تحدث الفيلسوف الأمريكي المعاصر نعوم تشومسكي في وثيقة سرية يعود تاريخها لعام 1979، عثر عليها مصادفة عام 1986، وجاءت تحت عنوان “الأسلحة الصامتة لخوض حرب هادئة”، عن عدد من الإستراتيجيات التي تلجأ إليها أنظمة الحكم الديكتاتورية لإحكام قبضتهم على الشعوب وضمان عدم الخروج عن المسار المرسوم لها.
الوثيقة استعرضت أبرز 10 إستراتيجيات للحكم جاء على رأسها الإلهاء وخلق المشكلة لتوفير الحل والتدرج والتأجيل واستخدام الخطاب العاطفي، وتعد في مضمونها خلاصة آراء ومقترحات بعض دوائر النفوذ العالمي التي تجمع كبار الرأسماليين والساسة والخبراء في عدد من مجالات السياسة والحكم.
المتابع للمشهد المصري خلال الآونة الأخيرة يجد أن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي التزم بشكل أو بآخر بتلك الإستراتيجيات التي لا ينكر عاقل مدى النجاح الذي حققته في كسب دعم وتأييد الشارع وكسر موجات المعارضة والانتقادات في المراحل الأولى لها وذلك عبر الاعتماد على ثنائي “الإلهاء والخطاب العاطفي”.
الساعات القليلة الماضية شهدت تفاعلًا غير مسبوق مع واقعتين فرديتين كان لهما النصيب الأكبر في سحب البساط من تحت أقدام كبريات المشكلات التي تواجه المصريين، فبينما يواجه الشعب أزمات معيشية طاحنة تهدد حياته وربما تلقي به في الشارع بلا مأوى، متزامنة مع تهديد مستقبله المائي في ضوء الإصرار على استكمال احتجاز المياه خلف سد النهضة، كان المصريون مشغولين في واد آخر، حيث سيدة القطار وسيدة المحكمة.
من المحكمة للقطار
استيقظ المصريون قبل أسبوعين على مقطع فيديو لسيدة مصرية تعتدي على ضابط شرطة بالسب والقذف، المقطع الذي أثار الجدل وانتشر بسرعة لافتة للنظر، حيث انقسم الشارع بين متعاطف معها ومهاجم لها، وفي أقل من ساعات انتشر هاشتاغ يحمل اسم “سيدة المحكمة” ليتصدر التريند على منصات السوشيال ميديا.
وفي التفاصيل كشف المقطع اعتداء سيدة تدعى “نهى الإمام” على قائد في حرس مجمع محاكم مصر الجديدة، وعليه جاء مسمى سيدة المحكمة، غير أنها لم تقدم للمحاكمة وهو ما أثار التساؤلات، لكن مع مرور الوقت وفي ظل حالة التشويق المعتادة، نشر بعض النشطاء صورًا لمستندات شخصية خاصة بها ليتبين أنها تعمل مستشارة بوزارة العدل، وهنا دخل الشارع في مرحلة جديدة من الإثارة حيث الصراع بين القضاء والداخلية.
وأمام ضغط السوشيال ميديا حُولت المستشارة إلى الجنايات، وتم إنهاء خدمتها في النيابة الإدارية، لكن سرعان ما تطورت الأمور لتنتقل القاضية من المعتدية إلى الضحية، حيث تقدم محاميها ببلاغ جديد إلى النيابة العامة يتهم الضابط الذي ظهر في الفيديو الشهير، بالتحرش بها جسديًا وهتك عرضها، مطالبًا بفتح تحقيق معه.
سيدة تعتدى على ضابط داخل محكمة وتنزع “الكتافات”#سيدة_المحكمة pic.twitter.com/p99pL9W2ec
— جريدة الدستور (@ElDostorEgypt) August 31, 2020
وبينما لم تنته تلك الواقعة التي احتلت موقع الصدارة في حديث الناس على منصات التواصل الاجتماعي، طفت إلى السطح قصة جديدة لواقعة تجاوز كمسري أحد القطارات على مجند جيش بسبب امتناعه عن دفع التذكرة، ما دفع إحدى السيدات الموجودات بالقطار للدفاع عنه ودفع قيمة التذكرة، وفي دقائق معدودة تصدر تريند “سيدة القطار” تويتر وفيسبوك.
صفحات التواصل ومواقع الأخبار وشاشات الفضائيات عزفت الكثير من الألحان على هذه الأغنية التي لا يزال يرددها الشارع حتى كتابة هذه السطور، حيث أرسل الرئيس المصري هدية خاصة لها، كما كرمها وزير الدفاع في حفل جمع بعض جنرالات الجيش، بجانب تكريم المجند الذي رفض دفع التذكرة ووالدته.
الأمور تجاوزت هذا الحد لتصل إلى منسوب جديد من التهويل وصل إلى مطالبة بعض الفنانيين بتحويل تلك الواقعة إلى عمل فني، كما ناشدت الفنانة عفاف شعيب التي عرضت تجسيد دور المرأة التي تدعى صفية أبو العزم في فيلم سينمائي، بينما تم إطلاق اسمها على أحد شوارع طنطا بالغربية، مسقط رأسها.
الكثير من التساؤلات فرضت نفسها أمام حالة الهذيان التي أصابت المشهد حيال هاتين القصتين، فماذا قدم المجند والسيدة ليكرما كل هذا التكريم؟ وما الإنجاز الذي قاما به ليطالب البعض بتجسيده في عمل سينمائي كامل؟ علمًا بأنه قبل أسبوعين تقريبًا كان المصريون مع قصة بائع الفريسكا، الطالب المتفوق الذي كان يبيع الفريسكا في الإسكندرية لتنهال عليه الهدايا من كل جانب، شقة وسيارة وتأمين ومعاش شهري للوالد، إلخ.
#سيده_القطار ست الكل pic.twitter.com/MDDcihh6oI
— ? Sherif Ragab? (@kinglove800) September 10, 2020
إستراتيجية الإلهاء
في العصر الروماني كان النظام يهرب من أزماته الداخلية والمشكلات التي تواجهها الدولة بإلهاء المواطنين ببعض الأدوات منها عروض المصارعة والنزال بين الأقوياء، وكان يتم تضخيمها بصورة تسحب معها الأضواء، فيتناسى الشعب واقعه المرير، مكرسًا اهتمامه وشغفه بالمصارعة وأنواع الرياضات العنيفة الأخرى.
ويبدو أن الوضع في مصر الآن لا يختلف كثيرًا عما كان عليه وقت الرومان، فبين الحين والآخر تسلط الأضواء على بعض الوقائع والأحداث الفردية التي تحتل في دقائق معدودة اهتمام وسائل الإعلام المختلفة، الرسمية منها والخاصة، لتصبح حديث الشارع لأيام وربما أسابيع طويلة.
تستهدف إستراتيجية الإلهاء غض الطرف عن الواقع المرير الذي يحياه المصريون، حيث الأوضاع المعيشية المتردية نتيجة السياسات المتبعة التي دفعت بالملايين من الشعب إلى زمرة الفقراء
ومن أبرز تلك الأدوات الإلهائية المستخدمة كرة القدم، التي كانت في صدارة إستراتيجيات نظام مبارك الراحل، لكن مع تطورات العصر ظهرت العديد من الإستراتيجيات الأخرى لا سيما بعد تراجع الحضور الكروي بسبب كورونا والظروف الأمنية، على رأسها التصريحات الجدلية للمسؤولين والعلاقات الشخصية للفنانيين والصراعات الخاصة بين رجال الأعمال.
وتتصدر النماذج التي صدرها الإعلام للشارع خلال الأعوام القليلة الماضية ذلك الصراع الممتد بين الفنانة سما المصري ورئيس نادي الزمالك مرتضى منصور، بجانب تصريحات الأخير الجدلية التي تستحوذ على النصيب الأكبر من اهتمام الرأي العام المحلي، كذلك خلق أزمات ذات نعرة وطنية مثل أزمة تصريحات المغنية شيرين عبد الوهاب، وغيرها من التصريحات الأخرى في مقدمتها مؤخرًا الحرب الإعلامية بين رئيس هيئة الترفيه السعودي تركي آل الشيخ ومجلس إدارة النادي الأهلي.
عن الواقع المرير
تستهدف إستراتيجية الإلهاء غض الطرف عن الواقع المرير الذي يحياه المصريون، حيث الأوضاع المعيشية المتردية نتيجة السياسات المتبعة التي دفعت بالملايين من الشعب إلى زمرة الفقراء، هذا بجانب حالة السخط الشديد نتيجة موجات ارتفاع الأسعار المتتالية في السلع والخدمات كافة.
ثم جاء قانون التصالح على مخالفات مواد البناء ليزيد نار الاحتقان اشتعالًا، حيث فوجئ المئات من المواطنين بهدم منازلهم بدعوى عدم وجود تراخيص بناء أو مخالفته للشروط الموضوعة، رغم أن بعض تلك البنايات يعود لعشرات السنين على مرأى ومسمع من الأجهزة التنفيذية التي سمحت بدخول المرافق العامة لتلك العقارات (كهرباء – مياه – غاز) ومع ذلك لم يتحرك أحد لمنع بناء تلك الأبراج والمنازل.
الارتكان إلى الإلهاء كسياسة للهروب من الواقع المؤلم يبدو أنها عقيدة لدى أنظمة الحكم المصرية، حيث لجأ إليها نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967
الغرامات الباهظة المفترض أن يدفعها المواطنون حتى لا تهدم منازلهم أثارت غضب الكثير من محدودي ومتوسطي الدخل، ما أسفر عن صدامات متتالية بين الشعب وقوات الأمن في بعض المناطق مثل الإسكندرية والمنيب والصعيد، وهو ما دفع السلطات للتراجع خطوة للخلف تجنبًا لتصعيد الأجواء.
هذا بخلاف القضية الأكبر والأخطر المتعلقة بمستقبل مصر المائي الذي بات على المحك في ظل إصرار إثيوبيا على ملء خزان سد النهضة، ما سيكون له أثر سلبي على حصة البلاد المائية من نهر النيل، وهو ما أثار قلق الشارع الذي يحمّل نظام السيسي مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع لا سيما بعد توقيع السيسي اتفاقية إعلان المبادئ في مارس 2015.
الارتكان إلى الإلهاء كسياسة للهروب من الواقع المؤلم يبدو أنها عقيدة لدى أنظمة الحكم المصرية، حيث لجأ إليها نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقب هزيمة يونيو/حزيران 1967، فبدلًا من دراسة ومناقشة أسباب الهزيمة التي يتحمل ناصر وقياداته مسؤوليتها الأولى والأخيرة لجأ الإعلام وقتها إلى سياسة “بص للعصفورة” لغض الطرف عن الأزمات الحقيقية.
فبعد الهزيمة انشغل الشارع بعدد من الأحداث التي كانت مثار جدل وقتها، مثل شعرة الرسول ﷺ في المصحف، حيث أشيع أن من يقرأ المصحف ويجد شعرة بين أوراق المصحف فهي شعرة من رأس رسول الله ﷺ، وإشارة إلى رضاء الله ورسوله، هذا بجانب الترويج لظهور السيدة العذراء في كنيسة الزيتون وانشغل الرأي العام المصري شهورًا طويلة بقصة ظهور العذراء.
وكان نتيجة لهذا الإلهاء أن تناسى المصريون هزيمتهم النكراء وبدلًا من المطالبة بمحاسبة المتورطين فيها وتقديمهم للمحاكمة، خرجوا في تظاهرات حاشدة وطالبوا عبد الناصر (المسؤول الأول عن النكسة) بالتراجع عن قرار رحيله، ودفعه لإكمال المسيرة وقيادة الدولة، وهي التحركات التي أبقت على الجنرالات فوق كراسي الحكم حتى اليوم.
وعليه يأتي الترويج الممنهج لقصص بائع الفريسكا مرورًا بسيدة المحكمة وصولًا إلى سيدة القطار ضمن أدوات الهيمنة والسيطرة للحكام الفاشيين، والثابتة منذ آلاف السنين من ناحية الهدف والمضمون، حتى إن تغيرت من حيث الشكل أو الملامح العامة جراء التطورات العصرية التي تشهدها المجتمعات.