في الـ13 من أغسطس/آب الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نية كل من الجانب الإسرائيلي والجانب الإماراتي إنهاء زمن العلاقات السرية وتدشين فصل جديد من العلاقات الثنائية العلنية، يتضمن آفاقًا أرحب من التعاون بين البلدين.
منذ ذلك الإعلان، وحتى توقيع الاتفاق مساء أول أمس الثلاثاء، يتودد الطرفان إلى بعضهما البعض، وبالأخص الجانب الإماراتي إلى الطرف الإسرائيلي، فيما لم يعكر صفو هذا الاستبشار المتبادل بمستقبل العلاقات الثنائية إلا الحديث عن ملف صفقة “الإف 35″، بين رغبة إماراتية ورفض عبري.
ترجيح مبدئي
في عدد من المواد الصحفية واللقاءات الجانبية، رجحتُ منذ فتح هذا الملف أن يكون رفض نتنياهو بيع مقاتلات إف 35 للإمارات رفضًا مؤقتًا أو رفضًا شكليًا، سيعقبه انفراجة وتسوية ثلاثية بين الأطراف المعنية.
بُني هذا الترجيح حينئذ على عدد من الشواهد، أولها أن نتنياهو نفسه سياسيٌ يستمرئ الكذب، وفي العرف السياسي الإسرائيلي فإن الخطاب الإعلامي الرسمي يقوم على استساغة الكذب، حتى لو كان لعدم إحراج الخصوم في سياق تصعيد إسرائيلي من طرف واحد، ثانيًا، أن تقارير إعلامية عبرية تحدثت عن “بند سري” في الاتفاق يسمح للإمارات بالحصول على هذا النوع من الطائرات، مع أسلحة إسرائيلية متطورة، ثالثًا، وهو الأهم، أن سياسة الاحتلال تجاه السماح للدول العربية بالحصول على أسلحة نوعية لم تعد متشددة كما كان الأمر في الماضي.
في السابق، كانت “إسرائيل” حريصةً أشد الحرص على إبقاء الفجوة العسكرية بينها وبين الدول العربية، من المحيط إلى الخليج، واسعةً، كمًا ونوعًا، معتبرةً ذلك من المحددات الضرورية للحفاظ على أمنها في محيط جيو سياسي وثقافي وعقائدي يضمر لها العداء المستمر.
بعد ثورات الربيع العربي واستشعار “إسرائيل” مخاطر إستراتيجية حقيقية، باتت أقل تشددًا في الحفاظ على هذه الفجوة العسكرية وأكثر انفتاحًا على تدعيم جيوش الانقلاب
كان هذا الطرح قائمًا بشكل ضمني، حتى إن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، انتقد الولايات المتحدة، في لقاء لم يذع على التلفاز، على فرضها قيودًا سياسية على أي مساع لتطوير صناعة عسكرية محلية تهدد الاحتلال، كما باتت هذه الفجوة العسكرية شرعية وبمثابة أمر واقع في الكونغرس الأمريكي بموجب ما يعرف بـ”قانون الحفاظ على التفوق النوعي الإسرائيلي” على العرب منذ عام 2008.
بعد ثورات الربيع العربي واستشعار “إسرائيل” مخاطر إستراتيجية حقيقية من صعود محور الإخوان المسلمين وإيران وتركيا، التي أعقبها نكوصٌ جديد عبر الانقلاب العسكري في مصر يوليو/تموز 2013، باتت “إسرائيل” أقل تشددًا في الحفاظ على هذه الفجوة العسكرية وأكثر انفتاحًا على تدعيم جيوش “محور الاعتدال”، بغرض رد الجميل لهذه الدول التي تشترك معها في نفس العدائيات الإقليمية، وتوفير اشتراطات البقاء والاستقرار لنظم هذه الدول.
ظهر هذا التحول المهم جليًا في علاقة “إسرائيل” بنظام السيسي في مصر، عندما سمحت له بمخالفة بنود معاهدة السلام المتعلقة بأعداد القوات المنتشرة في سيناء، نظير ما رأته من بأس في محاربة التنظيمات المسلحة بشكل لم يحدث من قبل، كما تغاضت عن إبرامه عددًا من الصفقات العسكرية التي لم تكن لتسمح بها في عهد مبارك قبل الربيع العربي، رغم إخلال هذه المعدات بالفجوة العسكرية التي طالما حافظت عليها في السابق.
خطابيًا، بدا هذا الاستسلام الإسرائيلي أو إدراك تغير موازين المنطقة والحاجة إلى بناء تحالف إقليمي قوي لمواجهة القوى الإقليمية الصاعدة مثل تركيا وإيران، التي لا تستطيع “إسرائيل” مواجهتها وحيدة، في تبرير موشيه يعالون وزير الدفاع الأسبق، لحصول مصر على طائرات الرافال الفرنسية منذ 5 أعوام، حيث اعتبر تلك الصفقة رد فعل طبيعي إيذاء تنامي تهديدات القاهرة “في شبه جزيرة سيناء ومن الغرب في ليبيا” وتوجهًا مفهومًا بعد عزوف الولايات المتحدة عن توفير حاجات مصر العسكرية في السنوات الأخيرة، وعندما تصادم نتنياهو مع قيادة الجيش بعد موافقته على شراء مصر غواصات ألمانية متطورة، قائلًا: “على أي حال، كانت مصر لتحصل عليها سواء من ألمانيا أم غيرها، كانت ستحصل على مثيلاتها من كوريا الجنوبية”.
احتياج إماراتي
من زاوية أخرى، فإن أحد الأسباب التي دفعتني لترجيح عدم مصداقية هرولة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نفي الموافقة على الصفقة، والتأكيد على عدم السماح بتمريرها، هي الحاجة الإماراتية الماسة لهذا النوع من الطائرات.
كان الراجح أن اتفاقًا ما، مكتوبًا أو غير مكتوب، جرى بين الأطراف الثالث على أن تُكافأ أبو ظبي على مبادرتها بالتوقيع على اتفاق السلام
اعتادت الإمارات منذ أن دشنت سلاحها الجوي استخدام طرازات غربية فريدة “وبلوكات” مصنوعة خصيصًا لتلبية احتياجات الجيش، في سياسة صارمة أبرزت قدرات الطائرات والطواقم البشرية التابعة لها بوضوح في حرب عاصفة الحزم، قياسًا على باقي أسلحة الجو العربية، وحتى الأكثر عراقةً وتسليحًا منها مثل سلاح الجو السعودي.
يقوم عماد سلاح الجو الإماراتي على طرازين مخصوصين: الأول مقاتلات ميراج 2000-9 الفرنسية، والثاني مقاتلات إف 16 ديزرت الأمريكية، وسوف تحتاج الإمارات إلى بديل مستقبلي يتلاءم مع هذه الطبيعة الخاصة للطائرات المُشغلة، ولا بد أن يكون من نفس المدرسة وعلى نفس الكفاءة بالنظر إلى متطلبات الجيل الخامس، وقد اتجهت معظم الدول المشغلة للإف 16 مثل تركيا و”إسرائيل” إلى إحلال الإف 35 بالإف 16.
وفي وقت سابق، حاولت الإمارات الاستثمار في تمويل طراز روسي مخصوص من عائلة “سوخوي”، ليجمع بين ميزات كل هذه العائلة، مع تقنيات غربية (فرنسية تحديدًا) في البودات والذخائر، لكن المشروع تعطل لأسباب تقنية، كما أخفقت مفاوضاتها مع فرنسا على طائرات الرافال، التي دخلت الخدمة في الخليج لأول مرة عند عدوتها اللدود: قطر.
بالنظر إلى هذه المعطيات، ومعرفة أن أبو ظبي تفاوض من أجل الحصول على هذا النوع منذ 6 أعوام على الأقل، مع تحديات تواجه مستقبل المشروع نفسه في الولايات المتحدة بسبب إبعاد تركيا بالإضافة إلى أسباب فنية، كان الراجح أن اتفاقًا ما، مكتوبًا أو غير مكتوب، جرى بين الأطراف الثالث على أن تُكافأ أبو ظبي على مبادرتها بالتوقيع على اتفاق السلام ودعمها صفقة القرن، بالحصول على هذه الطائرات، خاصةً إذا كانت ستأخذ حصة تركيا الجاهزة بالفعل، بما يضمن لدولة الاحتلال عدم وصول هذا السلاح النوعي إلى عدوها الأخطر، تركيا، كما صنفها يوسي كوهين مدير الموساد، وبما يقوي خصم إيران في منطقة الخليج: الإمارات.
ترحيب أمريكي
يطرح هذا التصور المبدئي في حينه سؤالًا مهمًا: إذا كان الاحتلال بات أقل تشددًا تجاه تسليح خصوم الأمس، لماذا هذا الإصرار الشديد على نفي الصفقة من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي والتأكيد أن اتصالات مبكرة تمت قبل إعلان السلام وبعده مع الجانب الأمريكي، لإبلاغه بضرورة احترام الالتزام القانوني بضمان تفوق “إسرائيل”؟
الإجابة أن نتنياهو كان معجبًا بطريقة عرض اتفاقه مع الإمارات، التي عند تفنيدها، ستظهر أن “إسرائيل” لم تعط شيئًا مقابل التطبيع العربي، خاصة بعد افتضاح حقيقة تأجيل الضم لأسباب لا علاقة بهذا الاتفاق، كما أنه، بحسب تحليلي آنذاك، كان يخاطب الجمهور الإسرائيلي في الداخل، وبما أنه مقبل على انتخابات، فإنه معني بعدم الظهور بمظهر من يقدم التنازلات لخصوم “إسرائيل” السابقين، بالإضافة إلى إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة وللإمارات مفادها: إن دولة عربية لن تحصل على هذا السلاح الفريد بسهولة.
تعلمت الإمارات فيما يبدو من النهج الإسرائيلي الذي يراعي عدم إحراج الخصوم، فلم تشر صراحةً إلى أن نتنياهو وافق على حصول الإمارات على هذه الطائرات قبل الإعلان، ولم تُشر إلى البند السري الذي ذكرته يديعوت أحرونوت بخصوص احتمالية أن يصل مقابل الصفقة 10 مليارات دولار، مكتفيةً بإلغاء أحد اللقاءات اللوجيستية مع الطرفين، معتبرةً أن التقارير الواردة عن الرفض الإسرائيلي لهذه الصفقة يتنافى مع مناخ السلام المفترض بين البلدين.
لكن لسوء حظ نتنياهو، فقد كانت التصريحات القادمة من واشنطن تجاه هذا الملف تنضح بتكذيبه، حيث قفز أول تصريح لترامب، بعد نفي مكتب نتنياهو مباشرة، إلى الحديث عن “الأموال الضخمة” التي ستدفعها الإمارات نظير هذه المقاتلات، كما تحدث كوشنر عن العلاقة بين إعلان السلام وصفقة المقاتلات، فمن المفترض، حسبما أوضح في لقاء تليفزيوني، أن يساهم الاتفاق الثنائي في زيادة فرص الإمارات في الحصول على ما تريد من أسلحة، مشيرًا إلى أن الاعتراض ينبغي أن يكون قادمًا من إيران لا من “إسرائيل”.
وبحسب تقارير إعلامية، فإن كوشنر نفسه يدير خطًا تفاوضيًا رفقة ميغيل كوريا مدير مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط للدفع بإتمام الصفقة، دون التواصل مع الكونغرس.
نتنياهو كاذبًا
بعد أسبوعين من إعلان اتفاق السلام المرتقب، وشد وجذب في صفقة المقاتلات، كانت كل المؤشرات التحليلية تقول إن نتنياهو كاذب في تصريحاته النافية للموافقة على تمرير الطائرات للإمارات، مواقفه السابقة والحاجة الإماراتية والتصريحات الأمريكية.
وبحلول الـ25 من أغسطس/آب الماضي، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية تقريرًا خطيرًا يؤكد صحة هذا الاستنتاج، أن نتنياهو يكذب في تصريحاته، ويكشف تفاصيل مثيرةً، توضح أن نتنياهو نفسه كان، للمفارقة، داعمًا لهذه الصفقة.
تخشى وحدة تتبع وتقييم حركة بيع السلاح العالمي في جيش الاحتلال من أن تذهب هذه الطائرات إلى الإمارات بشكل ثانوي
فبحسب الصحيفة، فإن نتنياهو ومكتبه والموساد، يضغطون على دوائر فنية وأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية منذ عامين، للموافقة على رغبة الإمارات في الحصول على أسلحة متطورة، منها هذه الطائرات، مقابل توقيع اتفاق سلام شامل مع الإمارات. يشبه هذا الصراع ما حدث بالضبط في صفقة الغواصات المصرية مع ألمانيا. رغبة نتنياهو لتمرير الصفقة، ورفض المؤسسة الدفاعية.
تخشى وحدة تتبع وتقييم حركة بيع السلاح العالمي في جيش الاحتلال من أن تذهب هذه الطائرات إلى الإمارات بشكل ثانوي، رغم السماح لأبو ظبي بالحصول على أسلحة إسرائيلية سرية خلال الأعوام الثماني الأخيرة، وذلك استنادًا إلى كود التحليل التقليدي الذي يصنف الإمارات في الدول “الخاصة” التي يمنع تمرير أسلحة سرية إليها، فيما يرى خط الموساد أن الإمارات منذ استرضائها عقب اغتيال المبحوح عام 2010 بصفقة سلاح، باتت حليفًا موثوقًا لا مانع من إرسال الأسلحة المهمة إليها، وهو تحول خطير بكل تأكيد.
ربما الأخطر من ذلك، أن خلال هذه المدة الوجيزة، بدأت بعض الأوساط الدفاعية الإسرائيلية تتحدث عن “التعويض” الذي ستقوم لجنة فنية بإرساله للولايات المتحدة، التي ستيعين عليها توفيره للحفاظ على التفوق النوعي “القانوني” للجيش الإسرائيلي، نظير إتمام صفقة الطائرات المتجهة إلى الإمارات، وهو على الأرجح، وفق تقارير عبرية، سيكون خط إمداد عسكري ولوجستي على مدار عام كامل، وهو ما يؤكد أن نتنياهو كان يراوغ منذ البداية.
مستقبل الصفقة
رغم كل شيء، سيظل التفوق الإسرائيلي على العرب عسكريًا بشكل عام، وجويًا بشكل خاص، أولويةٌ قصوى لدى واشنطن وتل أبيب، لذلك، فإن الراجح أن تحاول القيادة السياسية تعطيلها أو إخصاءها (إذا جاز التعبير) لحين انتهاء الانتخابات الأمريكية القادمة والمقرر لها نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
تركيا ستسعى بلا شك لرد هذه الصفعة عبر بديل شرقي على الأغلب سيكون روسيًا
إذا فاز ترامب، ستحاول “إسرائيل”، بالإضافة إلى ما ستطلبه اللجنة الفنية من امتيازات عسكرية من درر الترسانة الأمريكية، تقليل حجم الصفقة الإماراتية أو نزع بعض إمكاناتها التكنولوجية، كما اعتادت أن تفعل مع مصر مثلًا في السابق، وهو ما سيحافظ على مستوى معين من التفوق الجوي لـ”إسرائيل”، التي تمتلك حاليًّا نحو سرب من هذا النوع من المقاتلات، مدعوم بتعديلات محلية فائقة في أنظمة القيادة وتمرير البيانات والذخائر والوقود.
سيصبح سلاح الجو الإماراتي أقوى سلاح جو عربي، بلا منازع، مع امتلاك تقنيات التخفي الفريدة في الجيل الخامس، لكن ميزانية البلاد المرهقة من “كورونا” وانخفاض أسعار النفط ستتحمل مزيدًا من الأعباء، بالنظر إلى سعر الصفقة الباهظ وتكاليف التشغيل، فالجيش الأمريكي نفسه يعاني من تكاليف برنامج هذه المقاتلة، بما في ذلك تكلفة ساعة الطيران التي تصل إلى 25 ألف دولار.
إذا صحت التكهنات بأن الإمارات قد تحصل على دفعة عاجلة من نصيب تركيا المعطل في هذا النوع، فإن ما تخشاه تقديرات الموقف التي تنشرها مراكز الأبحاث المرموقة، مثل السادات بيجن، عن إطلاق هذه الصفقة شرارة سباق تسلح جديد في المنطقة، سوف تصبح حقيقية، فتركيا ستسعى بلا شك لرد هذه الصفعة عبر بديل شرقي على الأغلب سيكون روسيًا، وستسارع إيران لتدعيم سلاحها الجوي وشبكة دفاعها مستغلةً رفع حظر توريد السلاح الأممي مؤخرًا، كما أن موقف الولايات المتحدة المتشدد تجاه طلبات باقي حلفائها العرب العسكرية سيكون أقل مناعة، وهو ما ينظر إليه بعيون إسرائيلية باعتباره مزيدًا من التقلص للتفوق العسكري التقليدي على العرب.. فهل يفعلها ترامب؟