ترجمة وتحرير نون بوست
كطفل عاش طفولته في طرابلس شمال لبنان، كان خالد دعبول يرى البحر دائمًا مصدرًا للأمل، واليوم بعد أن بلغ 42 عامًا أصبح البحر وسيلته الوحيدة للهرب من مدينة كافح فيها بجد لكنه فشل في الحفاظ على حياة كريمة في النهاية.
يقول دعبول: “منذ طفولتنا ونحن فقراء دائمًا لكننا لم نشعر أبدًا بالحاجة لأن نخاطر بحياتنا للحصول على حياة أفضل، لكن في 2020 أصبحت المخاطرة بحياتي وحياة زوجتي وأطفالنا الأربع ضرورة حتمية لتوفير أساسيات الحياة”.
في يوم 9 من سبتمبر اتخذوا القرار، فقد انضم دعبول لأصدقاء طفولته في منطقة ميناء طرابلس واتفقوا على أن لديهم ما يفي وقرروا التوجه إلى أوروبا عبر طريقها الخطير في البحر المتوسط، يقول دعبول: “كانت وجهاتنا النهائية التي خططنا لها تعتمد على الأقارب الذين نملكهم في مختلف البلاد، لكن ساحل إيطاليا كان وجهتنا الأولى”.
وبدلًا من التواصل مع مهرب غير شرعي، قرر دعبول وأصدقاؤه أن يقوموا بالأمر بأنفسهم، يقول دعبول: “لقد اشترينا قاربًا بمساهمة الجميع، حتى إن بعضنا باع ذهب زوجته وبعضنا باع أثاث منزله أو سيارته وبعضنا اقترض المال، لقد بعنا كل ما يمكن بيعه لتوفير المال للهروب”.
في 2016 صنف البنك الدولي طرابلس كواحدة من أفقر مدن ساحل البحر المتوسط، فنحو 80% من سكانها البالغ عددهم 500 ألف يعيشون بأقل من دولارين في اليوم
في الحديث عن الاستعدادات كانت كلمات خالد أعمق من مجرد بيع الأثاث، لقد شعر بأنه يبيع حياته القديمة لشراء حياة جديدة، منذ نحو عام وحتى الآن يواجه لبنان أسوأ أزمة مالية له منذ عقود، أثرت الأزمة على معظم اللبنانيين لكن تأثيرها الأسوأ كان على سكان طرابلس ثاني أكبر مدينة في لبنان.
خلال الأشهر التي انطلقت فيها المظاهرات ضد الحكومة التي بدأت في أكتوبر 2019 وانتشرت عبر البلاد، أصبحت المدينة الشمالية نقطة مركزية للاحتجاجات، لكن حتى قبل الانهيار الاقتصادي عانت طرابلس طويلًا من الفقر والإهمال رغم أن المدينة موطنًا لأغنى سياسيي لبنان.
في 2016 صنف البنك الدولي طرابلس كواحدة من أفقر مدن ساحل البحر المتوسط، فنحو 80% من سكانها البالغ عددهم 500 ألف يعيشون بأقل من دولارين في اليوم، ومع ذلك في هذا الوقت كان دعبول وأصدقاؤه يملكون أساسيات الحياة حتى نهاية العام الماضي.
كان دعبول محاسبًا في شركة شحن ناجحة، لكن مع الانخفاض التدريجي للعملة وارتفاع التضخم في بلد يعتمد على الاستيراد، أصبح راتبه يكفي أساسيات الحياة لأسرته بالكاد، ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية في بداية 2020، تم تسريحه من الشركة لخفض الميزانية وأصبح البحر أمله الوحيد.
الجحيم الذي هربوا منه
في الأسابيع الأخيرة أبلغت السلطات اللبنانية والقبرصية عن عدة قوارب لمهاجرين تحمل سوريين ولبنانيين يحاولون مغادرة لبنان وأزمته المالية التي تصاعدت بعد جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت الضخم الشهر الماضي.
كان عماد طرطوس – طاه حلويات شهير في طرابلس – من بين 33 شخصًا – من ضمنهم دعبول وأسرته – حاولوا الوصول إلى ساحل إيطاليا لكنهم فشلوا، رغم مهاراته في الطهي التي أكدها الكثير من سكان طرابلس، فقد اضطر لإغلاق متجره بعد ارتفاع أسعار البضائع بشكل سريع وكبير نتيجة انهيار العملة.
يقول طرطوس: “كانت طرابلس مدينة فقيرة بالفعل لكن أولويات الناس تغيرت بعد الأزمة، فقد أصبحت الحلوى رفاهية لا يتحملها الجميع”، بجوار ساحل جزيرة قبرص المجاورة أصاب القارب عاصفة شديدة واضطرت المجموعة لإرسال نداء استغاثة، وصل حرس سواحل قبرص لإنقاذهم وأخذوهم إلى مدينة لارنكا مع وعود بتسهيل رحلتهم إلى إيطاليا.
يقول غسان حليمة – طالب طب في السنة الثالثة وكان من بين المجموعة – إن السلطات القبرصية خدعتهم، ويضيف: “لقد قالوا إنهم سيأخذوننا إلى الساحل الإيطالي لكن عندما صعدنا على متن الزورق القبرصي اكتشفنا أنه عائد إلى ساحل لبنان”.
قفز بعض الرجال من الزورق عندما أدركوا أنهم عائدون إلى الجحيم الذي هربوا منه لكنهم أعادوهم مرة أخرى، تقبع المجموعة الآن في الحجر الصحي بمنشأة طبية في حي الشوف بمنطقة جبل لبنان بانتظار نتيجة اختبارات “PCR“.
“عندما كنت طفلًا كانت الرصاصات والقذائف تنهي الحياة في ثانية واحدة، أما اليوم في وقت السلم، نموت عدة مرات في اليوم” خالد دعبول
يقول حليمة إنه لو أتيحت له الفرصة سيفعلها ثانية لأنه لا يملك خيارًا آخر، ويضيف: “لا يمكنني أن أتحمل تكاليف دراستي هنا وأنا أريد أن أصبح طبيبًا، إذا كانت بلدي لا تهتم بي فأنا متأكد أن هناك دولًا أخرى لن تمانع في الحصول على مزيد من الأطباء الذين يقدمون الخدمات الطبية لمواطنيها”.
رفاهية الوقت
في مقابلة مع العديد ممن شاركوا في “رحلة الموت” تلك، كان هناك إجماع عام على أن سبب عدم محاولة الهجرة بطريقة رسمية هو نقص المال لإنهاء المعاملات الرسمية، يقول أحدهم: “لا نملك رفاهية الوقت للانتظار وإجراء تلك العملية”.
أما دعبول الذي أنفق مدخرات حياته وذهب زوجته من أجل شراء قارب الهروب أصبح بلا شيء الآن، يقول: “في المنشأة الطبية الآن نحصل على الطعام أنا وأبنائي، لكن بعد خروجنا من هنا لا أعلم كيف سأطعمهم”.
رغم المخاطر المعروفة والمستقبل المجهول الذي ينتظرهم، فإن معظم الناس في تلك المجموعة اتخذوا قرارًا بالرحيل عن طرابلس لأنهم لا يملكون شيئًا آخر، ولن يحدث لهم أسوأ من الظروف التي يعيشون فيها الآن.
استرجع دعبول ذكرياته في طرابلس خلال الحرب الأهلية في لبنان، وتحدث عن أسباب عدم محاولة والديه مغادرة البلاد في هذا الوقت، وصف دعبول قراره بالرحيل قائلًا: “عندما كنت طفلًا كانت الرصاصات والقذائف تنهي الحياة في ثانية واحدة، أما اليوم في وقت السلم، نموت عدة مرات في اليوم”.
المصدر: ميدل إيست آي