“من الأن فصاعدًا سنجد يهودًا في ثياب مسلمين، اليهودي الوظيفي، مسلم يصلي معنا العشاء في المسجد لكنه يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الجنرال اليهودي، وعليه يجب تحليل تلك الظاهرة حتى لا يتحول كثير منا إلى يهود دون أن يدروا”، هكذا تنبأ المفكر والأكاديمي المصري الراحل عبد الوهاب المسيري بما ستؤول إليه العلاقة بين العرب و”إسرائيل” قبل عشرات السنين.
وفي ظل تلك الهرولة التي يشهدها عالمنا العربي نحو الارتماء في أحضان اليهود والمتجسدة في اتفاقي الإمارات والبحرين فإن تسليط الضوء على تلك التحذيرات القديمة للمفكرين العرب التي لم يؤخذ بها للأسف وأوصلت الأمة إلى ما هي عليه الآن، بات من الضرورة بمكان، لإنقاذ ما تبقى من عقد السبحة المنفرط على أيدي اليهود العرب.
12 عامًا على رحيل المسيري الذي أثرى المكتبة العربية بأمهات الدراسات الخاصة بتاريخ الحركة الصهيونية والقضية الفلسطينية، واستطاع أن يشرح العقل اليهودي والصهيوني من خلال موسوعته الشهيرة التي أخذت منه قرابة 20 عامًا كاملة، هذا بجانب إسهاماته الثرية في مجال الأدب والحداثة والفلسفة المعاصرة.
استطاع الأكاديمي المصري الذي كان عضوًا بارزًا في حركة “كفاية” المعارضة أن يعيد تشكيل الرؤية العربية تجاه اليهود والصهيونية بما قدمه من رؤى ونظريات كانت بمثابة القاعدة الأساسية التي انطلق منها تلامذته لتشريح العقل اليهودي وفهم أبجدياته بما يسهل التعامل معه وفق ما يتنباه من إستراتيجيات وإستراتيجيات مضادة.
وقد ساهمت كتابات المسيري ونظرياته في وضع العديد من النظم العربية في حرج شديد، وذلك لما كشفه من غياب الإرادة حيال مقاومة الصهيونية واستمراء الوضع الراهن تحقيقًا لأهداف وأجندات خاصة، ولعل هذا الموقف هو ما يفسر غياب الاحتفاء بذكرى رحيل الرجل مقارنة بالأوساط الفكرية العروبية في الخارج رغم أنه أحد من يشار لهم بالبنان في دراسات اليهود واليهودية.
خليط من الأمواج الفكرية
يعد الأكاديمي الراحل لوحة فنية ثرية الخيوط والألوان، فالرجل خليط من كل الأمواج الفكرية ساهمت بشكل كبير في تشكيل هويته العقلية والشخصية، حتى استقر به المقام إلى ما كان عليه قبل رحيله، حيث اختار لنفسه أن يخوض التجربة الفكرية بذاته دون الاكتفاء السماعي وفقط، فتنقل بين هذا التيار وذاك حتى وصل إلى مرحلة الثبات كما فعل الفلاسفة القدماء في رحلتهم من الشك إلى اليقين.
البداية كانت في الصغر حين انضم لجماعة الإخوان المسلمين في فترة فوران الشباب وشعلة الحماسة، لكن سرعان ما تمرد على هذا التموضع التنظيمي لينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حيث الماركسية، فانضم إلى حركة كفاية اليسارية المعارضة، حتى كان بينه وبين الإلحاد خطوات قليلة على حد وصفه.
وبعد ضربات فكرية موجعة تلقاها المسيري أثرت سلبًا على بنيانه الثقافي والتنظيري وبعد سنوات طويلة من البحث والتعمق الفكري استقر به المقام إلى العودة الاختيارية نحو الإيمان، وذلك بعدما استقر في يقينه عجر الأفكار المادية التي كان يؤمن بها عن تفسير معظم الإشكاليات المتعلقة بالسلوك الإنساني وعواطفه.
شكل المفكر المصري حالة استثنائية في تاريخ الفكر الإسلامي المعاصر، فبجانب الأصالة الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والتجديد الاصطلاحي والمفاهيمي، تميز بشمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي والترجمة.
كما كان صاحب رؤية فلسفية حضارية تؤمن بالتعدد والتنوع في روافد مشروع التأسيس الحضاري، ما عبّد الطريق أمامه لتدشين مشروع فكري تجديدي يدافع به عن الإنسانية ويصقل الهوية الإسلامية بفلسفة عميقة، ورغم التنقل الفكري الذي مر به على مدار حياته، فإنه يرى في نفسه أنه حافظ على “الالتزام بالقيم الثابتة مثل الحق والخير والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي وضرورة إقامة العدل في الأرض”.
رحلة البحث عن الذات
تعكس مؤلفات المسيري حالة التنقل الفكري التي خاضها الرجل بين كل التيارات والأمواج الأيديولوجية، فلكل مؤلف قصة وحكاية، توثق بالدليل لما آمن بهذا الفكر ولماذا دافع عنه وتبنى وجهة نظره، ثم يأتي المؤلف الآخر ليكشف النقاب عن دوافع الخروج من زمرة هذا التيار إلى آخر وهكذا.
وقد شكلت كتبه التي أثرى بها المكتبة العربية خريطته الفكرية طيلة مسيرة حياته، حيث كانت البداية مع كتابه “الفردوس الأرضي: دراساتٌ وانطباعات عن الحضارة الأمريكية” الذي يعد المنشور الأول عربيًا على الإطلاق، وهو بمثابة مرحلة وسط بين المادية والإيمان في باكورة تحولات الأكاديمي المصري الفكرية، ويطوي جمهرة المقولات الفلسفية والمعرفية التي بُني عليها مشروعه الضخم.
أما عن توثيق تطور مشاعر المفكِّر في رحلة بحثه وانتقاله من البراءة إلى الحيرة فسجلها في مجموعته الشهيرة الصغيرة “أغاني الخبرة والحيرة والبراءة: سيرة شعرية شبه ذاتية شبه موضوعية” التي تعتبر سيرة شعورية مختصرة ورحلة خاضها داخل شخصيته الثرية ومراحل تطورها.
ويعد كتابه “رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمار” من أهم المؤلفات التي تكشف مراحل تطور المنهج الفكري عند المسيري، إذ أماطت تلك المقولات المجمعة له اللثام عن كيفية قراءته للعام من خلال الخاص، كما أنه وبتعبير علماء الاجتماع نجحت في رسم لوحة “سوسيومعرفيَّة” سياقيَّة بديعة لتطور أفكار الأستاذ ومنهجه داخل سياقه التاريخي.
كانت الدراسات الأدبية حاضرة بقوة في مسيرة الراحل، وهو ما توثقه الدراسات المنشورة في كتابه “في الأدب والفكر: دراسات في الشعر والنثر”، حيث يكشف في هذا المؤلف رؤيته النقدية ويطبق فيها منهجه كونه ناقدًا أدبيًا وفيلسوفًا له وجهة نظر يسعى للتثبت منها وتوصيلها للقارئ بشكل نقدي منهجي.
ويرتكز المشروع الفكري للمسيري على نماذج تفسيرية ثلاث (العلمانيَّة والجماعات الوظيفية والحلوليَّة) التي في مجملها تُشكِّل منهجه وتضع قواعد البناء لبنيانه الثقافي الذي حارب لأجله سنوات، وقد كشف كل نموذج من تلك النماذج في مؤلف على حدة: “الحلوليَّة ووحدة الوجود” و”العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” و”الجماعات الوظيفية اليهودية: نموذجٌ تفسيريٌّ جديد”.
اليهود والصهيونية
رغم هذا الإنتاج الفكري الغزير الذي أثرى به المفكر المصري المكتبة العربية من مؤلفات، كل واحد منها يعد مشروعًا فكريًا بمفرده، فإن موسوعته الضخمة “اليهود واليهودية والصهيونية” التي التهمت من عمره قرابة 20 عامًا كاملة من البحث والكتابة والتدقيق، تعد الأبرز في مسيرته، وهي التي خلدت اسمه في سجلات الفكر العربي حتى بعد رحيله.
ورغم غياب الرجل عن عالمنا لكن اسمه ظل حاضرًا كأول خيار لدى أي باحث عن تاريح اليهودية ومحاولات قراءة العقل الصهيوني ومخططاته في المنطقة، إذ استطاع أن يقدم دراسة وصفية تشريحية للعقل المجتمعي اليهودي ويكشف أعماق مخططه ومشروعه التوسعي المستند في حقيقته إلى أبعاد دينية في المقام الأول.
كان المسيري موضوعيًا جدًا في تناوله لتلك القضية، فلم يقتنع بالنموذج التآمري الذي لا يرى في الصهيونية إلا “مؤامرة يهودية” فقط، كما أنه رفض فكرة التفوق الصهيوني في مقابل التأخر العربي كما يردد البعض، حيث يرى في كلا النموذجين سطحية تخرج بالظاهرة إلى آفاق أخرى غير التي هي عليها في حقيقة الأمر.
ومن هنا فإن منهجه الفكري في قراءة تلك القضية كان مختلفًا تمامًا عمن سبقوه أو لحقوا به من المفكرين والباحثين، إذ وضع الظاهرة الصهيونية في إطارها الحضاري كظاهرة استعمارية أوروبية في المقام الأول، كان الهدف منها إن صح التعبير: تخليص أوروبا البيضاء من أحد أبرز مشاكلها الداخلية وذلك عبر تصديرها إلى بلاد الشرق على حساب سكانها، ومن ثم تعامل معها شأنها شأن أي تجربة من تجارب الاستعمار في إفريقيا أو أمريكا الشمالية.
يرى المسيري في قراءته للعقلية اليهودية أن هناك عداءً واضحًا بين الصهيونية واليهود، وهو واضح ولا يحتاج وفق رأيه إلى دليل، حتى إن توارى عن الأنظار، غير أن يهود العالم يسعون بكل قوة إلى تصدير صورة مغايرة تنطوي على التفافهم على قلب رجل واحد، في محاولة للحفاظ على الكيان من التفتيت.
ومن خلال تلك الإشكالية المتعمقة بين اليهود والصهونية قدم المفكر الراحل عددًا من الأسئلة التي تكشف حالة الهشاشة التي ترتكن عليها الصهيونية في ادعاءات وحدتها من أبرزها السؤال الخاص بيهودية الدولة اليهودية، وهل هي فعلًا دولة يهودية تعبر عن الهوية اليهودية أم أنها تعبّر عن هويتها الإسرائيلية العلمانية؟ وهل هي دولة اليهود تدافع عن مصالحهم أم أنها دولة تدافع عن مصالحها دون أخذ مصالح يهود العالم في الحسبان؟!
ومن أبرز المخرجات التي خرج بها المسيري في رحلته داخل العقل المجتمعي والسياسي اليهودي أن الدولة الصهيونية في حقيقتها مجرد أداة في يد الغرب، لا قيمة لها في حد ذاتها، غير أن قيمتها المدعاة مستمدة في الدور أو الوظيفة التي تقوم بها، أي حماية المصالح الغربية في العالم العربي، وهي الزاوية التي يجب على العرب الالتفات إليها خلال مشروع المقاومة الشاملة ضد هذا الكيان المغتصب، لا سيما أنهم يرتمون كثيرًا في أحضان الغرب كمخلص لهم من تلك المعضلة، محولين إياه إلى خصم وحكم في نفس الوقت، وهي قمة السذاجة السياسية بعينها.
المشروع الغربي تجاه العرب
“يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن الإستراتيجية الغربية تجاه العالم الإسلامي منذ منتصف القرن 19 تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه”، بهذه الكلمات التي كتبها المسيري في مقال له في نوفمبر 2006 كشف النقاب عن الأهداف الحقيقية للمشروع الغربي تجاه العرب والمسلمين.
فالفشل الذي ذاقته أمريكا في العراق وأفغانستان على مدار سنوات طويلة دفع بها بإلقاء الكرة في ملعب “إسرائيل” من أجل تنفيذ مخططها الاستعماري بصورة متطورة ومتماشية مع المستجدات العصرية، وهو ما بدأت إرهاصاته بالفعل حين أقدمت دولة الاحتلال على التحرش بلبنان وحكوماته، ثم انفرط العقد بعد ذلك.
المقال الذي جاء تحت عنوان “الشرق الأوسط الجديد في التصور الأمريكي الصهيوني” في نوفمبر 2006، والمنشور في موقع “الجزيرة نت” يرى أن “إسرائيل” تم زرعها في قلب المنطقة لتحقيق هذا الهدف، إذ إن العالم العربي آنذاك قبيل وجود الكيان الإسرائيلي كان يشكل وحدة مترابطة تمثل فيما بينها ثقلًا إستراتيجيًا واقتصاديًا وعسكريًا، ومن ثم سيكون عائقًا أمام الأطماع الاستعمارية الغربية، وعليه كان لا بد من تفكيكه.
وأشار في مقاله أن “الشعب العربي سيظل مجرد أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعًا أعمى للولايات المتحدة”، وتابع “ففي إطار التقسيم تصبح الدولة الصهيونية الاستيطانية، المغروسة غرسًا في الجسد العربي، دولة طبيعية بل قائدة. فالتقسيم هو في واقع الأمر عملية تطبيع للدولة الصهيونية التي تعاني من شذوذها البنيوي، باعتبارها جسدًا غريبًا غرس غرسًا بالمنطقة العربية”.
ويعتبر المفكر الموسوعي أن التقسيم الذي حاربت لأجله “إسرائيل” سيجعل منها دولة طبيعية قوية مغروسة في الجسد العربي المهلهل بالتقسيم فيما بين حدوده من خلال بث الخلافات وروح الكراهية والعداءات المفتعلة، وشيئًا فشيئًا يصبح الكيان الصهيوني ليس مجرد دولة في المنطقة بل القائد الفعلي لها مع مرور الوقت.
ولد المفكر المصري الراحل بمحافظة البحيرة في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1938، حصل على ليسانس الأداب من جامعة الإسكندرية ثم عُين معيدًا بالكلية عام 1959، ليسافر بعدها إلى الولايات المتحدة لدراسة الماجستير والدكتوراه وحصل عليهما من جامعتي “كولومبيا و”ريتجرز”
رغم مرور 12 عامًا على رحيله ما زال الرجل حيًا بمؤلفاته ومواقفه القومية الثابتة التي يستدعيها الشارع المصري والعربي الآن لتفسير حالة الهرولة غير المسبوقة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني
بعد عودته شغل منصب رئيس وحدة الفكر الصهيوني بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، ثم انتقل بعد ذلك إلى منصب المستشار الثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة بنيويورك، وهما المنصبان اللذان وسعا من علاقاته بالساسة والمفكرين ودعما مشروعه الفكري فيما بعد.
عمل أكاديميًا في عدد من الجامعات المصرية والعربية منها أستاذ الأدب الإنجليزي والمقارن بجامعات عين شمس بمصر، والملك سعود بالسعودية وجامعة الكويت وجامعة ماليزيا الإسلامية بكوالالامبور على الترتيب، بجانب عمله الأكاديمي شغل منصب عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية بليسبرج بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومستشار التحرير في عدد من الحوليات التي تصدر في ماليزيا وإيران والولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا.
وبعد صراع طويل مع مرض السرطان توفي المسيري فجر الخميس 29 من جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 3 من يوليوتموز 2008 بمستشفى فلسطين بالقاهرة عن عمر ناهز السبعين عامًا، فيما شارك في تشييع جثمانه لفيف من مفكري الأمة وعلمائها على رأسهم الدكتور يوسف القرضاوي والمفكر المصري المعروف فهمي هويدي والدكتور محمد سليم العوا والداعية عمرو خالد.
ورغم مرور 12 عامًا على رحيله ما زال الرجل حيًا بمؤلفاته ومواقفه القومية الثابتة التي يستدعيها الشارع المصري والعربي الآن لتفسير حالة الهرولة غير المسبوقة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، لتبقى تحذيراته بشأن اليهود العرب، وهم كثر، شهادة تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل خاصة، لتبقى القضية العربية حية باقية في صدور العرب مهما انخرطت الأنظمة في هذا المستنقع.