مع نهاية عام 2013، والثلث الأخير من العام 2014، شهور وأيام مرت بمعارك طاحنة بين الجيش العراقي ومسلحين معارضين للحكومة العراقية، ولم يكن إطلاق النار والصواريخ والبراميل المتفجرة والقتل بطرق مختلفة، هم سيد الموقف فحسب! بل عم الدمار أرجاء مختلفة من الأراضي العراقية.
الطرقات والجسور في المناطق الساخنة كان لها الجزء الأكبر من الدمار؛ فأدت المعارك الجارية على أراضي محافظة الأنبار خلال الأشهر الأخيرة إلى تخريب العديد منها وإغلاق أخرى لأسباب عسكرية أو تدميرية.
وتعد محافظة الأنبار صاحبة أكبر مساحة جغرافية في العراق والتي تمتد من خلالها العديد من الطرق السريعة التي تربط بغداد بمناطق أخرى من العراق، وأيضًا تربط العراق بدول الجوار: سوريا، والأردن، وتركيا، والسعودية.
ويوضح أبو أحمد، الموظف الإداري في ديوان محافظة الأنبار، بأن عدد الجسور التي تعرضت للتخريب في الأنبار قرابة 28 جسرًا بأنواعها المختلفة، سواء عائمة على المياه، أو ما يربط بين أطراف الأودية الممتدة عبر صحراء الأنبار وما يسمى بـ “القنطرة” أو غيرها من أنواع الجسور والطرق المنتشرة في عموم المحافظة، مؤكدًا أنه في حال إعادة إعمارها ستستغرق ما يقارب سنة كاملة وبكلفة باهظة تصل إلى أكثر من 12 مليار دولار.
مهندس يعمل في دائرة الطرق والجسور، رفض ذكر اسمه، أوضح لـ “نون بوست” أنهم توقفوا عن أعمال تصليح الجسور بعد أن تلقوا تهديدات من مسلحين يتبعون إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، مؤكدًا أن العمل متوقف في صيانة الطرق والجسور منذ ما يقارب عام كامل، إذ توقف العمل في صيانة الطرقات والجسور في الأنبار بتاريخ 23/9/2013، وأشار المهندس، إلى أنه في حال عودة العمل إلى صيانة الطرق والجسور فإنه سيحتاج لمبالغ طائلة تصل إلى ما يقارب 15 مليار دولار في عموم الأنبار فقط، وبفترة إنجاز تصل إلى 8 أشهر كموعد للعمل الدؤوب وسنتين للعمل الطبيعي وهذا كحد أدني.
ويؤكد حذيفة باسم، أحد المهندسين العاملين بإحدى شركات المقاولات لتعبيد الطرق، المتعاقدة مع دائرة الطرق والجسور في الأنبار، بتلقيهم تهديدات عبر رسائل نصية أو مكالمات هاتفية مصدرها مسلحين معارضين للحكومة العراقية يطالبون فيها عدم تنفيذ أي مشروع لتصليح الطرقات أو الجسور، موضحًا لـ “نون بوست” أن أسباب المسلحين في هذا التهديد يكون عادة بأن تصليح الطرق تهيأ للحكومة العراقية فرصًا لكسب المعركة، مشيرًا إلى أنهم وفي إحدى أعمال الصيانة لأحد جسور الأنبار تلقوا تهديدًا عن طريق اتصال هاتفي من أحد مسئولي التنظيم الإسلامي “داعش” متهمهم بأنهم “بعملهم على صيانة هذا الجسر يكشفون ظهور المجاهدين للأعداء” وطالبهم بإيقاف العمل مقابل سلامتهم، مهددًا بتصفيتهم في حال لو أنهم أكملوا أعمالهم في الصيانة.
سنان جمال، ناشط إعلامي في الحراك الشعبي في الأنبار، أوضح لـ “نون بوست” بالصور كيف أن الطيران العراقي لم يميز بين مناطق الحرب والطرق والجسور في معركته مع المعارضين، وتوضح الصور قصف الطيران العراقي لجسر “غيده” في محافظة الأنبار الذي قصفه الجيش العراقي بالبراميل المتفجرة.
ويوضح سنان أن البراميل المتفجرة استخدمتها قوات الجيش العراقي، للتخريب على أوسع نطاق بتدمير الشوارع والجسور.
سعد، مسئول إعلامي في محافظة الأنبار، رفض ذكر اسمه كاملاً، يوضح أن الاشتباكات والمعارك الجارية بين الجيش والمسلحين المعارضين للحكومة أربكت حركة نقل البضائع، وأدت إلى توقف شحنات نقل النفط العراقي إلى دول الجوار.
فبسبب ما تمر به الأنبار من أوضاع متدهورة، وطرقات وعرة غير آمنة، وجسور مقطعة، ألقت بكل ضلالها على قطاع تصدير النفط العراقي، يوضح سعد، بأن وزارة النفط العراقية أوقفت تصدير النفط إلى الأردن بعد سيطرة المسلحين على مناطق واسعة من محافظة الأنبار إضافة إلى تقطيع الطرق التي تعيق حركة الشاحنات في نقل المنتوج النفطي، ويؤكد سعد، أن العراق أوقف نقل ما يقارب 11-13 ألف برميل يوميًا إلى الأردن، موضحًا أن الطريق الوحيد لتصدير النفط العراقي للأردن يمر عن طريق الأنبار الخطير للغاية.
الطرق المتضررة جراء العملية العسكرية والجسور التي أوقعتها الحرب؛ أدت إلى حدوث الكثير من الحالات الإنسانية في محافظة الأنبار، وفي هذا التحقيق الميداني يرصد “نون بوست” جزءًا منها، محمد عزيز، صاحب مكتب للسفر، في الأنبار، يقول إن الطرق الغير مؤمنة والغير معبدة والتي يجوبها الخطر جعلت من مكتبه الذي كان يُسيّر رحلات داخل وخارج البلد بأكثر من 25 رحلة يوميًا، لنقل المسافرين بين مناطق الأنبار داخليًا أو على مستوى المحافظات وكذلك للنقل الخارجي لدول الجوار كتركيا والأردن والسعودية، أن تصل إلى أدني مستوى لها منذ سنين، فبعد كل تلك الرحلات يسير المكتب حاليًا 6 رحلات فقط.
ويضيف محمد عزيز أن عائدات المكتب وبسبب حال الطرق والجسور، إضافة إلى ما تمر به الأنبار انخفضت بنسبة 80%، موضحًا أن أغلب السائقين في المحافظة والذين يعتمدون في أرزاقهم على نقل المواطنين أصبحوا عاطلين أو يعملون في مهن أخرى، ليسجلوا بهذا رقمًا من أرقام المحن والمآسي العراقية، ويشير محمد عزيز، إلى أن الطريق الرابط بين مدينة القائم الحدودية في الأنبار وبغداد أصبح وبسبب التدهور الأمني بعد أن كان 450 كيلو مترًا إلى 1000 كيلو مترًا تقريبًا بسبب التحويلات المرورية والطرق الملتوية التي عقدت من حركة المرور وزادتها خطورة.
وبحسب ما أفاد به محمد عزيز، فإن الطريق المؤدي لبعض المدن كان يستغرق للوصول إليها 3 ساعات أصبح الآن 8 ساعات، والأجور بعد أن كانت 20$ أصبحت الآن 150$ تقريبًا للفرد المسافر من الأنبار إلى بغداد، ويرتبط غلاء الأجور كذلك بسبب ارتفاع أسعار الوقود الذي أدى استياء الوضع الأمني لارتفاعه.
ويشير الناشطون إلى أن بعض الرحلات الداخلية في محافظة الأنبار وبسبب ما تمر به منطقة “حديثة” من معارك مستمرة بين المسلحين والمعارضة تُجبر المسافرين على أن يغيروا رحلاتهم إلى محافظة أخرى ليصلو إلى وجهتهم التي يقصدونها بعد أن قطع الطريق الرابط بين الأقضية في الأنبار والمدن العراقية الأخرى.
ويوضح الناشطون أن طول الطريق الواصل بين مدينة القائم وبغداد كان 450 كيلو مترًا ليصبح هذه الأيام 1000 كيلو مترًا، وكان المسافر يسلكه دفعة واحدة مستغرقًا 4 ساعات فقط، أصبح الآن يسلكه في 12 ساعة، وإضافة إلى الطريق الواصل بين القائم والرمادي مركز محافظة الأنبار كان المسافر يسلكه عادة بـ 3 ساعات أصبح اليوم 8 ساعات.
استهداف الجيش العراقي للمستشفيات والطرق والجسور، في مدينة الأنبار، بالبراميل المتفجرة والصواريخ والمدفعية، إضافة لإغلاق بعض الطرق المؤدية للمستشفيات المركزية في الفلوجة والرمادي جعلت من سعدون جمال، صاحب عائلة أنباريه بأن يشد رحاله للسفر مع عائلته إلى بغداد لإجراء بعض الفحوصات الطبية لأحد أبنائه.
سعدون، روى لـ “نون بوست” حكايته مع الطريق الرابط بين قضاء “القائم” الحدودي مع سوريا، والعاصمة العراقية بغداد، يقول، في الحالات الاعتيادية كان الطريق يقتضي المسير في السيارة لمدة لا تتجاوز 4 ساعات في الحد الأعلى، وبسبب التدهور الأمني في المنطقة ووعورة الطرق وخطورتها وصلت العاصمة العراقية بعد أكثر من 11 ساعة من السفر المتواصل في الطرق الوعرة والخطرة، ويشير سعدون إلى أنه وعائلته سلكوا طرقًا وعرة بمناطق مختلفة وغير مؤهلة لسير السيارات فيها، ولكن وجدوا أنفسهم مضطرين لسلك هذا الطريق ليوصلهم إلى العاصمة العراقية.
ويوضح سعدون أنهم مروا خلال رحلتهم بمناطق وعرة وغير آمنه، ويؤكد على أن ثلث مسافة الطريق كانت غير معبدة ومليئة بالخطر، مضيفًا أن طول الطريق تتواجد فيه ثلاثة أنواع من السيطرات من المليشيات، والجيش، ومسلحي “داعش”، ولكل واحد من هذه السيطرات أعداء ومطلوبين وغالبية من يعبر هذا الطريق مستهدف!
ويضيف سعدون أن الطريق إضافة إلى وعورته وعدم صلاحيته للسير يتناثر في طوله وعرضه ألغام زُرعت من قبل المسلحين لغرض “تأمين” معاركهم!
أحمد صباح، شاب عراقي سافر من الأنبار إلى بغداد، يقول وهو من سكان مجمع “العبيدي” السكني ضمن محافظة الأنبار، إنه قطع طريقًا مسافته أكثر من 1000 كيلو متر ليصل إلى العاصمة العراقية بغداد، ويوضح أحمد أنه اتجه إلى مدينة القائم، ليقطع بعدها 9 كيلومتر جنوبًا باتجاه إحدى القرى “قرية سعدة” ومن القرية اتجه إلى مدينة الرطبة في عمق الصحراء الأنبارية قاطعًا بذلك قرابة 300 كيلو مترًا، سالكًا طريقًا وعرًا في أغلب مناطقه ليصل بعد ذلك إلى منطقة تسمى الـ “160 كيلو” والتي قضى فيها المسير لـ 150 كيلو مترًا بطرق خطيرة وعرة وغير معبدة.
بعد توجه أحمد من محطته الأخيرة إلى منطقة النخيب الحدودية مع محافظة كربلاء والتي قضى فيها المسير لـ 150 كيلو مترًا، ومن ثم دخل أحمد محافظة كربلاء التي قضى للوصول إليها بطرق غير معبدة ووعرة قرابة 850 كيلو مترًا ليسلك بعد محطته كربلاء طريقه الأخير إلى العاصمة العراقية بغداد والتي وصلها بعد أن قطع مسيرة 150 كيلو مترًا تقريبًا.
قصة أخرى عايشها أبو عبد الرحمن من مدينة الرمادي الذي كان حريصًا على ممتلكات بيته والتي تركها خلفه بسبب أنه لا وجود لسيارات تنقل الأحمال والممتلكات الكبيرة في ظل خطورة الطرق وتخريب الكثير منها، يقول لـ “نون بوست”: هربنا من القصف العشوائي، والبراميل المتفجرة التي يلقيها الجيش العراقي على بيوتنا.
أبو عبد الرحمن الذي أراد ان ينتقل من منطقة سكنه في الأنبار إلى إقليم كردستان، شمال العراق، يقول: “خرجت من المنزل لأستأجر سيارتين، لنقل الركاب والأثاث، وفوجئت بغلاء أجور السيارات والتي يقول سائقوها إن الأسباب في ذلك تعود إلى ارتفاع أسعار الوقود وعدم توفره، وصعوبة التنقل بين الطرق الخطرة، ولم استطع تأجير سوى سيارة لنقل العائلة واضطررت لترك الممتلكات والأثاث المهم داخل المنزل المعرض للقصف العشوائي.
ويرى مراقبون أن طرقات الأنبار وبعد كل ما جرى من معارك في المحافظة جعلت من حركة التنقل في عموم العراق وليس فقط في الأنبار حركة مشلولة يصعب عودة الحياة إليها في مقبل الأيام، وهي بحاجة إلى إعادة صيانة وتأهيل طويلة الأمد وهذا لن يتم إلا بعد أن يستقر الوضع الأمني في عموم العراق والمحافظة.