لا تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بأي مصداقية في آسيا، ولا تمثل لهم أي معنى لما يتم ترويجه عنها، فتجاربها القديمة والمستمرة حتى الآن مع المنطقة، لا تؤكد إلا التحيز لمن حولوا مسارات الشعوب واغتالوا أحلامها في الحرية والكرامة والديمقراطية، ولهذا لم يلتفت الشارع الآسيوي كثيرًا للضغوط التي يمارسها محاميان أستراليان بالنيابة عن مئات اللاجئين الروهينغا لجلب المحكمة إلى آسيا ونظر قضية ميانمار من حيز آسيوي، بما يمكنها من اتخاذ قرارات جريئة تنقذ سمعتها وتعيد تدعيم العلاقة المنهارة بالأساس مع شعوب القارة الذين لا يكنون لها أي ود على الإطلاق.
محاكمة في آسيا
تواجه حكومة ميانمار بقيادة أونغ سان سو كي الفائزة بجائزة نوبل للسلام واحدة من أكثر الضغوط شراسة وغير المسبوقة في تاريخ البلاد، بسبب تزيد الاتهامات الدولية بعدم استحقاق السيدة للجائزة الدولية من ناحية، ولفشلها في وقف حملة العنف الأمنية الممنهجة للقضاء على أقلية الروهينغا من ناحية أخرى، وهي تصرفات بربرية جلبت المحامين والحقوقيين للدفاع عن الضحايا من كل أنحاء العام.
لكن من جميع هؤلاء، لجأ محاميان أستراليان، إلى محاولة جر المحكمة الجنائية الدولية للمنطقة، وإجراء محاكمة خارج أسوار أوروبا وتوازناتها السياسية انتصارًا لضحايا هذه المهزلة الإنسانية، بعد نزوح أكثر من 700 ألف لاجئ من الروهينغا بعد أعمال عنف اندلعت عام 2017، بحسب التقديرات الرسمية للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وإن كانت الأرقام الحقوقية ومنظمات المجتمع الدولي تصل تقديرات بعضها إلى أكثر من مليون شخص.
يحاول المحاميان وخاصة المحامية كيت جيبسون التي تمثل مجموعات من روهينغا مخيم كوكس بازار للاجئين في بنغلاديش، دفع المحكمة للانعقاد ولو في بعض جلسات الاستماع منها بآسيا، سواء في تايلاند أم بنغلاديش، حتى تبقى سلطة المحكمة الدولية على دراية بالمعاناة التي يعيشها سكان الروهينغا في المخيم، وبالتالي نقل محاكماتها إلى مكان قريب لمجتمعات الضحايا، قد يكون أكثر الآليات عدالة لإنصافهم.
يستند مطلب المحاميين إلى المشكلات التي تواجه الشهود والضحايا، على رأسها الصعوبات المالية ونقص الوثائق وضعف الاتصال بالإنترنت، وهو ما يتطلب من العدالة الانتقال إليهم، وربما يكون تقليدًا في المستقبل، فدائمًا ما يكون بُعد الحيز الجغرافي للمحكمة عن الأزمات، سببًا في جعلها خارج نطاق الموضوعية، بل ويفرغها من مضمونها، ويثير الشبهات في أهدافها، خاصة أن الكثير من تاريخها يعزز من علاقة عدم الثقة، مثلما هو الحال مع آسيا التي ترتاب دائمًا في أهداف المحكمة وما ينتج عنها من قرارات.
الموقف القانوني.. هل يجوز؟
نظريًا، لم تضبط المحكمة في موقف كهذا، فلم تنظر أي قضية خارج مقرها في لاهاي منذ بداية انعقاد أولى جلساتها عام 2002، وإن كان الطلب ليس الأول، إذا سبق لضحايا أزمات جماعية في كينيا والكونغو وبعض البلدان الأخرى، مخاطبة المحكمة للانتقال إليهم، لكن جميع الطلبات رُفضت لأسباب أمنية ومالية وتقنية.
الغريب أن “الجنائية الدولية” وبحسب بنود تأسيسها، يمكنها أن تحاكم أي فرد في العالم، لكنها لم تستطع حماية شرعيتها من تشكيك بعض الدول فيها حتى الآن وشيطنة أجندتها الأجندة الأخلاقية والحقوقية، وما تعلنه من أهداف لمعاقبة جرائم لا تلتزم بها أكبر دول العالم التي تفعل ما تريد دون أن تستطيع المحكمة استهداف أي من رموزها.
تتمتع المحكمة بالولاية القضائية للتحقيق في مجموعة من الجرائم مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وعدوان الدول على بعضها البعض، ورغم مثالية هذه الأطروحات، فإن المحكمة على أرض الواقع مقيدة بتوازنات القوى عندما تحقق في إحدى القضايا، فتصبح يدها مغلولة في توجيه مذكرات التوقيف، ما يجعلها انتقائية للغاية في قضاياها، الأمر الذي يتعارض كليًا مع مبدأ العدالة.
ما الدليل؟ حتى الآن لم تحقق المحكمة إلا في قضايا الأفارقة والبدان الأكثر ضعفًا، ما يجعل محاولة إقحامها في أي أزمة، بداية لإحداث نتائج عكسية في مفاوضات السلام.
يمكن القول إن أزمة المؤسسية ونقص الموضوعية، كلها اتهامات تلاحق المحكمة منذ موافقة 120 دولة على تدشينها في مؤتمر للأمم المتحدة في روما، وأكبر حملات التشويه التي تعرضت لها كانت من كبرى القوى الدولية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، الذين رفضوا إقامة مثل هذا الكيان الذي قد يهدد سيادتهم مستقبلًا.
مع الوقت تراجعت الولايات المتحدة قليلًا وأصبحت تقدم دعمًا إستراتيجيًا مهمًا للمحكمة، لكن دون أن تصادق على نظام روما الأساسي، الأمر الذي حصن مواطنيها من أي لوائح اتهام محتملة، وهو ما أضر بسمعة المحكمة كمزود للعدالة، فتجاهلت الجنائية بناء على ذلك كل الدعوات التي طالبتها بإدانة جورج دبليو بوش وديك تشيني وغيرهم من رموز البلاد رغم دورهم في التعذيب بسجون أمريكا حول العالم، فضلًا عن الجرائم السياسية والعسكرية، وعلى رأسها احتلال العراق وأفغانستان.
المحكمة وآسيا
رغم وجاهة الطرح الأسترالي بضرورة عقد المحكمة في آسيا، لكن حتى إن تمكنت المحكمة من الإقدام على هذه الخطوة التي تحتاج إلى دعم القوى الدولية وتعديل تشريعي وغطاء أمني ومالي وسياسي، فإنها لن تجد أي صدى أو ترحيب في الشارع الآسيوي.
وتتمتع المحكمة الجنائية الدولية بتاريخ وسمعة سيئة في جنوب شرق آسيا ولها وقع سيئ في النفوس بسبب إخفاقاتها أو تواطؤها في القضايا التي عرضت عليها في العديد من البلدان، على رأسها قضية الخمير الحمر في كمبوديا باعتبارها واحدة من أكثر الإخفاقات الصارخة للقانون الدولي.
الخمير الحمر أزمة جرت أحداثها في حقبة السبعينيات من القرن الماضي، والمصطلح يقف خلفه تحالف مجموعة أحزاب شيوعية في كمبوديا، تطور التحالف لاحقًا ليشكل الحزب الشيوعي الكمبودي، كما يُعرف أيضًا باسم منظمة حزب الخمير الشيوعي أو الجيش الوطني لكمبوديا الديمقراطية، وارتكبت هذه المنظمة جرائم مروعة بحق 1.5 مليون مواطن ـ بعض التقديرات تؤكد أنهم نحو 3 ملايين شخص -.
لاحقت المنظمة معارضيها بالإعدامات والتعذيب، بتحريض من زعيمهم بول بوت الذي كان يسعى لتطبيق الشيوعية الزراعية، وحاول إجبار المجتمع على الخضوع لهندسة اجتماعية جديدة ما أشعل جذوة العنف في البلاد، ورغم هذه الجرائم المروعة للحكومة الشيوعية، فإنها احتفظت بمقعد البلاد في الأمم المتحدة، فيما تجاهلت المؤسسات الدولية محاسبة المنظمة ورموزها، بفضل دعم الصين وروسيا.
هذه القضية تحديدًا كانت وربما ما زالت من أهم أسباب عدم تصديق 9 دول من 11 دولة في جنوب شرق آسيا على النظام الأساسي للمحكمة، بعد ما يقرب من 15 عامًا من دخوله حيز التنفيذ، ومع أن هناك مساعي لجهات فاعلة حكومية وغير حكومية والكثير من الضغط لزيادة الوعي بنظام روما الأساسي وتعزيز المصادقة عليه في المنطقة، إلا أن الانطباعات الراسخة تمنع ذلك حتى الآن.
ولا تقف الأزمة على كمبوديا وحدها، بل تصل إلى أفغانستان أيضًا، فالمحكمة كانت تتفرج أمام قتل آلاف المدنيين الأفغان، منهم نحو أكثر من 26 ألف شخص عام 2009 وحده، ومن المتهم؟ الولايات المتحدة، ولهذا تجاهلت المحكمة الطلبات التي قدمت لها للتحقيق في هذه الجرائم، في وقت كانت تحقيقات الكونغرس تكشف تفاصيل مروعة من خلال الاستجوابات التي أجرتها وكالة المخابرات المركزية والجيش الأمريكي في أفغانستان، وإن كانت لم تسفر عن ملاحقات جادة للمدانين.
ظلت الانتهاكات تحدث في أفغانستان طيلة 35 عامًا، فالصراع وضحاياه تعود جذوره إلى عداء الحرب الباردة، ورغم ذلك لم يكن مطلوبًا من الجنائية الدولية أكثر من التركيز فقط على الجرائم التي ارتكبت منذ إنشائها وتواريخ انضمام الأطراف المعنية إلى المحكمة، لكن مع تزايد التجاهل بات واضحًا لأبناء آسيا أن المحكمة تتدخل فقط عندما تكون الجهات الفاعلة المحلية غير قادرة أو غير راغبة في تقديم المذنب إلى العدالة.
رغم كل هذه المعوقات، فإن قتراح نقل المحكمة إلى آسيا ربما يكون فرصة نادرة لترميم سمعة الجنائية الدولية وإعادة إنتاج نفسها والرد على مزاعم التحيز المنطقية ضدها، ما قد يلقي الضوء على دور مستقبلي للمحكمة في ملاحقة القتلة والمجرمين عبر ترسيخ بصمة عالمية تكافح كل صور الإفلات من العقاب عن الجرائم، وخاصة التي حولت مسارات الشعوب واغتالت أحلامها في الحرية والكرامة والديمقراطية.