رغم أنّ تكليف هشام المشيشي جاء بعد صراع بين قطبي السلطة في تونس (الرئاسة والبرلمان) و”سردية” سياسية جديدة حاول رئيس جمهورية قيس سعيد الدفع بها وتقوم أساسًا على نهاية “مشروعية” الأحزاب والبرلمان بشكله الحالي باعتبار أنّ المنظومة الانتخابية التي تُكرس الديمقراطية التمثيلية أصبحت عاجزة من وجهة نظره على التغيير والإصلاح، إلاّ أنّ حكومة الأمر الواقع يمكن أن تكون منعرجًا حاسمًا في دفع الفاعلين الأساسيين إلى إعادة تشكيل خارطة تحالفات جديدة تحت قبة قصر باردو وبلورة مشهد سياسي من شأنه أن يُرجع التجربة الديمقراطية التونسية إلى مسارها الصحيح.
“بين الانقلاب الناعم” لتحويل النظام البرلماني المعدل الحالي إلى نظام رئاسي وهي فرضية قائمة حتى دون الاضطرار للمرور عبر البرلمان يقوده “سعيد”، وتشبث الأحزاب بمسار البناء الديمقراطي رغم عثراته وهناته الكبيرة التي عطّلت عربة الإنجاز والفعل، تعيش تونس بين خيارين لا ثالث لهما، الأوّل أن تمضي إلى طريق حوكمة رشيدة تليق بثورتها من خلال دعم حكومة المشيشي وإسنادها، والثاني أن يستمر التناحر والمناكفة السياسية في انتظار لحظة سقوط الدولة وانهيار مؤسساتها.
هذه الأرض الرخوة التي قد تُغرق جميع الفاعلين السياسيين في تونس، بحاجة إلى إعادة بناء قاعدة صلبة لتوافقات وتحالفات تتناسب مع المشهد السياسي الجديد قصد إحياء المسار الانتقالي واستكمال مؤسساته القادرة على الحفاظ على بنيانه من أي مشروع يهدم الإنجازات الثورية التي تحققت بعد 14 يناير.
حزام وتحالفات
ثقة البرلمان التي مُنحت للمشيشي لن تضع حدًا للمنافسات الحزبية العميقة وحالة التنافر بين رأسي السلطة، ومن المتوقع أيضًا أن يُعرقل استمرار التناحر السياسي إمكانية إرساء حكومة قادرة على تأمين خروج سلسل من دائرة الأزمة ومخاطر الانزلاق إلى الفوضى، غير أنّ التحالفات التي اقتضتها الضرورة والمرحلة السياسية والاقتصادية الدقيقة يُمكنها تهدئة الأوضاع إلى حين إرساء تسوية شاملة قائمة على مبدأ العيش المشترك ويقطع مع حالة الاستقطاب الحاد.
“ترويكا” حركة النهضة والائتلاف وحزب قلب تونس وبعض المستقلين (120 نائبًا) ستُمكن هذا التحالف من حيازة أغلبية برلمانية تمكّنه من التحكم في مصير الحكومة وفي مشاريع القوانين، فرئيس الحكومة هشام المشيشي يدرك أن استقرار حكومته ومضيّها في تنفيذ برامجها لن يتحقق ما لم يحافظ على ثقة الأحزاب الداعمة التي أعطته حزامًا سياسيًا داخل البرلمان يحميه من هزات وارتدادات الحكم في ظل وضع سياسي غير مستقر.
التحالفات الجديدة ستعمل على استكمال الاستحقاقات السياسية، وفي مقدمتها تنصيب المحكمة الدستورية المعطلة منذ سنوات، وتنقيح القانون الانتخابي واستعجال النظر في مشاريع قوانين أخرى، وستدفع أيضًا حركة النهضة إلى تقديم تنازلات واسعة لمنافسيها وخصومها حتى يتم تذليل مختلف الصعوبات التي حالت دون إنشاء هذه المحكمة على الرغم من التنصيص على ضرورة قيامها بعد سنة فقط من المصادقة على دستور 2014، وذلك لقطع الطريق أمام محاولة الرئيس سعيد للاستئثار بتأويل نصوص الدستور.
من جهة أخرى، ستدفع الجبهة الجديدة المتمثلة في حركة النهضة-قلب تونس-ائتلاف الكرامة، الرئيس قيس سعيد إلى توسيع دائرة تحركاته المعارضة للمنظومة واستثمار علاقته ببعض الأحزاب لتكوين تحالف قوي داخل البرلمان التونسي يضم التيار الديموقراطي وحركة الشعب وبعض الأحزاب الوظيفية الأخرى التي يقتصر فعلها السياسي على استعداء حركة النهضة ومحاولة إقصاءها من المشهد.
هذا التحوّل في بنية التحالفات داخل مجلس الشعب التونسي لن يكون خارج حسابات المشيشي الذي يُدرك جيدًا أنّ الحزام البرلماني للرئيس سعيد إن لم يقدر على تغيير التوازنات الحالية فبإمكانه التشويش على حكومته وتعطيل عملها، أي أنّ سيناريو حكومة إلياس الفخفاخ يُمكن أن يتكرر إذا ما توفرت كل العوامل مثل هشاشة الحزام البرلماني أو انفراط عقده.
في غضون ذلك، يصح القول إنّ حكومة هشام المشيشي غير المتحزبة منحت القوى السياسية خاصة الفاعلة (البرلمان) فرصة لمراجعة أخطائها وتقييم خياراتها السابقة، من أجل تدارك تداعيات مواقفها وطبيعة تحالفاتها، فائتلاف الكرامة مثلاً تحالف مع قلب تونس رغم إعلان قيادات الحزبين عن استحالة التوافق فيما بينهما والدخول في جبهة حكومية موحدة، ومن المنتظر أيضًا أن تتحالف بعض الأحزاب الأخرى مع أضدادها إيديولوجيًا على غرار الكتلة الديموقراطية وحزب الحر الدستوري برئاسة عبير موسي، وذلك رغم نفي قيادات الأول أي تقارب مع “سليلة التجمع المنحل” لاختلاف الرؤى السياسية.
حدود ومسافات
لا يختلف اثنان على أن اسم المشيشي صنع على عين قيس سعيد منذ أن أوصى به الحكومة السابقة برئاسة الفخفاخ ليمسك وزارة الداخلية، وهو أيضًا “المختار” الجديد من القصر لمحاصرة الخصوم السياسيين وجرّهم إلى مربعه الذي يُتقنه (الدستور) والدفع بفرضية حلّ البرلمان، وذلك بعد أن أقصاهم من مشاورات تشكيل الحكومة وتحديد ملامحها (تكنوقراط) التي خيّر سعيد معظم وزرائها (وزارات السيادة)، إلاّ أنّ مشروع سعيد لتنصيب حكومة “دمى” يُحركها القصر سقط في أوّل امتحان، بتجاوز المشيشي الخطوط الحمراء ودخوله في مفاوضات سرية مع الأحزاب التي صوتت له.
قطع روابط الولاء لقيس سعيد كانت أولى خطوات المشيشي في رسم حدود واضحة المعالم مع الرئاسة التي تحمل مشروع لا يعترف بالمنظومة السياسية الحالية ويتخوف منه البرلمان، وستعقبها خطوات أخرى تهدف إلى وضع خط فاصل بين حكومته والأحزاب التي منحته الثقة وأعلنت نصرها على ساكن قرطاج، وهي استراتيجية سيتبعها المشيشي إذا ما رام الحفاظ على توازنات السلطة في تونس والإطالة من عمر حكومته التي تُواجه كتلة من التحديات الاجتماعية والاقتصادية تتطلب حزمة من الإجراءات العاجلة والدقيقة.
المشيشي سيضع حدًا للأحزاب التي ستُحاول فرض شروطها ومنها إجراء تحوير وزراي سريع أو سحب الثقة من بعض الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية (دفاع داخلية)، ولن يسمح بإضعاف حكومته المكبلة أصلاً بملفات اقتصادية ومالية واجتماعية ثقيلة، كما أنه لن يفسح المجال للأحزاب الداعمة له بتسجيل نقاط والترويج لانتصارات على الخصوم على حساب حكومته.
من جهة أخرى، من غير المستبعد أن يتملّص رئيس الحكومة من بعض الاتفاقات السرية التي تحدث عنها داعموه ولم يؤكدها هو شخصيًا، في حال أيقن أّنها لا تخدم المسار السياسي الذي سيُحدد ملامحه لاحقًا، وسيعمل تدريجيًا على التخلص من صورة رئيس حكومة المحكوم فيه من قبل الداعمين وخاصة حركة النهضة وحزب قلب تونس برئاسة القروي، باعتبار أنّ حكومة الفعل الإنجاز التي يُروّج لها المشيشي لا ترضخ لمنطق التسويات تحت الطاولة والابتزاز، هذا الطرح أكّدته التصريحات الأخيرة للأمين العام لحركة الشعب زهير المغزاوي، بقوله إنّه لا يعتقد بأن رئيس الحكومة سيأتمر بأوامر الأحزاب التي صوتت له، واصفًا إياها بـ”الحكومة المحترمة لها سلبيات و إيجابيات”.
إدارة الصراع
الصراع بين الرئيس قيس سعيد والأحزاب أعطى المشيشي فسحة للمناورة باعتبار الوضعية المريحة نسبيًا بعد حصوله على ثقة البرلمان، لذلك فالمشيشي سيستغل وقوفه على “الربوة” السياسية والإمساك بخيوط اللعبة حيث أنّ أي ضغط مبالغ فيه على حكومته من طرف الأحزاب يعني بالضرورة تهديدًا بالاستقالة، ما يعني إعادة ورقة التكليف للرئيس وهو أمر يسعى البرلمان إلى تجاوزه، وسيعمل في المقابل على إجبار القصر على التعامل معه كرئيس حكومة مستقل مع كامل الصلاحيات.
واقعيًا، لا يُمكن التسليم بقدرة المشيشي على إدارة اللعبة السياسية والاستثمار في الصراع الدائر بين القصر والبرلمان، فالخيوط إن وُجدت فهي رفيعة تفتقد للمتانة والصلابة، فمثلما يحتاج المشيشي لـ”باردو” فهو يحتاج إلى قرطاج من أجل استمرار حكومته واستقرار الأمور خاصة وأن تونس مقبلة على شتاء سياسي عاصف بالمطالب الاجتماعية والاستحقاقات الاقتصادية، لذلك فإنّ نجاحه في المهمة منوط أولًا بمدى قدرته على فرض تهدئة بين سعيد والأحزاب، وهو ما يعني بالضرورة تأجيل التعديلات على الحكومة التي تدعو إليها بعض الأحزاب ولا يريدها الرئيس، وكذلك بنجاعة برامج حكومته لمجابهة الأزمات المتعددة.
خطاب التهدئة بين باردو وقرطاج استهلته حركة النهضة من خلال التصريحات الأخيرة لبعض قادتها منهم سمير ديلو الذي أكّد في حوار إذاعي، أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد لم يطلب إسقاط حكومة المشيشي ولكنه أكد أن عدم تمريرها لا يعني المرور إلى حل البرلمان، مشيرًا إلى أن “حديث سعيّد بحدّة في خطاب أداء القسم يأتي ردًا على ما تعرضه إليه من قسوة وتهّجم خلال جلسة منح الثقة للحكومة”.
وفي سياق ذي صلة، فإنّ فرضية الإطاحة بالحكومة تبقى مستبعدة في الوقت الراهن فلا الرئيس قادر على ذلك دستوريًا ولا البرلمان واقعيًا لاعتبارات إيديولوجية وسياسية، لذلك فإن المشيشي سيعمل على الانتقال بحكومته من القاعدة السفلى في سلم القوى الفاعلة إلى الهرم، وتحويلها من حلقة ضعيفة في الصراع إلى دائرة كبرى تتحكم في المسار السياسي برمته كسلطة مستقلة بذاتها عن القصر الذي كلفه والبرلمان الذي منحه الثقة، وذلك من خلال الخطوات التالية:
– المشيشي سيستثمر حصاد الأحزاب وفشلهم بعد الثورة وشعبوية قيس سعيد المبالغ فيها
– سيُناور وسيستغل صراع قرطاج وباردو للقطع مع محاولات إبقائه ضعيفًا ورهينة لإرادتهم
– المشيشي سيكون ضمانة لمنع سعيّد من استعمال فصول الدستور لمحاربة الأحزاب مقابل الحصول على دعمهم
– استثمار الصراع بين قطبي السلطة ومخاوف من تفكيك الدولة وانفلات الوضع أمنيًا واجتماعيًا
– المشيشي سيستغل وضعية الأحزاب وفق قاعدة من صوّت للضرورة لا يُمكنه إجبار الحكومة على شيء
إلى ذلك، المشيشي يعلم جيدًا أن حكومته جاءت في وقت تعرف فيه البلاد أزمة اقتصادية واجتماعيّة هي الأعنف منذ استقلال (1956)، وأنّ لا وقت لديها لتجربة وصفات الإصلاح التي سوّق لها أسلافه، فالرهانات والتحديات كما الإكراهات كثيرة تتطلب الحزم والجرأة، وفي حال فشلها في قيادة تونس إلى برّ الأمان وتجنيبها الانزلاق في الفوضى أو استمرار المأزق السياسي، فإنّ الأحزاب والقصر سيتملصون من المسؤولية وسيقدمونه على هيئة الثور الأبيض قربانًا لعبثهم السياسي.
تعهد بوقف نزيف الاقتصاد في #تونس.. #المشيشي: تشكيل الحكومة يأتي وسط حالة عدم استقرار سياسي ومعاناة المواطنين من أحوال معيشية مأزومة#العربية pic.twitter.com/3HZaKAWLF0
— المغرب العربي (@AlArabiya_NAF) September 3, 2020
بالمحصلة، يُمكن الجزم أنّ الصراع السياسي في تونس لن يتوقف بمجرد مرور حكومة المشيشي وانقشاع المخاوف بشأن حلّ البرلمان، فالمعركة ستكون على أشدها في الأيام المقبلة وسيُلقي الخصوم السياسيين ما في جعبتهم من أوراق ضغط في التوقيت المناسب، وهو ما يعني وصول البلاد إلى منطقة التوتر العالي الذي يصعب العودة منه، لذلك فإنّ المنظومة السياسية الحالية إذا لم تتجه إلى تسوية ولو مؤقتة تقوم على الواقعية والإنجاز وطرح الحلول الكبرى والمستدامة لكل القطاعات الحيوية وتطبيع العلاقات بين باردو وقرطاج ضمن هدنة يلتزم بها الطرفان، فإن معارك كسر العظام بين الداعمين للمشيشي والمعارضين له ستقود البلاد في اتجاه المثال اللبناني.