ظلت الحضارة المصرية القديمة على مدار عشرات القرون العنوان الأبرز لتاريخ الدولة المصرية وأحد الأركان الأساسية التي تستمد منها البلاد قيمتها ومكانتها الإقليمية والدولية، حين استمرت لعقود عدة قبلة السائحين وعشاق الحضارات الخالدة، ومقصد لعلماء التاريخ وباحثي الآثار من شتى بقاع الأرض.
استمدت الآثار المصرية قيمتها التاريخية من قدرتها الفائقة على التصدي لعوامل المناخ والزمن على مدار آلاف السنين، ما يعكس مدى الإبداع الذي كان عليه فراعنة مصر القدماء الذين برعوا في علوم التحنيط والترميم والهندسة التي فشل علماء اليوم في فك بعض طلاسمها وشفراتها التي كانت حكرًا على أبناء هذا العهد القديم.
وتعد منطقة الأهرامات بالجيزة، أحد عجائب العالم القديم السبعة، التي يعود تاريخ بنائها إلى قبل نحو 25 قرنًا قبل الميلاد، على رأس المعالم الأثرية التي صدرت صورة مصر الخارجية، ووضعتها على رأس أولويات بلدان العالم حضارة وتاريخًا، فكانت العنوان الأكثر حضورًا في المحافل العالمية.
لكن يبدو أن الأهرامات التي قاومت عوامل التعرية والمناخ لما يزيد على 5 آلاف عام، على موعد مع هجمة شرسة تهدد تماسكها وبقاءها، يأتي ذلك في إطار موجات التشويه التي يواجهها التراث المصري خلال السنوات الأخيرة بدعوى التطوير البنيوي العمراني الذي يستهدف بناء الحاضر على أنقاض التاريخ.
كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية في تقرير لها أمس الـ15 من سبتمبر/أيلول الحاليّ عن شق مصر لطريقين سريعين يمران من خلال منطقة هضبة الأهرامات، ويستهدفان الربط بين الجيزة والقاهرة والمدن العمرانية الجديدة، يمثلان تهديدًا كبيرًا لأهرامات الجيزة ومعالمها الأثرية.
ورغم التحذيرات الصادرة عن العديد من علماء المصريات والآثار بشأن مخاطر تلك الطرق على الأهرامات والهضبة (مسجلة كموقع للتراث العلمي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو))، فإن أحدًا لم يسمع لهم أو يأخذ برأيهم، لتصر السلطات على المضي قدمًا في تنفيذ هذا المشروع العمراني الذي ظل محل رفض لسنوات عدة، منذ أيام الرئيس الراحل حسني مبارك وحتى قبل عام تقريبًا.
نهضة عمرانية على أنقاض التراث
يأتي الطريقان كجزء من المخطط الذي يقوده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتخفيف العبء السكاني عن القاهرة (20 مليون مواطن يقطنها) من خلال تدشين العديد من المدن الجديدة على حدود العاصمة، هذا المخطط الذي تصر الحكومة على المضي قدمًا فيه مهما كانت العقبات الإنسانية والمجتمعية.
الطريق الأول وهو الطريق الشمالي، الذي يخترق الصحراء على بعد 2.5 كيلومتر جنوب الأهرامات، أما الطريق الثاني فهو الطريق الجنوبي الذي يتوسط هرم سقارة المدرج (أقدم أهرامات سقارة ويعود لآلاف السنين) ومنطقة دهشور التي تضم العديد من المعالم الأثرية الشهيرة مثل الهرم الأحمر وهرم سنفرو المائل.
ويعد الطريق الجنوبي الذي من المقرر أن يمتد قرابة 16 كيلومترًا فوق هضبة الأهرامات وأجزاء من مدينة منف التاريخية، امتدادًا للطريق الدائري الثاني بالعاصمة الذي من المقرر أن يربط بين مدينة الإنتاج الإعلامي في منطقة السادس من أكتوبر (جنوب الجيزة) والعاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها خلال الأشهر الماضية مع حالة التغير الواضح في مسارات الطرق وملامح البنايات في المنطقة القريبة من الأهرامات، التي جاءت الردود بشأنها غامضة، وتتمحور حول مشروعات توسعة وبناء كباري لتيسير العملية المرورية، لكن الأمر تجاوز تلك الإجابات التقليدية مع تجاوز المشروع لمسار العمل المحدد سلفًا.
ووفق علماء المصريات والصور التي تم التقاطها عبر “Google Earth” فإن عملية البناء في الطريقين الصحراويين بدأت منذ عام تقريبًا، بعيدًا عن الأنظار في ظل حالة من التجاهل الإعلامي، لكنها باتت أكثر وضوحًا في شهر مارس/آذار الماضي حين شارف العمل على الانتهاء، وهو ما أثار قلق الخبراء والمختصين.
متخصصون في علم المصريات قالوا إن الطريق يمر عبر مقابر أثرية لم تكتشف بعد للأسرة الثالثة عشرة التي لا توجد معلومات كثيرة عنها، وعلى بعد خطوات من هرم بيبي الثاني وهرم خنجر ومصطبة فرعون
تهديد سلامة الأهرامات
أثار الكشف عن هذين الطريقين استياء علماء المصريات الذين حذروا من احتمالية تهديد مثل تلك المشروعات سلامة هضبة الأهرامات والمناطق المحيطة بها، ما يمكن أن يمثل خطورة مستقبلية على قوة ومتانة المعالم الأثرية في تلك المنطقة الأثرية العالمية التي تعد من أهم المناطق التراثية في العالم.
فالمشروع بحسب الخبراء سيقسم منطقة الهضبة إلى 3 أجزاء، كما أنه سيقطع مدينة منف القديمة، التي تعد إحدى أكبر مدن العالم الحضارية وأكثرها تأثيرًا لقرابة 3000 عام، بجانب احتضانها للعديد من الآثار التي لم يتم اكتشافها بعد، وهو ما عبر عنه المسؤول البارز السابق باليونسكو، سعيد ذو الفقار بقوله: “كل ما قمت به من عمل على مدى 25 عامًا أصبح الآن محل تساؤل”.
ذو الفقار الذي زار جزءًا من الطريق الجنوبي الذي يتم العمل عليه الآن، قبل شهرين أضاف “اندهشت مما رأيته”، علمًا بأنه قاد حملة منتصف تسعينيات القرن الماضي لوقف بناء الطريق الشمالي، فيما طالبت اليونسكو وقتها بمعلومات تفصيلية عن الخطة الجديدة لتدشين مثل هذه الطرق في تلك المنطقة التراثية.. لكن دون رد حتى كتابة هذه السطور.
متخصصون في علم المصريات قالوا: “الطريق يمر عبر مقابر أثرية لم تكتشف بعد للأسرة الثالثة عشرة التي لا توجد معلومات كثيرة عنها، وعلى بعد خطوات من هرم بيبي الثاني وهرم خنجر ومصطبة فرعون”، حسبما نقلت الصحيفة البريطانية، فيما كشف أحدهم أنه تم العثور على بعض التماثيل خلال عمليات الحفر في الطريق، الأمر الذي يؤكد وجود آثار مدفونة في تلك المنطقة وأن العمل فيها يعرضها للتلف والانهيار.
العالم البريطاني ديفيد جيفريس، المولع بدراسة علم المصريات، والذي يعمل في مدينة منف منذ 1981 بجانب مشاركته في كثير من البعثات الاستكشافية في مناطق مصر القديمة، يرى أن الطريق الجديد الجاري العمل فيه الآن يقترب بشكل كبير من المناطق التجارية للمدينة التاريخية وجدران مينائها، كما يهدد في الوقت نفسه جدارًا رومانيًا كان ذات يوم ملاصقًا للنيل ويقول جيفريس إن قليلين يعلمون بشأنه.
هذا بخلاف تحذيرات أخرى من علماء كثر، بعضهم متخصص في علوم البيئة، بشأن تسبب الطريقين الصحراويين في انتشار التلوث في المنطقة، ما قد يؤدي إلى تآكل الآثار وانهيارها خلال فترات قصيرة، عدا عن تعريضهم المنطقة المليئة بالكنوز الأثرية والمعالم النفيسة للنهب والسرقة.
وفي المقابل يرى الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري أن الهدف من تدشين الطريقين تحقيق التنمية للمصريين، منوهًا إلى اهتمام الدولة بالمواقع الأثرية في المناطق كافة، ولافتًا في الوقت ذاته إلى أن الطرق الحاليّة التي تنقل الحافلات السياحية قريبة جدًا من الأهرامات، لذا كان التفكير في خطط جديدة لتدشين مسارات أخرى أكثر تطورًا لنقل حافلات تعمل بالكهرباء لتجنب التلوث داخل منطقة الهضبة.
لم تكن الأهرامات وحدها ضحية الإهمال والتجاهل التراثي بدعوى التخطيط العمراني وإعادة رسم خريطة الدولة البنيوية، حيث أطاحت السلطات المصرية خلال الآونة الأخيرة بالعديد من المعالم الأثرية للأسباب ذاتها، منها على سبيل المثال لا الحصر ما حدث في فبراير 2019 حين اقتحمت هراوات مدفوعة بعربات من الأمن، شارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط العاصمة القاهرة، لهدم “وكالة العنبريين” التي يعود تاريخها إلى 900 عام، وسط صراخ من سكان الشارع والعاملين به.
تزامن هذا مع إعلان وزارة الآثار قبل فترة اختفاء 33 ألف قطعة أثرية، خلال عملية جرد قامت بها الوزارة، لبحث حالة المخازن وما طرأ عليها خلال الـ50 عامًا الماضية، وقبلها بقليل فوجئ الشارع المصري باقتلاع 55 منبرًا من أعظم وأجمل منابر القاهرة الإسلامية من أماكنها وتخزينها في مخازن متحف الحضارة لحين إعادة عرضها وفقًا لما ستقرره اللجان فيما بعد، وذلك وفق القرار الذي يحمل رقم 110 لسنة 2018.
حالة من القلق تخيم على الشارع المصري الذي ظل لعقود طويلة مستندًا إلى تاريخه وتراثه الحضاري كأحد أبرز المرتكزات الوطنية التي تعتمد عليها الشخصية المصرية في الترويج لنفسها عالميًا، وكأن لسان حاله يقول: إن سلبتم الواقع بسياساتكم التعجيزية التي أودت بالملايين من الشعب إلى زمرة الفقراء، ووضعتم المستقبل في خانة الغموض واليأس، فليس من المبرر أن تسلبوا الماضي كذلك، فهو آخر ما تبقى لنا للحياة في هذا الوطن.