منذ قديم الزمان كانت المرأة الفارسية حاضرة بقوة في الشعر والأدب، فعلى سبيل المثال قصة وايس ورامين لا تقل أهمية أبدًا عن قصة روميو وجوليت، بل أضاف الأدب الفارسي الكثير من القصص الأخرى التي ظلت محفورة في الذاكرة مثل حكاية شيرين وفرهاد، وفي قصص ألف ليلة صُور الملك شهريار كرجل ظالم ومعقد يقتل النساء الضعيفات في حين جسدت شهرزاد دور المرأة الفارسية الشجاعة والقوية التي تمكنت من تغيير الملك.
لم تتغير الأحوال كثيرًا مع بدايات القرن العشرين، فعلى غرار شهرزاد ظلت المرأة الإيرانية تعبر عن رأيها ولم تكتف بتجسيد معاناة النساء في وطنها، لكنها حاولت من خلال الكتابة والأدب أن تدفع الحدود التي وضعها المجتمع وأن تحارب أيضًا من أجل تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي والديني، وعليه أضحى يُنظر إلى الأدب الإيراني النسائي كفعل ثوري يتحدى الدولة والسلطات السياسية في إيران، فكيف عبر الأدب النسائي الإيراني عن موقفه من سياسات الدولة؟
الواقع السياسي والاجتماعي للمرأة الإيرانية
بعد أن وصل آية الله الخميني إلى سدة الحكم في فبراير عام 1979 أحدث تغييرًا كاملًا في القوانين الإيرانية خاصة تلك التي تحكم وضع المرأة، إذ تم تعليق مدونة “الأسرة” التي أقامها بهلوي وكانت تتضمن عددًا كبيرًا من حقوق المرأة مثل الطلاق وتحديد تعدد الزوجات وحضانة الطفل، وببراعة شديدة جسد فيلم الرسوم المتحركة “برسبوليس” للمخرجة الإيرانية مرجان ساترابي أوضاع مدينة طهران بعد وصول حزب الملالي الشيعي لسدة الحكم، كما تناول الدور الذي لعبته الميشيليات العسكرية الدينية التابعة للحرس الثوري في حراسة الآداب والأخلاق وهو ما تجلى في الاعتقالات العنيفة التي كانت تتم لإجبار النساء على ارتداء الحجاب.
وخلال الحرب الإيرانية العراقية بين عامي 1980و1988 استغلت السلطات الإيرانية ظروف الحرب وهو ما أتاح للخميني وضع الكثير من القوانين الخانقة للحريات في إيران وخاصة قوانين النساء، فكانت تعلم السلطات حينها أن القوانين ستمر دون مقاومة داخلية لأن البلاد في حالة حرب، ومن أشهر القوانين التي أقرتها السلطات الإيرانية بحق المرأة: تنظيم اللباس والحاجة إلى إذن الأب أو الزوج من أجل الحصول على شقة والرجم في حالة الزنا.
“الدرس الأول في الديمقراطية: بإمكان كل فرد أن يتمتع بحقه في الحياة والحرية والسعي لنيل السعادة، أيًا ما كانت تفاهة أو وضاعة ذلك الفرد”
الأدب الإيراني النسائي والتمرد على السلطة السياسية
في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي برزت ظاهرة الكاتبات الإيرانيات المنشقات وبعد وقت قليل أخذت هذه الظاهرة في التعمق والتوسع خاصة بعد خروج كاتبات الجيل الجديد إلى المنفى هربًا من السلطات السياسية التي تحكم البلاد، وبمجرد خروجهن أقبلن على الكتابة بلغات أجنبية مثل الإنجليزية والفرنسية وقد لقيت كتابات الأدب النسائي الإيراني رواجًا عالميًا كبيرًا، فعلى سبيل المثال تمكنت الروائية والأكاديمية الإيرانية آذر نفيسي صاحبة رواية “أن تقرأ لوليتا في طهران” من تحقيق شهرة واسعة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتجسد ظاهرة صعود الكتابة النسائية الإيرانية في المنفى الوجه الآخر لحركة الرواية النسائية داخل الوطن التي تزخر بأصوات مهمة للغاية تُرجم البعض منها عالميًا وبقى الآخر باللغة الإيرانية، وهكذا صُنع المشهد الأدبي الإيراني الشامل من تآزر الروائيات المنشقات والروائيات المقيمات، ولأن المنشقات كن يتمتعن بقدر كبير من الحرية فقد ركزن على معارضة السلطة السياسية فيما كن المقيمات جريئات في محاولة تحطيم القيود لكن بذكاء وبشكل غير مباشر، وفيما يلي أهم روايات الأدب النسائي الإيراني التي تناولت واقع البلاد بعد الثورة الإسلامية:
رواية “أن تقرأ لوليتا في طهران”.. عن المعاناة الثقافية للنساء في إيران
“الدرس الأول في الديمقراطية: بإمكان كل فرد أن يتمتع بحقه في الحياة والحرية والسعي لنيل السعادة، أيًا ما كانت تفاهة أو وضاعة ذلك الفرد”.
نُشرت رواية “أن تقرأ لوليتا في طهران” للكاتبة الإيرانية آذر نفيسي عام 2003 وتُرجمت إلى أكثر من 32 لغة بينها العربية، ويمكن اعتبار هذه الرواية أقرب للسيرة الذاتية أو التوثيق، إذ تحكي من خلالها نفيسي على مدار أكثر من 500 صفحة ذكرياتها في إيران منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى أواخر تسعينياته حين قررت ترك بلدها والسفر للولايات المتحدة الأمريكية.
وطوال أحداث الرواية تحكي لنا نفيسي بخيبة أمل واضحة وإحباط شديد عن القوانين التي فُرضت على المجتمع الإيراني عقب الثورة الإسلامية، وتعرج بعد ذلك على أجواء الحرب العراقية الإيرانية والخوف الذي خيم على النفوس، ورغم ذلك تركت نفيسي الخوف وراءها وركزت على عملها كأستاذة للأدب الإنجليزي في جامعة طهران لتتفاجأ بعد ذلك بمنع تعليم الروايات التي كان يراها النظام تشجع على الرذيلة ومن بينها رواية “لوليتا” للكاتب الروسي نابوكوف التي تتناول قصة جريئة تحكي عن تعقيدات النفس الإنسانية ولهذا مُنعت وسُحبت من المكتبات الإيرانية، وقد اختارت نفيسي عنوان روايتها للربط بين غضبها ورفضها للثورة الإيرانية ورفض نابوكوف للثورة الروسية.
في نهاية الرواية تخبرنا مارينا أن “لون السماء لا يتغير أينما ذهبت، لكن السماء في كندا كانت تختلف عن سماء إيران إذ كان لونها أكثر زرقة، وبدت بلا نهاية وكأنها تتحدى الأفق”
رواية “سجينة طهران”.. عن الحياة داخل المعتقلات الإيرانية
“فإن نحنُ كتبنا مخاوفنا قتلناها، الخوف أفظع السجون على الإطلاق”.
خلال عام 2003 اعتقلت المصورة الإيرانية زهرة كاظمي وذلك حين كانت تصور أقارب المعتقلين خارج سجن إيفين في طهران، وبعد أقل من شهر على اعتقالها توفيت في السجن ودُفنت جثتها بسرعة دون إجراء تشريح لمعرفة سبب الوفاة، وبعد هذه الحادثة تحديدًا قررت الكاتبة الإيرانية مارينا نعمت أن تخرج عن صمتها الطويل وتحكي في روايتها “سجينة طهران” عن معاناة السجناء السياسيين في سجن إيفين الرهيب الذي قضت داخل أسواره سنتين وشهرين واثني عشر يومًا بتهمة إهانة الثورة الإسلامية.
بدأت قصة مارينا في يناير من عام 1982 وكانت وقتها لا تزال مراهقة صغيرة في السادسة عشر من عمرها، حيث اعتقلت على يد السلطات الإيرانية لأنها احتجت على قرار أحد المدرسين بتدريس الثقافة الإسلامية في حصة الرياضيات وهنا قال لها المدرس إذا لم تستسيغي الحصة بإمكانك الرحيل فما كان من مارينا إلا ترك الصف فتبعها معظم الطلبة ونتيجة لذلك اعتقلت وحُكم عليها بالإعدام ثم خُفف الحكم إلى المؤبد وضغط عليها أحد السجانين ويُدعى “علي” للموافقة على دخول الإسلام والزواج به وإلا فإنه سيلحق الأذى بعائلتها وحبيبها أندريه، فوافقت مارينا على الزواج به قسرًا، لكن علي نفسه قُتل فيما بعد ضمن حملة تصفية حسابات داخل السجن.
وبعد مرور سنتين خرجت مارينا من السجن وسافرت إلى كندا بعد توسط والد علي ليخفف عنها الحكم، وفي نهاية الرواية تخبرنا مارينا أن “لون السماء لا يتغير أينما ذهبت، لكن السماء في كندا كانت تختلف عن سماء إيران إذ كان لونها أكثر زرقة، وبدت بلا نهاية وكأنها تتحدى الأفق” ولا تنسى الكاتبة أن تخبرنا عن حلمها في أن يتحول سجن إيفين ذات يوم إلى متحف نصطحب إليه أطفالنا لنخبرهم عن فترة حالكة في التاريخ الإيراني.
ركزت أغلب الروايات على سرد معاناة المرأة مع مجتمعها الإيراني وذلك من خلال ثنائيات: الداخل والخارج، العنف والعنف المضاد
رواية “بنات إيران”.. تاريخ إيران الحديث من وجهة نظر المهمشين
“كانت مريم تسكن في حي قديم من أحياء طهران، حيث نشأت هي وأمي، ومثل معظم البيوت في المنطقة، بني منزل مريم منذ مئة سنة وفق الهندسة المعمارية الإسلامية القياسية، كان البيت يتوسط فناءً محاطًا بجدران عالية من الطوب لا يوجد فيها فتحات تطل على الطريق لكي لا تجد النساء حرجًا من أن يراهن الرجال المارين من دون غطاء”.
تنقسم رواية بنات إيران للكتابة ناهيد رشلان إلى 41 فصلًا يبدأ فيها الزمن منذ عام 1946 ويمتد حتى عام 2006 ساردًا لنا تاريخ إيران من وجهة نظر المهمشين، حيث تحكي الرواية قصة عائلة إيرانية من الطبقة المتوسطة تعيش في حالة من التعصب والانغلاق ومع خط سير الحديث عن العائلة يظهر لنا خط موازٍ يحكي عن الدولة الإيرانية، إذ تعرج الكاتبة على الكثير من المنعطفات المصيرية التي مرت بها البلاد مثل الحفل الباذخ الذي أقامه الشاه عام 1971 بمناسبة مرور 2500 عام على مملكة داريوس ثم تصف الكاتبة حالة البلاد بعد اندلاع الثورة الإيرانية.
نندمج كقراء ونتماهى بشكل عميق مع قصة باري، تلك الفتاة الإيرانية الجميلة التي كانت تعشق الشعر والتمثيل والسينما وتمثل بالفعل في إحدى مسرحيات المدرسة، لكن والدها يعاقبها ويمنعها من التمثيل ويصر على تزويجها من رجل ثري يُدعى “طاهري” الذي يخيب أملها هو الآخر ويرفض حلمها بالتمثيل رفضًا قاطعًا، ولأن باري لم تعد تحتمل تلك الحياة التي تضغط عليها كثيرًا بالأوامر والنواهي فقد قررت قتل نفسها، على عكس مريم التي ظلت تقاوم وتحارب حتى انتزعت من والدها موافقة على السفر للدراسة في الولايات المتحدة.
في النهاية ركزت أغلب الروايات على سرد معاناة المرأة مع مجتمعها الإيراني وذلك من خلال ثنائيات: الداخل والخارج، العنف والعنف المضاد، القمع المتتالي، المنع والحجر، الرفض والقبول، وعلى الرغم من كل ما تعانيه المرأة في إيران، فإنها تظل مرتبطة بوطنها الذي يبقى أكبر من كل شيء رغم جميع مشكلاته، ولهذا فإن كل بطلات الأعمال الروائية السابقة كن مقاتلات، عشن حياة مديدة من القمع والتهميش وعدم الإنصاف، لكنهن حاربن على الرغم من ذلك حتى الرمق الأخير، باري التي خلف غيابها جرحًا غائرًا بداخلنا وكأنما كل مظلومة هي باري التي تجسد مآسي المرأة الإيرانية التي قتلتها أحلامها البسيطة، ومريم المقاومة ومارينا التي صمدت عشرين عامًا تحمل جرحًا ينزف بداخلها حتى قررت البوح به بعد حادثة مقتل زهرة الكاظمي.