في العام 1968، وبينما كانت حرب الاستنزاف على أشدها بين مصر و”إسرائيل” عقب احتلال الأخيرة أرض سيناء في نكسة عام 1967، حصل ما يمكن اعتباره نوعًا من التوازن بين الطرفين في مجال الفعل ورد الفعل، خاصة بعد إمدادات السلاح الكبيرة من الاتحاد السوفيتي لمصر، فقررت واشنطن على إثرها التحرك، وقررت منح “إسرائيل” 50 طائرة نوع فانتوم F-4.
كانت لهذه الصفقة أن تغير كل الموازين العسكرية في الشرق الأوسط المائلة نحو “إسرائيل” بالأساس، مع مواصفاتها المهولة وقتها، كانت هذه الطائرة هي الأحدث في الأسطول الأمريكي، ولم تقم بتزويدها لأي دولة في حلف الناتو بعد، وهو ما استدعى الاتحاد السوفيتي لتزويد مصر بطائرات ميغ 23 ردًا على ذلك لاحقًا، لكن الذي يهم هنا، ما كشفته وثائق الحكومة الأمريكية عما دار خلال مفاوضات التسليم، التي تعطي فيها “إسرائيل” درسًا في كيفية التفاوض وفرض الشروط.
ففي المذكرة التي كتبها والت روستو مساعد الرئيس الأمريكي وقتها ليندون جونسون عن الصفقة بتاريخ 31 من أكتوبر 1968، يلخص روستو الوضع لجونسون بالشكل الآتي:
– سوف يأتي الإسرائيليون هذا الصباح (يقصد الجنرال إسحاق رابين الذي كان سفيرًا في الولايات المتحدة) ومعهم قائمة الطلبات.
– البنتاغون مصمم على ربط الصفقة بالسلاح النووي، ما لم يشر الرئيس بتوجيهات أخرى.
كانت وزارة الدفاع الأمريكية تشير إلى قنبلة نووية صغيرة “device” أعطاها الفرنسيون لـ”إسرائيل” عقب حرب 1956، كجزء من التعويضات عن الحرب التي يعتبر الإسرائيليون أن بريطانيا وفرنسا خذلوها فيها، وبالتالي فالبنتاغون يتخوف أن يكون العنصر النووي مع وجود هذه الطائرة عنصرًا عاملًا في تصعيد خطير يدخل معه الاتحاد السوفيتي على الخط، وعليه كان شرط البنتاغون نزع هذه القنبلة من “إسرائيل” مقابل إتمام الصفقة.
تكمل وثائق الخارجية الأمريكية عما جرى بعدها، من خلال ملخص اتصال بين وزير الخارجية دين راسك ووزير الدفاع كلارك كليفورد، يقول فيه لكليفورد:
إنه تحدث مع الرئيس مرتين أو ثلاثة بأن الفانتوم، وأن الرئيس يعارض بشدة “لي ذراع إسرائيل” من خلال ربط الاتفاقية مع هذا “الشيء النووي”!
ليأتي الرد من وزير الدفاع بأن المشاكل التي ستقع في منطقتنا أكثر منهم، لأننا نعلم أن لديهم قذيفة جاهزة للتحميل حصلوا عليها من الفرنسيين، وأن وجود هذا السلاح قد يكون سببًا بإدخال أسلحة ذرية للعالم العربي.
مع انعقاد الاجتماع مع الطرف الإسرائيلي، وبعد طرح مخاوف البنتاغون على رابين، يجيب السفير الإسرائيلي بالقول:
“إسرائيل قدمت مسبقًا وعدًا بعدم استخدام الأسلحة النووية وأنها لن تكون أول من يدخلها في المنطقة”، فيجيبهم الجانب الأمريكي بأن هذا كان وعدًا قديمًا وأن واشنطن تريد تعهدًا جديدًا وهو ما يرفضه رابين!
ينتهي الاجتماع دون جدوى، فيتم عقد اجتماع جديد حضره من الجانب الأمريكي بول وارنكه نائب وزير الدفاع ومساعده بول شوارتز وروبرت موري وكيل إدارة شؤون الشرق الأدنى، وفي هذا اللقاء يطلب الجانب الأمريكي من الإسرائيليين عدم التزمت و”تسهيل مهمتهم أمام البنتاغون لأنه يشعر بخطر كبير مع وجود هذه القنبلة النووية الصغيرة”، وهنا يجيب رابين بالقول:
“إننا لم نأت لرهن استقلال دولة إسرائيل ولا حتى مقابل 50 طائرة فانتوم وما يقوله البنتاغون أمرًا غير مقبول تمامًا بالنسبة لتل أبيب” يقول رابين.
وحين يطلب وارنكه من رابين أن يعود لحكومته – لكسب الوقت – يجيبه رابين أنه هو من عليه أن يعود لحكومته وأن يسألهم بشأن هذا التعنت!
ومع إصرار رابين، يبدأ وارنكة برجائه أن يتفهم موقف الولايات المتحدة من الأمر!
– “نرجو منكم أن تتفهموا أننا لا نورد لكم مجرد 50 طائرة فحسب، نحن نعطيكم سلاحًا سيغير الموازين في الشرق الأوسط، كما أننا سنظهر بمظهر مورد السلاح الرئيسي، وهو ما سيحرجنا أمام أصدقائنا العرب” يقول وارنكه.
– “أنتم من يجب عليه مراعاة إرادتنا المستقلة” يجيبه رابين.
مع تصلب الموقف الإسرائيلي ودخول المخابرات الأمريكية ورئاسة أركان الحرب على الخط، تكشف الوثائق أن الوفد الأمريكي عاد للرئيس جونسون الذي أخبرهم بأن هذا العناد لا داعي له وأن عليهم إعطاء الطائرات فحسب!
يخاطب وفد البنتاغون رابين بأن لديه تعليمات بإعطاء الطائرات دون شروط مسبقة وأن المسألة تمت وانتهت، لكنه يرجو أن يتعهد الإسرائيليون بعدم استخدم الفانتوم بحمل أسلحة نووية، فيجيبه رابين بأنه “لا داعي لتعهد جديد وأنه مستعد لإعادة نفس التعهد القديم”!
ومع استمرار الحوار بهذه الطريقة، ينتهي الأمر بما يستفز أي قارئ لهذه الوثائق. يوقع الطرفان على الشروط كما أرادها الإسرائيليون، ثم:
يطلب الجانب الإسرائيلي من وزارة الخارجية الأمريكية تعديل الاتفاق لأنه يضم عبارات يُفهم منها أن “إسرائيل” أعطت تعهدات خاصة في الجانب النووي!
-“لقد اتصل بي الإسرائيليون تليفونيًا، وغيروا ما سبق أن وافقوا عليه في اليوم السابق، واقترحوا تغيير الصياغة”، يقول مسؤول أمريكي للرئيس في مذكرة منفصلة.
– “اعطوا إسرائيل كل ما تطلب” يجيب الرئيس جونسون!
السوق والخيمة
يعطي الموقف الإسرائيلي درسًا – خاصة للدول العربية – كيف يمكن لدولة صغيرة محاطة بأعدائها تعتمد على دولة كبرى في أمنها أن تقول لا، وأن تصر عليها في أصغر التفاصيل وحتى صياغة الاتفاق. إن مرد ذلك لا يرجع إلى قوة اللوبي اليهودي أو نفوذ “إسرائيل” فحسب، بل يرجع إلى قيادة تعرف قيمتها لدى الطرف المقابل، وتعرف أنها وإن كانت تتعامل مع الدولة التي تحميها فعليًا، لكنها بالمقابل تحقق لها مصالحها الخاصة بما يجعلها ندًا في التفاوض.
لو قارننا هذه السياسة مع ما تفعله الحكومات العربية وكانت تفعله وقتها، لتبين حجم السذاجة والخنوع الذي حمله القادة العرب رغم امتلاكهم أوراقًا كثيرة للقوة قد لا يملكها الطرف الإسرائيلي حتى.
في كتابه “سنوات الغليان” يقول مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، إن الرئيس المصري أنور السادات أخبره بأنه كان ينتظر خطوة من الأمريكان بعدما أمر بطرد الخبراء السوفيت، يعلق كيسنجر بالقول إنهم في الإدارة الأمريكية تفاجأوا بمجانية الخطوة، وتساءلوا لماذا لم يطلب المصريون ثمنًا لها؟
نعم.. كل شيء له ثمن، وإذا كان القادة العرب سيقدمون خيانة، لماذا لا يطلبون ثمنًا لها!
إن قطار التطبيع الذي يمر في المنطقة العربية يمر مجانًا دون أن يكون له ثمن، كما أن كل الدول التي تنوي التطبيع ليس لديها حالة عداء ولا تملك حدودًا حتى مع “إسرائيل”، فحتى الآن اتخذت البحرين والإمارات قرارًا بالتطبيع، لن نتحدث عن البحرين، لكن الحديث عن الإمارات وقريبًا السعودية ربما، لماذا لا يطلب قادة هذه الدول ثمنًا لما يفعلونه؟
جرى الحديث عن صفقة طائرات f-35 للإمارات، وإذا كان هذا ثمن التطبيع فهذه سخرية واستخفاف بالعقول، فقرار إستراتيجي مثل هذا يتطلب ثمنًا إستراتيجيًا أكبر من هذا بكثير، لقد أعطت مصر من قبل تطبيعًا شبه مجاني لم تحصل مقابله على ما يستحق رغم أن وضعها كان أقوى بكثير منه بعد التطبيع.
يتحدث كيسنجر في نفس كتابه عن نظرية السوق والخيمة التي يقارب فيها وضع المنطقة العربية، خيام فيها مشايخ يأمرون فيُطاعون وأولئك شيوخ قبائل أقرب منهم إلى رؤساء دول ومؤسسات تحكم، وما دام الحال كذلك، لا غرابة أن يستمر الوضع بما هو عليه الآن: يعطي العرب كل شيء.. مقابل لا شيء!