كشفت الأيام القليلة الماضية أن تحركات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المنطقة كان الهدف منها تعزيز مصالح بلاده والخروج بأكبر قدر من المكاسب مستغلًا حالة التوتر التي تشهدها المنطقة من أجل استعادة نفوذ فرنسا المتراجع خلال السنوات الأخيرة لحساب دول وكيانات أخرى.
وعليه بات الموقف الرسمي الفرنسي مُرتهنًا في توجهاته إلى بوصلة المكاسب المحققة، بعيدًا عن الشعارات التي يرفعها بين الحين والآخر التي ما عادت تنطلي على أحد، وهي القاعدة التي يمكن الاستناد إليها في تفسير الزيارات العدة التي قام بها ماكرون لبعض دول المنطقة في الآونة الأخيرة.
المتابع لتفاصيل الزيارات التي قام بها الرئيس الفرنسي لكل من بيروت وبغداد ومن بعدهما دول أطراف النزاع في المتوسط يجد أن جميعها تأتي تحت عنوان واحد “استعادة أمجاد الاستعمار الفرنسي” وهي الإستراتيجية التي لجأ إليها ماكرون لتعويض شعبيته المتراجعة مؤخرًا بسبب سياساته التي ألقت بظلالها السلبية على الشارع الفرنسي فأسفرت عن العديد من التظاهرات المنددة به وبحكومته.
حتى الموقف الأخير المناهض لتركيا والمعادي لها في ملف النزاع على الموارد الطبيعية في شرق البحر المتوسط، كان الهدف منه تحقيق أكبر قدر من المكاسب، من خلال تغذية حالة العداء الإقليمي في تلك المنطقة الحساسة، فالانحياز لليونان في صراعها مع أنقرة ليس نابعًا من أيديولوجيات أو مبادئ سياسية كما يدندن البعض، بل هو انحياز براجماتي في المقام الأول.
باريس تجني حصاد انحيازها ضد تركيا
الحصيلة الأولى للانحياز الفرنسي لليونان في النزاع مع تركيا تمثلت في إعلان أثينا، أمس السبت، عن شراء 18 طائرة رافال الفرنسية و4 فرقاطات، لدعم قواتها المسلحة في ظل تصاعد التوتر في المتوسط على خلفية قرار أنقرة التنقيب عن البترول والنفط قبالة المياه التي تعتبرها تابعة لها بينما تعتبرها اليونان ضمن سيادتها.
تعلم باريس جيدًا أن اليونان لا تمتلك قوة عسكرية مؤهلة لمواجهة تركيا، ومن ثم كان لا بد من تغذية هذا النزاع لدفعها إلى تعزيز قوتها المسلحة عبر صفقات تسليح، ولن يجد اليونانيون أمامهم إلا فرنسا لرد الجميل على موقفها لا سيما أنها التي دفعت الغرب سواء في الاتحاد الأوروبي أم في منظمة شمال حلف الأطلسي إلى اتخاذ موقف موحد ضد ما تعتبره “السياسة الخطيرة” لأنقرة خلال السنوات الأخيرة.
يذكر أن الأسطول الفرنسي يتكون من طائرات إف- 16 الأمريكية وطائرات ميراج 2000 الفرنسية، وهو ما لا يقارن بالقوة العسكرية التركية، لذا ترغب أثينا في اقتناء طائرات الرافال الفرنسي، التي تعد وفق المراقبين أفضل مقاتلة أوروبية متفوقة على يوروفايتر التي تشترك فيها عدد من الدول.
لم تكن اليونان وحدها المستهدفة بالصفقات الفرنسية، فالزيارة الخاطفة التي قام بها ماكرون لبغداد في 2 من سبتمبر/أيلول، تضمنت هي الأخرى عقود وصفقات لتزويد العراق بالسلاح الفرنسي (طائرات وأنظمة دفاع جوي ورادارات ألغيت في عهد رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي) كما حملت في الوقت ذاته رسائل سياسية مناهضة لتركيا.
جنون التسلح اليوناني
التصعيد بين أنقرة وأثينا في الآونة الأخيرة الذي لعبت باريس دورًا كبيرًا في تغذيته أصاب اليونان بجنون التسلح بعدما تصاعد منسوب التوتر حتى اقترب من مرحلة الاشتباك الفعلي، لذا قرر رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس زيادة الإنفاق الدفاعي بصورة غير مسبوقة، رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها بلاده.
وخلال كلمته الاقتصادية السنوية في مدينة سالانيك شمالي البلاد، قال ميتسوتاكيس إن بلاده ستعزز قواتها المسلحة، معلنًا شراء 18 طائرة رافال وأربع فرقاطات وتحديث أربعة، مضيفًا “القوات المسلحة ستقوم بضم 15 ألف فرد خلال السنوات الخمسة المقبلة”.
كما ألمح إلى أن “حكومته المحافظة ستنهي الضريبة العقارية في 26 جزيرة وستخفض استقطاعات التأمينات الاجتماعية بالنسبة للعاملين والشركات”، مشيرًا إلى أنه “لا يمكن أن تكون أولويتنا أي شيء آخر إلا حماية فرص العمل، وسيتم تمديد كل إعانات البطالة شهرين وإنهاء ما يسمى برسوم ضريبة التضامن على الدخل لمدة عام واحد في 2021”.
ويعمل اليونانيون في إطار دعم قدراتهم العسكرية على برنامجين منفصلين للتسليح، أحدهما للفترة 2020- 2021 والآخر للفترة 2020- 2025 (خمس سنوات)، بحسب صحيفة “حرييت” التركية التي ذكرت أن حكومة أثينا قررت – بسبب أجواء التوتر مع تركيا – إنهاء سياسات “التقشف” المفروضة على قواتها المسلحة بسبب الأزمة الاقتصادية من عشر سنوات.
الصحيفة أشارت إلى أن اليونان ستطلب في المرحلة الأولى من برنامج التسليح 44 مقاتلة فرنسية من طراز ميراج، إلى جانب قطع غيار لازمة لطائرات الهيلكوبتر المعطلة التابعة للقوات البرية والبحرية، مقابل 1 إلى 1.5 مليار يورو، هذا بجانب شراء أربع مروحيات “سيكورسكي” مع 33 طوربيدًا جديدًا لغواصات من النوع 214 و209 التي تم شراؤها من ألمانيا سابقًا.
علاوة على بعض الصفقات الأخرى لدعم معظم قطاعات القوات المسلحة، ومن المتوقع حصول فرنسا على حصة الأسد في برنامج التسلح اليوناني لفترة الـ5 سنوات وهو ما سينعش الخزانة الفرنسية التي تعاني من أزمات خلال الفترة الماضية، بحسب الصحيفة التركية، في ضوء حالة التناغم البراغماتي التي تشهدها العلاقات بين البلدين.
وتأتي زيادة ميزانية الإنفاق على القدرات الدفاعية العسكرية وبرنامج التسليح في وقت تعاني فيه اليونان من هبوط اقتصادي حاد، إذ تشير التقديرات إلى تراجع معدل النمو الاقتصادي للبلاد بمعدل سنوي قدره 15.2% خلال الربع الثاني من العام الحاليّ، تعزز هذا الوضع بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد.
الأطماع الفرنسية في المنطقة
الحضور الفرنسي اللافت للنظر في ملف شرق المتوسط والدعم المطلق لليونان وتأليب الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي ضد أنقرة أثار موجة من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء هذا الموقف المنافي تمامًا للشعارات المتعلقة بالرغبة في حل الأزمة بالطرق الدبلوماسية التي تنادي بها بعض القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة.
فريق من المحللين يرى أن موقف ماكرون يقف خلفه أطماع اقتصادية أخرى غير مسألة إنعاش الخزينة بمليارات صفقات التسليح، وهو ما أشار إليه مدير مركز سياسات وبحوث البحر المتوسط، إسماعيل شاهين، الذي يؤكد أن فرنسا تسعى لاحتلال البحر الأبيض المتوسط عبر اليونان.
شاهين في مقابلة له مع صحيفة “يني شفق” التركية يرى أن الاتحاد الأوروبي يسعى لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من موارد البحر المتوسط، وعليه يسعى لوضعه في مركز سياسته الخارجية، لافتًا إلى أن الهدف الرئيسي مما وصفه بـ”القرصنة الفرنسية” في البحر الأبيض المتوسط، هو الاستيلاء عليه من خلال دعم الموقف اليوناني.
وبسبب الدور الذي تريد فرنسا أن تلعبه في الجسر الذي سيقام بين البحر المتوسط وإفريقيا الذي سيكون له تداعيات اقتصادية كبيرة، يسعى ماكرون لوضع المتوسط في مركز الاهتمام الأوروبي، بحسب مدير مركز سياسات وبحوث البحر المتوسط الذي كشف عن مخطط يوناني لاغتصاب حقوق تركيا في شرق المتوسط وبحر إيجة، من خلال الاستناد لخريطة “إشبيلية”، ما يسهل للحلف الفرنسي اليوناني تنفيذ مخطط بيع موارد الطاقة بمعزل عن الدولة التركية.
وكان الرئيس الفرنسي قد دعا الخميس الماضي أوروبا إلى تشكيل جبهة موحدة ضد تركيا، لافتًا في تصريحات له قبيل قمة دول جنوب الاتحاد الأوروبي في جزيرة كورسيكا، أنه على دول القارة أن تتحدث بصوت ينم عنزيد م من “الوحدة والوضوح” تجاه تركيا التي “لم تعد شريكةً” في شرق المتوسط.
ماكرون اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه يقوم بتصرفات “غير مقبولة”، داعيًا أنقرة إلى “توضيح نواياها” وهو ما علقت عليه وزارة الخارجية التركية بأن مثل هذا الهجوم يأتي بعد إحباط أنقرة كل مخططات الرئيس الفرنسي “الخبيثة” و”أفسدت ألاعيبه في السياسة الخارجية”.
أنقرة تعتبر أن هجوم ماكرون بشأن تركيا ورئيسها “يعد مظهرًا من مظاهر عجزه ويأسه”، لافتة في بيان لها أن الرئيس الفرنسي “أدلى مجددًا بتصريحات متعجرفة، وحاول إعطاء درس لتركيا، بطريقة تعبر عن نزعاته الاستعمارية القديمة”، محذرة من أن مثل تلك المواقف الفردية والقومية تشجع على التوتر وتحدد مصالح الاتحاد الأوروبي في المنطقة.
الرئيس التركي هو الآخر حذر نظيره الفرنسي من تصريحاته العدائية المتكررة، موجهًا خطابه لماكرون في كلمة له خلال مشاركته في فعالية أقيمت في جزيرة الديمقراطية والحريات الواقعة في بحر مرمرة بمناسبة ذكرى الانقلاب العسكري في تركيا بتاريخ 12 من سبتمبر/أيلول 1980 قائلًا: “سيد ماكرون سيكون لديك المزيد من المشاكل معي شخصيًا، لا تمتلك معلومات تاريخية وتجهل حتى تاريخ فرنسا، فدعك من الانشغال بتركيا وشعبها”.
كما استدعى أردوغان بعض صفحات التاريخ الدموي لفرنسا في حديثه الموجه لماكرون منوهًا إلى أن “تاريخ إفريقيا هو تاريح فرنسا أيضًا، أنتم من قتلتم مليون إنسان في الجزائر و800 ألف إنسان في رواندا، لا يمكنكم إعطاءنا درسًا في الإنسانية، أما نحن فلم نتسبب في أي أذى لأي إنسان في إفريقيا، نحن عملنا على دعمهم ومساعدتهم فقط”.
وأمام هذا التوتر المتصاعد في المنطقة تسعى واشنطن إلى تغليب الحل الدبلوماسي لتلك الأزمة معربة على لسان وزير خارجيتها مايك بومبيو خلال زيارته لقبرص مساء السبت، عن قلقها من تصاعد حالة التوتر، فيما أشار بومبيو خلال لقائه بالرئيس نيكوس أناستاسياديس إلى حاجة دول المنطقة “للتوصل دبلوماسيًا وسلميًا إلى حل لخلافاتها بما في ذلك ما يتعلق بقضايا الأمن ومصادر الطاقة”، مضيفًا “تصاعد حدة التوتر العسكري لن يساعد أحدًا إلا أولئك الخصوم الذين يرغبون في رؤية الانقسام في وحدة الدول عبر الأطلسي”.
وهكذا تثبت فرنسا، عبر مواقف رئيسها الذي يجيد توظيف قوى بلاده الناعمة، أن تحركاتها في المنطقة، عربيًا وشرق أوسطيًا، ميكافيللية في المقام الأول، وبراغماتية الأهداف، وهو ما يبدو أنه يتحقق رويدًا رويدًا، إذ بدأ جني حصاد تلك المواقف لا سيما المضادة لتركيا، لكن هل تنقذ تلك المراوغات الخارجية شعبية ماكرون المتراجعة داخليًا؟ هذا ما سيجيب عنه الشارع الفرنسي.