أفرز الدور الإيراني في العراق العديد من المواقف المتضاربة على صعيد العلاقات العراقية الإيرانية، وبالنظر للطبيعة الاحتوائية التي تؤطر الرؤية الإيرانية حيال العراق، وبدورها لم تستثن هذه الرؤية العلاقة مع الحوزة الشيعية في النجف، التي ربطتها علاقات غير مستقرة مع النظام السياسي في إيران، وذلك لأسباب تاريخية وفقهية بحتة، وإن كانت قد برزت إلى السطح بعد عام 2003، وذلك بفعل الدخول الإيراني المباشر للساحة العراقية، بل وسعيها لتجاوز أسوار الحوزة النجفية، عبر العديد من السلوكيات والأدوات، وهو ما جعل العلاقة بين النجف وقم معقدة جدًا اليوم.
البدايات المعقدة
لم تستطع الجمهورية الإسلامية في إيران منذ تأسيسها وحتى اليوم، أن تقيم علاقة مستقرة وطيبة مع الحوزة العلمية الشيعية في النجف، فهناك قلق إيراني يظهر بين حين وآخر على السطح، بسبب امتناع حوزة النجف عن تغيير رأيها التقليدي في موضوع ولاية الفقيه، الذي يعتبر رأيًا جديدًا في الفقه الشيعي طرحه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني، لتهيئ قاعدة لحكمه المطلق على البلاد، مما جعل النظام الإيراني في حالة توجس من الحوزة النجفية بشكل مستمر.
هذا فضلًا عن خلافات أخرى في أساليب إدارة الحكم بين المراجع والنظام السياسي، ما أدت لسعي النظام الإيراني إلى فرض إقامة جبرية على عدد من المراجع، ومنعهم من التصريح بآرائهم وأفكارهم والاستمرار بأعمالهم التدريسية والدينية، وكان موقف النظام الإيراني منذ بدء تأسيسه، موقفًا نافيًا لمركزية النجف، معتبرًا إياها الممثل للإسلام المتخلف غير الثوري، وترجع أسباب ذلك إلى خلفية الصراع بين المنهج الثوري للخميني والمنهج النجفي القائل بفصل الدين عن السياسة.
بعد التدخل الإيراني القوي في الشأن العراقي عام 2003، ظهر الخلاف جليًا بين النجف وطهران مرة أخرى، ولا نستطيع القول و”قُم”، لأن مدينة قم لم تبق ممثلة للمرجعية مثلما كان عليه الحال في زمن الشاه محمد رضا بهلوي، بل أصبحت المرجعية الرسمية سلطة قائمة في إيران ومركزها العاصمة طهران، مع وجود مراجع دين لا يقرّون بمرجعية المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وفي هذه الحالة يفكرون تفكير مرجعية النجف نفسها بفصل الدين عن الدولة، أي الابتعاد عن ممارسة السياسة المباشرة، وكان يمثل هذا الجانب في إيران السيد محمد كاظم شريعتمداري الذي ظل حبيس داره بعد مصادرة مدرسته في قم.
إن الصراع على قيادة العالم الشيعي ليس وليد اللحظة، بل تعود بوادره إلى اللحظة التي وصل بها الخميني للسلطة عام 1979
ملفات خلافية متعددة
اليوم هناك العديد من الملفات السياسية والأمنية التي ينظر إليها كل من السيد السيستاني وخامنئي برؤية مختلفة عن الآخر، تتعلق بطبيعة النظام السياسي في العراق أو المتغيرات السياسية في العالم الإسلامي. كما تبرز عدة مشاكل واختلافات بين إيران ومرجعية النجف، عبر العديد من المجالات التي تحاول إيران استغلالها، للتأثير على المرجعية الدينية الشيعية في النجف، كما هو الحال بالمواقف المتباينة من الأحزاب أو التيارات، أو حتى القضايا والمسائل التي تخص الشأن الداخلي العراقي، التي أظهرت الكثير منها فروقًا كبيرة بين الطرفين، إذ إن الخلافات بين السيد السيستاني وخامنئي ليست جديدة، لكنها اليوم تبدو أكثر وضوحًا بعدما كانت سرية وبعيدة عن الأنظار، وتجري ضمن حوارات بشأن قضايا دينية وعقائدية وسياسية بعيدة عن الإعلام بين مؤيدي السيستاني ومؤيدي خامنئي، وهذا الخلاف مؤهل للتصاعد مستقبلًا، ومن الممكن أن ينعكس سلبًا على الجغرافيا الشيعية.
ومع اكتساب إيران للنفوذ في جميع أنحاء الشرق الأوسط، سعت طهران إلى المطالبة بالقيادة الأخلاقية لأكثر من 200 مليون شيعي حول العالم، ومع وصول السيد السيستاني إلى التسعين من العمر، يرى خامنئي وحلفاؤه أن في ذلك فرصة للسيطرة على النجف العاصمة الروحية للعالم الشيعي، فهذا الصدام بين شخصيتين مهيمنتين على السلطة الشيعية، أنتج عواقب وخيمة سواء بالنسبة لمستقبل سيطرة رجال الدين داخل إيران أم في إمكانية استمرار قدرتهم على ممارسة النفوذ على الشيعة في جميع أنحاء العالم، لكن تأثيره الفوري سيكون محسوسًا في قدرة العراق على مواصلة رسم طريقه السياسي في ظل الثيوقراطية الإسلامية المجاورة.
برز الخلاف أيضًا بين الحوزات العلمية والنخب الدينية الشيعية إزاء الانتفاضتين اللتين نشبتا في العراق ولبنان في أكتوبر 2019
صراع على القيادة
إن الصراع على قيادة العالم الشيعي ليس وليد اللحظة، بل تعود بوادره إلى اللحظة التي وصل بها الخميني للسلطة عام 1979، وربما أبعد من هذا التاريخ أيضًا، إلا أن ملامح وخطوط الصراع أصبحت أكثر وضوحًا بعد هذا التاريخ، فبعد أن أصبح الخميني قائد الثورة الإيرانية والحاكم المطلق لإيران، لم يرسل المرجع الشيعي الأعلى في العراق أبو القاسم الخوئي رسالة تهنئة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني بمناسبة قيام الجمهورية الإسلامية، ولم يشارك في الحرب العراقية الإيرانية، إذ ظل الخوئي المكرس للإسلام غير السياسي عالِمًا دينيًا، ونقل هذا التقليد إلى السيد السيستاني، وبمعنى آخر اختلفت قم والنجف في نظرتهما للإسلام، إذ كانت النجف غير سياسية، في حين تغير الأمر مع قم بعد عام 1979، إذ لم يكتف الخميني بقيادة الجمهورية الإسلامية، بل أصبح قائدًا للقوات المسلحة الإيرانية، وهو أمر لم يسمح به من قبل لرجال الدين الشيعة، إلا أنه مع مجيء المرشد الأعلى للثورة الإيرانية الخميني ظهر التشيع السياسي بصورته الكاملة كنسخة من جماعة الإخوان المسلمين السنية.
وليس من قبيل المصادفة أن يترجم خامنئي كتابين لقيادات في جماعة الإخوان المسلمين إلى الفارسية عندما كان رجل دين شاب، ومن المثير للاهتمام أيضًا أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر رحبت بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران، في حين لم يفعل ذلك العديد من رجال الدين الشيعة في العالم الإسلامي.
وفي الوقت الحاضر برز الخلاف أيضًا بين الحوزات العلمية والنخب الدينية الشيعية إزاء الانتفاضتين اللتين نشبتا في العراق ولبنان في أكتوبر 2019، والحقيقة أن مواقف النخب الدينية الشيعية تجاه تلك التظاهرات لها دلالات عميقة متعلقة بالخلاف التاريخي بين مرجعيتي النجف وقم، والإصلاحيين والتقليديين، ومن اللافت للنظر أن الانتفاضات المتصاعدة في العواصم المركزية للتشيع ضد الهيمنة الإيرانية وأذرعها المحلية، تشكل أول تحديًا لولاية الفقيه الإيرانية من داخل الحواضن الشيعية، وهو ما قد يشكل ضربة قوية لإستراتيجية الهيمنة الإيرانية في إطار العالم الشيعي.