر 2020
النتائج: أكثر من 100 شخص فقدوا حياتهم، وتدمير ما يقرب من 100 ألف منزل، وأضرار أصابت نصف مليون مواطن.
حدثان عربيان صُنفا كـ”كارثتين” لم يفصل بينهما إلا أقل من شهر واحد، خلفا وراءهما عشرات الضحايا ومليارات الخسائر، لكن شتان شتان بين التعاطي معهما، سواء من ناحية الزخم الإعلامي والتغطيات المستمرة لتفاصيلهما، محليًا وعربيًا ودوليًا، أم من ناحية الاستجابة الدولية والدعم المقدم من القوى الدولية والإقليمية كافة.
أسئلة كثيرة وصلت حد الاتهامات وجهت لوسائل الإعلام بشتى أنواعها وجنسياتها جراء التناقض الواضح بين التغطية هنا وهناك، ورغم أن ما حدث في السودان كارثة هي الأخطر منذ عقود طويلة، والضحايا والخسائر في تزايد مستمر مع توقع استمرار تداعيات تلك الأزمة لفترات طويلة، الأمر الذي يجعلها على قائمة الاهتمامات الإعلامية من الناحية المهنية والموضوعية، فإن ذلك لم يجد صداه لدى غالبية المنصات الإعلامية.
وفي الجهة المقابلة فإن سرعة رد الفعل الدولي والإقليمي حيال ما حدث في بيروت، والزخم السياسي الذي صاحب هذا التفجير لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال مع حالة شبه التجاهل التي خيمت على المشهد السوداني، اللهم إلا بعض المساعدات العربية على استحياء، فما أسباب هذا التناقض الفج؟ وهل حقًا الخرطوم ليست بيروت كما يردد البعض؟
تباين واضح
بعد ساعات قليلة من وقوع انفجار بيروت الذي احتل العناوين الرئيسية للأخبار في معظم وكالات الأنباء العالمية والفضائيات العربية، سارعت العديد من الدول للإعراب عن تضامنها الكامل وإعلانها تقديم حزم متعددة من المساعدات للشعب اللبناني في ضوء الخسائر الكبيرة التي خلفها الانفجار.
وبعد أقل من 48 ساعة كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يعانق الشعب اللبناني في الشوارع العامة، ويتعهد بتقديم يد العون والمساعدة، فيما زار بعض الفنانات اللبنانيات في منازلهن على رأسهن فيروز وماجدة الرومي، هذا في الوقت الذي نصبت فيه وسائل الإعلام الدولية خيامها في محيط الحادث، مخصصة مساحات كبيرة من ساعات البث لمناقشة ما حدث وكيف يمكن عبور الأزمة في أسرع وقت.
وبعد أيام قليلة من الانفجار عُقد مؤتمر دولي لدعم بيروت والشعب اللبناني، شاركت فيه 36 دولة ومؤسسة عالمية، هدفوا إلى تقديم المساعدات العاجلة للدولة اللبنانية وذلك تحت قيادة الأمم المتحدة التي حثت الجميع على المشاركة في تقديم يد العون لتعويض اللبنانيين عن الخسائر الجمة التي تعرضوا لها جراء تلك التفجيرات.
وفي المقابل كان الوضع أكثر برودة في المشهد السوداني، حيث اقتصر الأمر على بعض المساعدات التي قدمتها عدد من الدول على رأسها مصر وتركيا وقطر، فيما غاب رد الفعل الدولي رغم كارثية المشهد وخسائره الفادحة التي ربما تهدد حياة الملايين من السودانيين، في وقت تعاني فيه البلاد في الأساس من أزمات طاحنة.
هذا التناقض ألقى بظلاله القاتمة على الشارع السوداني الذي شعر أن هناك ازدواجية في المعايير، ناعتًا هذا التمايز بـ”العوار الإنساني” متهمًا المجتمع الدولي بالكيل بمكيالين في التعامل مع القضايا الإنسانية التي تخضع في المقام الأول لاعتبارات سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالإنسانية على حد قول بعضهم.. لكن يبقى السؤال: ما أسباب هذا التباين في رد الفعل سواء على المستوى الإعلامي أم الدولي؟
كارثة السودان والإعلام
السؤال هنا: هل يستحق الحدث السوداني الاهتمام الإعلامي؟ والإجابة واضحة: بالطبع، فالكارثة تسببت في إزهاق الأرواح ودمار المأوى وضياع الأموال، ولم تستثن حتى الحيوانات، ما يجعلها تحتل المرتبة الأولى في النشرات التليفزيونية والصفحات الأولى للمواقع والصحف.
وفي محاولة لإيجاد إجابات تفسير غياب الزخم الإعلامي الدولي عن حادثة بحجم تلك الكارثة لا بد من الإشارة إلى خمس نقاط رئيسية تكشف النقاب بشكل كبير عن طلاسم هذه المسألة، النقطة الأولى أن التقصير جاء أولًا من وسائل الإعلام المحلية السودانية، التي غابت عن المشهد بصورة لافتة للنظر.
المتابع لمراحل التعاطي الإعلامي مع الكارثة منذ وقوعها بداية الشهر الحاليّ يلاحظ أن وسائل الإعلام السودانية غابت عن المشهد بتأخرها في إيفاد مراسليها إلى مواقع الحدث والمناطق التي تعرضت للفيضانات، فيما اكتفت معظم الفضائيات بالاستمرار في عرض برامجها ومسلسلاتها الدرامية وكأن شيئًا لم يحدث.
أما النقطة الثانية فتتعلق بتقصير مماثل من السلطة السياسية، فمعروف أن أولويات أجندة القيادة السياسية هي من تفرض نفسها على أجندات الأجهزة والإدارات الأخرى بما فيها الإعلام، وعليه فإن التقصير الإعلامي المحلي حيال ماحدث لايمكن فصله عن ممارسات السلطة الرسمية، فبينما كان الضحايا يتساقطون جرًاء الفيضانات التي أغرقت البيوت كان رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان في زيارة خارجية إلى دولة إريتريا، فيما كانت بقية المكونات السياسية الأخرى منشغلة بالترتيبات القادمة للحصول على أكبر قدر من المكاسب.
ورغم أن البرهان ورئيس الوزراء عبدالله حمدوك قد سجلوا إعلاميًا بعض الزيارات القصيرة لعدد من المناطق المنكوبة في أيام الكارثة الأولى، إلا أنها تحركات لم تكن بالكافية، ولم تتناسب وحجم كارثة هي الأكبر منذ مايزيد عن قرن تقريبًا، وبالطبع انعكس هذا البرود السياسي على التناول الإعلامي، المحلي منه والدولي.
فيما تشير النقطة الثالثة إلى انشغال الإعلام بشتى أنواعه بقضايا أخرى مثل الحرب في ليبيا واليمن والصراع على الغاز في المتوسط، وهي قضايا ذات مثار جدلي وتتقاطع فيها مصالح عدة دول، مقارنة بالفيضانات التي رغم كارثيتها الإنسانية إلا أنها لا تحمل البعد الدولي في الاهتمام الذي تراجع بالفعل بعد تبرئة الحكومة السودانية سد النهضة والسد العالي من التهم المنسوبة إليهما بمسئوليتهما عن وقوع الكارثة، والتي من المتوقع إذا تعلق الأمر بهما لكان الحضور الإعلامي سيختلف بشكل كبير.
ويأتي غياب الأكشن والإثارة في نقل مشاهد الكارثة كنقطة رابعة في فك طلاسم التجاهل الإعلامي، وهو ما أشار إليه المخرج السوداني أمجد النور، الذي يرى أن مقارنة التعاطف الدولي في كارثة فيضانات السودان مع ما جرى في كارثة انفجار بيروت مقارنة غير منطقية.
المخرج والشاعر السوداني في منشور له على صفحته على فيس بوك قال إن “البشر مبرمجون على ربط التعاطف بالمؤثر البصري” وعليه فهو يرى أن فيضانات السودان رغم ما أودت به من ضحايا وخسائر إلا أنها أحداث تقليدية تتكرر سنويًا، ولم تعد مثيرة للمتلقي، على عكس الوضع في تفجيرات بيروت.
وأضاف ” لو نظرنا لأحداث بيروت، حنلاقي إنه المشهد دا ما حصل شفناه في التاريخ. أنا بتكلم عن انفجار بالقوة دي ومتصور من مئات الزوايا زي في الأفلام (close up, wide, medium shot, moving camera, POV) ما لازم تفهم المصطلحات دي كلها، لأنها بتختص بجانب التصوير، ولكن أنا داير أبين ليك إنه دا مشهد مثير جدا سينمائيا” ومن ثم كان الاهتمام الدولي بتلك التفجيرات مقارنة بالوضع في السودان الذي لولا الاجتهادات الشخصية من المواطنين وبثهم للمشاهد عبر منصات السوشيال ميديا ما عرف أحد معظم التفاصيل، مع الوضع في الاعتبار البيئة المتدنية من خدمات الاتصالات وشبكات التكنولوجيا والإنترنت، وهي النقطة الخامسة في هذا الإطار.
الوضع الجيوإستراتيجي
أما عن الحضور الدولي ورد الفعل المتواضع فبعيدًا عما يردده بعض السودانيين بأن الأمر يتعلق بـ”عنصرية غربية” في تعامل من الدرجة الثانية مع أصحاب البشرة السمراء، وهو ما تفنده المواقف السابقة كما حدث مع مقتل الشرطي الأمريكي جورج فلويد مثلًا، فإن الأمر يتمحور حول الوضع الجيوسياسي للدولة ومكانتها على خريطة الاهتمامات الدولية.
ففي الحالة اللبنانية نجد أن بيروت دومًا ما كانت ولا تزال في قلب الصراعات والرهانات الدولية، وخلال العقود الماضية تحولت إلى مسرح كبير للعديد من القوى الدولية التي تتقاطع مصالحها مع لبنان، على رأسها السعودية وإيران وتركيا وفرنسا، بجانب دولة الاحتلال الإسرائيلي بالطبع.
أما سودانيًا فالأمر يختلف نسبيًا، حيث كانت البلاد على مدار سنوات طويلة تميل للانغلاق على نفسها بعيدًا عن الانفتاح مع دول العالم، وذلك جراء السياسات التي كان تتبعها النظم الحاكمة خلال العقود الخمس الأخيرة تحديدًا، ولذا من الصعب إيجاد أي دور لدولة أجنبية داخل البلاد إلا فيما ندر.
كما أن السودان رغم أهميته الجغرافية كونه مفتاحًا مهمًا للساعين إلى توسعة النفوذ داخل قارة إفريقيا، فإن ارتهان قراره السياسي لحساب قوى وتحالفات إقليمية كان أحد الأسباب القوية وراء استبعاده من حزم الدعم المختلفة، خاصة بعد توقيع الولايات المتحدة العقوبات عليه منذ ما يقرب من ربع قرن وعرضت البلاد لعزلة شبه دولية.
الأيادي الخارجية المؤثرة في الداخل اللبناني متشعبة وذات حضور كبير وفعال نظرًا لما يتميز به البلد من ثقل إقليمي كبير جراء الموقع الإستراتيجي له، وهو ما دفع الرئيس الفرنسي – الحالم بإحياء أمجاد الاستعمار البالية لتعويض شعبيته المنقوصة يومًا تلو الآخر – إلى الإسراع لزيارة بيروت بعد ساعات قليلة من وقوع الانفجار، ودفع الأمم المتحدة لقيادة مؤتمر الدعم الدولي لتقديم يد العون للشعب اللبناني في مصابه الجلل.
التفاعل الشعبي في الحالتين، السودانية واللبنانية، كان حاضرًا بقوة، لكن آليات تلقي الحدث والترويج له وتقديمه للمتلقي كانت السبب الرئيسي في إحداث هذا الفارق، ساعد على ذلك دور القوى الناعمة في تعميق الفجوة بين الحالتين، إذ داخل مشاهير لبنان وشخصياته العامة على خط الأزمة فيما اكتفى السودانيون بالمراقبة من بعيد.
فريق من المتابعين يرى أن التأخر في الاستجابة للكارثة السودانية ليس شرطًا أن يعود لتقاعس المجتمع الدولي أو غياب التغطية الإعلامية، أو ازدواجية التعامل مع القضايا الإنسانية كما يتهم البعض، معتبرين أن السبب ربما يكون في انتظار التقارير التي تقدر حجم الكارثة وتداعياتها والاحتياجات اللازمة لها، وأن الأمر سيتم شحن زخمه الإعلامي والسياسي حين تستقر الأوضاع، وهي الرؤية التي لم ترق للكثيرين ممن يعتبرون أن التفاعل الأولي مع ما حدث يقدم صورة شبه مكتملة عما هو قادم.
وعلى كل حال فإن الوضع في السودان يبلغ من الوضوح الكارثي والإنساني ما يغنيه عن التوضيح الإعلامي، لتبقى الكرة في ملعب المجتمع الدولي الواجب قيامه بالمسؤوليات المنوطة به في دعم مثل تلك الأزمات التي تهدد حياة الملايين، فيما يمثل ما حدث وصمة عار في جبين الحكومات العربية التي أبدت تعاطفها ودعمها لكوارث أقل وطأة في مناطق نائية من العالم بينما اكتفت بمراقبة مشاهد الموت والدمار في السودان من مقاعد المتفرجين.