في أجواء يراد لها أن تحاكي ما حدث في سبتمبر/أيلول 1993 من حيث الأضواء المبهرة والتغطية الإعلامية المركزة والتسويق السياسي والدعائي المكثف، يسعى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إضفاء هالة على حفل توقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات والبحرين من جانب و”إسرائيل” من جانب آخر، المقرر له اليوم الـ15 من سبتمبر/أيلول 2020.
ففي نفس المكان تقريبًا قبل 27 عامًا تم توقيع اتفاق أوسلو الشهير، لكن شتان بين هذا وذاك، فالفارق في وزن المناسبتين بجانب غياب الرمز الفلسطيني والأهداف التي يتوقع تحقيقها من وراء تلك الخطوة يحولان دون محاكاة ما حدث في السابق لما يسعى ترامب لتكراره اليوم حتى إن تقارب حجم الحضور.
بعد ربع قرن تقريبًا على آخر اتفاق سلام أبرمته دولة عربية (الأردن 1994) مع الكيان الصهيوني، ها هو البيت الأبيض على موعد مع اتفاق جديد، لكن هذه المرة ثنائي الأطراف، دولتان عربيتان مرة واحدة، فيما حاول البعض استدعاء طقوس كامب ديفيد ووادي عربة لتمرير ما يحدث شعبيًا، غير أن الوضع هناك مختلف، فكلاهما كانا اتفاقًا لإنهاء عقود من الحرب مع دولة الاحتلال، أما اتفاق أبراهام الحاليّ فلم تكن هناك حرب ليكون بحاجة إلى سلام، لا سيما أن العلاقات بينهم في أوج قوتها منذ سنوات طويلة رغم عدم وجود اتفاق بينهم.
هرولة ترامب لإبرام هذا الاتفاق وجهوده الدبلوماسية الحثيثة لضم البحرين له قبيل التوقيع الرسمي مع الإمارات والحديث عن احتمالية انخراط دول عربية أخرى في هذا المسار قريبًا، بجانب الطقوس الدعائية والتسويقية لهذا الحدث، حول مراسم التوقيع إلى حفل دعائي للرئيس قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة المزمع إجراؤها نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
ترامب يعي جيدًا أن لا خروج من مأزقه الداخلي الذي يواجهه منذ دخوله البيت الأبيض في يناير 2017 إلا بتحقيق انتصار خارجي يحسب له، ويضمن له ثقلًا تصويتيًا يعوضه عن تراجع شعبيته، ليجد ضالته في إخضاع بعض الأنظمة العربية لحظيرة التطبيع، مستغلًا حالة الضعف التي باتت عليها، ليقدم للصهيونية في أقل من عامين ما لم يقدمه أسلافه منذ زرع الكيان المغتصب في الجسد العربي قبل قرابة 70 عامًا.
ورغم تقليل بعض الدوائر السياسية من شأن دور الرئيس الأمريكي في إتمام هذه الصفقة التي تحسر هذا الدور في “تسخين” الطبخة الموجود بالفعل تمهيدًا لطهيها لحسابات انتخابية وفقط، فإن فصيل آخر كبير يثمن هذا الدور الذي قام به وصهره كوشنر لإحداث حالة من الخلخلة العربية لم تشهدها الأمة منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي.
اللافت للنظر وعلى عكس المتعارف عليه تاريخيًا، فإن الإمارات والبحرين هما الأكثر هرولة لإحداث هذا التقارب مقارنة بالإسرائيليين، رغم المكاسب المتوقع تحقيقها بالنسبة لتل أبيب جراء هذا التطبيع المجاني، بل وصل الأمر إلى إبداء المنامة رغبتها عبر اتصال رسمي بأن تنضم لهذا الاتفاق بحسب ما تناقلته وسائل إعلام عبرية.
واستباقًا لتوقيع الاتفاق فقد أجرى وزيرا دفاع البحرين و”إسرائيل” أمس الإثنين أول اتصال هاتفي معلن منذ إعلان التطبيع الرسمي، حيث تناقشا في أهمية الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وتحدثا عن توقعاتهما المشتركة بإقامة شراكة وثيقة بين وزارتي الدفاع في البلدين بحسب وكالة أنباء البحرين التي نقلت عن مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي دعوته لنظيره البحريني لزيارة رسمية إلى تل أبيب في القريب العاجل.
وفي الجهة المقابلة، سارت مديرة الاتصالات الإستراتيجية في وزارة الخارجية والتعاون الدولي في الإمارات، هند العتيبة، على خطى شقيقها سفير البلاد في واشنطن، يوسف العتيبة، حيث نشرت مقالًا في صحيفة “هآرتس” العبرية، ثمنت فيه خطوة التطبيع والتقارب بين البلدين، لافتة إلى أن بلادها تريد سلامًا حميميًا مع تل أبيب، داعية الطلاب الإسرائيليين للالتحاق بجامعة ابن زايد، وفي المقابل سفر طلاب إماراتيين للدراسة في الجامعات الإسرائيلية.
حفل دعائي
حرص ترامب ونتنياهو على إخراج مشهد حفل التوقيع في أبهى صورة، لما يحمله من دلالات ورسائل للداخل والخارج، تعكس حجم المكاسب السياسية والاقتصادية المتوقع الحصول عليها أمريكيًا وإسرائيليًا جراء تلك الخطوة التي وصفت بـ”التاريخية” كما أشارت وسائل الإعلام الإماراتية والبحرينية.
وكشفت بعض المصادر ملامح طقوس الحفل الذي سيبدأ بالفعل بخطاب دعائي للرئيس ترامب يستعرض فيه جهوده لإتمام هذه الصفقة، ثم تليه كلمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يسعى من خلالها لتقديم نفسه من جديد للشارع الإسرائيلي، محاولًا مغازلته لتخفيف حدة الانتقادات التي يتعرض لها بسبب تورطه في قضايا فساد الآونة الأخيرة.
وبعد إتمام منظمي الحفل والمستفيدين الأول منه (التجار) خطاباتهم تأتي كلمات “الزبائن” التي ستبدأ بوزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، يليه البحريني عبد اللطيف الزياني، وذلك بحضور عدد من السفراء العرب بالعاصمة الأمريكية كما تم الإشارة إليه، فيما يشارك وزير الخارجية المجري بيتر زيجارتو، وهو الوزير الوحيد من بين وزراء خارجية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي الذي سيحضر هذه الاحتفالية.
وكان نتنياهو قد صرح فور وصوله واشنطن أمس للمشاركة في الحفل بأن الاتفاق مع الإمارات سيكون بمثابة اتفاق سلام، ومع البحرين سيكون إعلان سلام، واصفًا تلك اللحظات التي يشهدها التوقيع بـ”التاريخية والعظيمة”، فيما ألمح قبيل مغادرته تل أبيب أن هذا الاتفاق سيدر على الاقتصاد الإسرائيلي مليارات الدولارات، ملمحًا إلى قرب انضمام دول عربية أخرى لقطار التطبيع.
https://t.co/iVY45x4l4A pic.twitter.com/hx2nwiVoKy
— Donald J. Trump (@realDonaldTrump) September 15, 2020
لماذا غاب ابن زايد؟
الاكتفاء بإرسال وزير الخارجية على رأس وفد الإمارات في مراسم التوقيع وغياب ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد رغم أنه مهندس التطبيع الأول وعراب هذا المخطط في الآونة الأخيرة، أثار الكثير من التساؤلات عن عدم مشاركته، حيث كان متوقعًا أن يكون على رأس الحضور.
العديد من الشكوك فرضت نفسها تفسيرًا لغياب الأمير المقرب من ترامب ونتنياهو، وأبرز حلفائهما في المنطقة، حيث انقسمت الآراء إلى 3 سيناريوهات: الأول يبرر ذلك بتخوف ابن زايد من ملاحقة القضاء الأمريكي له في قضايا تعذيب، خاصة أن العديد من القضايا رفعت ضده في محاكم دولية وأمريكية بسبب تورطه في بعض الجرائم ضد الإنسانية.
هذا الرأي ذهب إليه مساعد وزير العدل الأمريكي الأسبق بروس فاين الذي يعتقد أن “محمد بن زايد سيكون عرضة لمواجهة شكوى قضائية – طبقًا لقانون حماية ضحايا التعذيب – من مواطنين إماراتيين باعتباره متواطئًا في التعذيب أو القتل”، مضيفًا “إنه ليس رئيسًا للدولة ولا حصانة لديه من الدعوى في الولايات المتحدة بموجب قانون تي في بي إيه (TVPA) لحماية ضحايا التعذيب”.
أما السيناريو الثاني فيتعلق بملف الحصار المفروض على قطر، الذي ترغب إدارة ترامب في إنهائه بأقرب وقت، وهو ما ألمح إليه مدير مؤسسة دراسات دول الخليج جورجيو كافيرو الذي يعتبر في تصريحات لـ”الجزيرة” أن ابن زايد “لا يريد وضعًا يطلب منه فيه ترامب شخصيًا إنهاء الحصار على قطر، وفي هذه الحالة سيرفض ابن زايد طلب الرئيس ترامب في البيت الأبيض، وهو أمر محفوف بالمخاطر من وجهة نظر المصالح الإماراتية، أو سيجبر على الامتثال وتخفيف الضغط الكبير على قطر، وهو ما لا يريد فعله”.
ويذهب السيناريو الثالث إلى رغبة ولي عهد أبو ظبي في مسك العصا من المنتصف فيما يتعلق بمرشحي الرئاسة الأمريكية خلال الانتخابات المزمع إجراؤها خلال 50 يومًا فقط، فمشاركته بجانب ترامب ربما تفسر أنها دعم له، وفي حال خسارته فإن الأمور ستكون ليست على ما يرام بالنسبة للعلاقات بين ابن زايد ومنافس ترامب، الديمقراطي جو بايدن.
غموض الاتفاق
من المسائل اللافتة للنظر التي أثارت تحفظات العديد من الساسة حتى داخل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، حالة الغموض والسرية المحيطة ببنود الاتفاق المزمع توقيعه، حيث أضفى نتنياهو السرية الكاملة على تفاصيل الاتفاقين مع الإمارات والبحرين، وهو ما أدى إلى تعرضه لانتقادات حادة داخل حكومته.
انفراد نتنياهو بتفاصيل الاتفاقين والإصرار على إكمال طريق المفاوضات وحده دون إشراك الآخرين، حتى إنه لم يعرضهما على الكنيست للتفاوض، في محاولة لنسب هذا الإنجاز لنفسه، كان مثار جدل وتساؤل لدى قطاع كبير داخل البرلمان، لا سيما بعدما أثير بشأن التنازلات التي سيقدمها الجانب الإسرائيلي للإمارات كإبرام صفقة طائرات “إف 35” بجانب وقف ضم أراضي الضفة التي كان من المتوقع أن تقدم عليها السلطات الإسرائيلية.
ورغم النفي الرسمي لمثل تلك التنازلات الوهمية، فإن السرية المحاطة بالاتفاقين عززت الشكوك الداخلية، خاصة بعد عدم إشراك نتنياهو لشركائه في الحكومة على رأسهم وزيري الأمن بني غانتس والخارجية غابي أشكنازي، واستبعادهما من الوفد الإسرائيلي الرسمي الذي اتجه إلى واشنطن.
نتيجة لذلك، قدم عضو الكنيست موشيه أربيل، استجوابًا رسميًا لرئيس الحكومة بشأن الاتفاق المزمع توقيعه، وقد تضمن الاستجواب سؤالًا لنتنياهو بشأن ما أثير عن موافقته على تجميد البناء في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة مقابل اتفاقي التطبيع، وهل وافق على إقامة دولة فلسطينية؟ وذلك حسبما نقلت الإذاعة الإسرائيلية العامة على موقعها.
الفلسطينيون أكثر عنادًا
منطقيًا فإن تفتيت وحدة الإجماع العربي القديم بشأن محورية القضية الفلسطينية والارتكاز على عدد من الثوابت أهمها عودة كل الحقوق للشعب الفلسطيني مقابل السلام مع الكيان الصهيوني، كان له أثر كبير في إضعافها وإضفاء جو عام من الإحباط على الشارع العربي، تعزز هذا الشعور مع الطعنات المتتالية التي تلقتها القضية على أيدي المطبعين الجدد.
وخلال الأعوام الثلاث الماضية على وجه التحديد مارس ترامب وحليفه نتنياهو كل أنواع الضغط على الفلسطينيين، وتلقت القضية ضربات موجعة للغاية، كقطع المساعدات المقدمة للشعب والاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وأخيرًا محاولة تمرير صفقة القرن بمساعدة وكلاء التطبيع العرب، حلفاء ترامب في المنطقة، هذا بجانب مساعي خنق المقاومة وتضييق الخناق عليها من أجل تركيعها لقبول الوضع الراهن كما تم كشفه مؤخرًا.
لكن كل تلك الضغوط لم تفت في عضد الفلسطينيين، بل جعلتهم أكثر عنادًا كما أشارت شبكة ABC الأمريكية في تقرير لها كشفت فيه أنه كلما زاد الضغط على هذا الشعب العربي لإخضاعه زادت قوته وعناده، فبينما كانت الضغوط تتزايد قطع الرئيس الفلسطيني محمود عباس العلاقات مع “إسرائيل” وأمريكا في مايو/أيار 2020.
التقرير حذر من تداعيات الهرولة نحو تضييق الخناق على القضية الفلسطينية عبر توسعة رقعة التطبيع وتعزيز مساعي تصفية القضية العربية الأم، لافتًا إلى أنه في حال تحقيق ترامب الهدف من وراء تحركاته تلك وإعادة انتخابه لولاية ثانية، فإن الأمر سيزداد تعقيدًا على الفلسطينيين، ما قد يدفعهم في نهاية الطريق، مرغمين، إلى التخلّي عن فكرة حل الدولتين تمامًا والمطالبة بحقوقٍ مساوية داخل الدولة وهو ما يمكن أن يقود الوضع إلى مسار آخر تمامًا.
الشبكة الأمريكية نقلت عن زميل السياسة في مؤسسة “European Council on Foreign Relations” البحثية، هيو لوفات، قوله: “الافتراض أن الفلسطينيين لن يكون أمامهم خيارٌ آخر إلا القبول، لكن في الواقع، يمتلك الفلسطينيون خيارًا آخر، يتمحور في الواقع حول الدعوة إلى الحقوق المتساوية داخل دولةٍ واحدة، وهذه هي نقطة الضعف والعيب الأساسية في رؤية ترامب، إذ إنه أخطأ في فهم هذه الديناميات بعيدة المدى”.
وفي المجمل فإن الطعنات التي تتلقاها القضية الفلسطينية على أيدي المهرولين للتقارب مع دولة الاحتلال حفاظًا على كراسيهم لن تكون أكثر ألمًا من اللعنات التي سيذكرها التاريخ بحق تلك الأيادي الملطخة بالعار، في ظل حالة الرفض الشعبي العربي لمثل تلك التحركات التي ومع كل الضغوط الممارسة عليه ما زال يعتبر الكيان الصهيوني عدوه الأول رغم محاولات خلق أعداء جدد وتبقى فلسطين قضيته الأولى والأخيرة التي تعكس ترمومتر الشرف والكرامة العربية.