تسعى روسيا جاهدة إلى العودة للقارة الإفريقية ومنافسة القوى الإقليمية والدولية المسيطرة على الأوضاع هناك، حتى تكون لها كلمتها في تلك الربوع وتتمتع ببعض خيراتها الكثيرة. جهود اعتمدت فيها السلطات الروسية العديد من الأساليب، ففضلًا عن تجارة الأسلحة العسكرية والمساعدات والتعاون الاقتصادي نجد سلاح المرتزقة الذي أظهر فاعليته في العديد من الدول.
في هذا التقرير لـ”نون بوست”، سنسلط الضوء على اعتماد الروس على المرتزقة – خاصة الفاغنر – قصد التغلغل في القارة الإفريقية والاستفادة من خيراتها الطبيعية والبشرية، وأبرز الدول التي اعتمدت فيها هذا الأسلوب.
عودة بعد غياب طويل
خلال ستينيات القرن الماضي – أي مع بداية استقلال الأفارقة – كان الاتحاد السوفيتي لاعبًا رئيسيًا في القارة السمراء، حيث استغل كره الأفارقة للغرب ووفر مظلة أيديولوجية وسندًا عسكريًا ودعمًا كبيرًا للحركات الإفريقية المناهضة للاستعمار وللإمبريالية العالمية حينها.
في ذلك الوقت، تمكن الاتحاد السوفيتي من الانتشار في دول القارة، حيث كان حضوره طاغيًا ومتنوعًا هناك لسنوات عدة، ما جعل العديد من الدول الإفريقية تصطف إلى جانبه إبان الحرب الباردة.
هذا الوضع تغير مع بداية سقوط الاتحاد، حيث سيطرت العديد من القوى الإقليمية والدولية على القارة الإفريقية – على غرار الصين وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة – وغاب الروس عن القارة ولم يعد لهم وجود أو ذكر.
تنشط فاغنر في عدد كبير من مناطق النزاع في إفريقيا، خاصة في ظل عدم امتلاك روسيا لأي قاعدة عسكرية لها في القارة السمراء
في السنوات الأخيرة، أفل نجم بعض القوى خاصة الأوروبية منها، في المقابل استفاق الدب الروسي وبدأ في التوسع من جديد لإعادة مجده القديم، وكانت إفريقيا نصب عينيه، فموسكو تسعى إلى العودة مجددًا للقارة الإفريقية وحجز موقع مؤثر وفاعل لها في المشهد السياسي الإفريقي.
هذا الاهتمام الروسي بإفريقيا، بدا واضحًا وجليًا في السنوات الأخيرة، وقد تعددت مظاهره بين السياسي والاقتصادي والأمني، وتأمل موسكو في منافسة القوى العالمية الكبرى في إفريقيا، ونخص بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، خاصة أن مكانة هذه الدول في القارة السمراء شهدت تراجعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة.
مرتزقة فاغنر
تستعمل روسيا آليات عديدة للعودة إلى إفريقيا منها المرتزقة، خاصة المنتمين إلى شركة فاغنر، وتضم هذه الشركة في صفوفها آلاف الرجال الروس، يصل راتب الضابط الواحد منهم إلى 5300 دولار شهريًا، وتعمل فاغنر لصالح شركة أمنية خاصة، منتشرة في العديد من الدول من بينها سوريا والسودان وإفريقيا الوسطى.
وتعود ملكية الشركة الأمنية الروسية إلى رجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويلقب بريغوجين بـ”طباخ بوتين” لأنه يدير شركة “كونكورد” التي كانت تنظم حفلات الاستقبال بالكرملين، ثم توسعت أعماله من سلسلة مطاعم فاخرة إلى خدمة القوات المسلحة الروسية.
أما مؤسسها فهو الضابط السابق في “القوات الخاصة للمديرية العامة التابعة للأركان العامة في الجيش الروسي” ديمتري أوتكين، وشارك هذا الأخير – اعتبارًا من يونيو/حزيران 2014 – في معارك شرقي أوكرانيا مع الانفصاليين الموالين لموسكو، وشكل النزاع في هذا البلد الولادة الفعلية لـ”مجموعة فاغنر”.
ينتشر مرتزقة فاغنر في العديد من الدول الإفريقية
تستخدم هذه المجموعة المسلحة قاعدة تدريبية في مولكينو بمنطقة كراسنودار جنوبي روسيا، وهي ليست بعيدة عن شرق أوكرانيا، وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد أدرجت في يونيو/حزيران 2017 المجموعة على قائمة الأفراد والكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات بسبب مشاركتها في الصراع الأوكراني.
رغم عدم وجود هذه المنظمة بشكل قانوني كون الشركات الأمنية الخاصة محظورة في روسيا، فقد شكلت مكونًا أساسيًا للعمليات الروسية، وتلجأ الحكومة الروسية عادة إلى الاستعانة بهذه الميليشيا المسلحة للقيام بالعديد من العمليات العسكرية في مناطق مختلفة من العالم، للهروب من المحاسبة وحتى لا تتم ملاحقتها رسميًا، فلا وجود رسمي لهذه المجموعة.
كما تستعين بها الحكومة لتدعيم مكانتها في تلك الدول، فهي تتحرك في أماكن ترى روسيا أن مصالحها الإستراتيجية عُرضة للتهديد فيها أو في أماكن يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوسعة نطاق التأثير الروسي فيها.
أماكن انتشارها
تنشط فاغنر في عدد كبير من مناطق النزاع في إفريقيا، خاصة في ظل عدم امتلاك روسيا لأي قاعدة عسكرية لها في القارة السمراء، حيث تعد إفريقيا الوسطى أولى الدول الإفريقية التي استقبلت قوات فاغنر لمواجهة التنظيمات المسلحة في البلاد.
أوكلت لهذه المجموعة مهمة تدريب الحرس الرئاسي، فضلًا عن حماية رئيس البلد الغارق في الفوضى فوستان أركانج تواديرا، إلى جانب حماية مناجم الذهب والماس التي تحصل على نسبة مئوية من أرباحها كمقابل، أما مهمتها السرية هناك فهي التخلص من السياسيين الموالين لفرنسا في إفريقيا الوسطى.
فضلًا عن هذا البلد، تنشط فاغنر أيضًا في ليبيا، حيث أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرتزقة إلى ليبيا لدعم المتمرد خليفة حفتر في حربه ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، وتتركز عناصر هذه المجموعة في المناطق النفطية.
تقوم مجموعة “فاغنر” بالعديد من المهام العسكرية والسياسية والإعلامية
ذكرت معلومات استخباراتية أن “فاغنر” تدعم قوات الانقلابي حفتر بالتدريبات وتساعده في توطيد نفوذه العسكري عن طريق إمداده بقطع المدفعية والدبابات والطائرات دون طيار والذخيرة، وغيرها من أشكال الدعم اللوجستي.
ينشط هؤلاء أيضًا في موزمبيق، حيث تدخلت مجموعة فاغنر إلى جانب الرئيس فيليپي نيوسي ضد الحركات المتمردة هناك، وينتشر مرتزقة فاغنر في ناكالا ونامبولا، وهما مدينتان تقعان على مقربة مباشرة من كابو ديلجادو، ويمتلكون أسلحة متطورة منها طائرات مُسيرة.
إلى جانب هذه الدول، تنتشر مجموعة فاغنر الروسية في العديد من المناطق الأخرى بصفة سرية، حتى لا يتم تسليط الضوء على أنشطتها المشبوهة هناك، فالعديد من الشعوب الإفريقية ترفض أي وجود أجنبي فوق أراضيها لما يسببه ذلك من خسائر كبرى لها.
مهام متعددة
تقوم مجموعة “فاغنر” بالعديد من المهام العسكرية والسياسية والإعلامية أيضًا، فإلى جانب مشاركتها الميدانية في عمليات القتال، توفر المجموعة التدريب للأجهزة الأمنية والوحدات الخاصة المكلفة بحماية كبار الشخصيات.
تُوكل إلى فاغنر أنشطة سرية عديدة
كما تحرس أيضًا المنشآت ومناجم الذهب والألماس وآبار النفط والموانئ كما هو الحال في ليبيا وإفريقيا الوسطى، وتشترط لذلك الانتفاع بنسبة مئوية مهمة من أرباح هذه المنشآت التي تحلم الشعوب الإفريقية بالتمتع بخيراتها.
أما سياسيًا فهي تدعم حلفاء موسكو في الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، كما تصفي معارضي هؤلاء، وذلك حتى تضمن روسيا حلفاءً لها في دول القارة الإفريقية التي تتنافس العديد من القوى للاستحواذ عليها.
ليس هذا فحسب، فالمجموعة تنشط أيضًا في المجال الإعلامي ومحاولة توجيه الرأي العام داخل الدول الإفريقية، حيث تفتح قنوات لفائدة حلفائها أو تدير منشآتهم الإعلامية وأيضًا تستغل مواقع التواصل الاجتماعي لدعم الحكومات وانتقاد المعارضين.