“يهيأ للأفراد ــ في خيالهم ــ أنهم يتمتعون بقدرٍ أكبر من الحرية تحت هيمنة الطبقة البرجوازية من ذي قبل، لأن ظروف حياتهم أضحت عرضية – ليست جوهرية كفاية – لكن في الواقع هم أقل حرية، لأنهم يخضعون لقوى أضخم، وهي القوى المادية”.
إذ بدأنا بهذا الاقتباس من كتاب “كارل ماركس”، فهذا لأنه من أكبر الملهمين للمخرج كين لوتش، وهذا واضح جدًا في انحياز توجهات أفلامه للطبقة العاملة التي أفنى ماركس حياته لفهمها.
التأثير هنا ليس في منهجية التفكير فقط، إنما في كيفية التعامل مع الفكرة وقولبتها في نسيج يدعم النمط المطلوب لتوضيح مشكلةٍ ما، فالمشكلات التي يطرحها كين لوتش ليست رفاهية عارضة أو أشياء تخضع لشخوص الأفلام بشكل كامل، إنما هي مشاكل مرتبطة بالحكومات ارتباطًا وثيقًا وبالضرورة مرتبطة بالأفراد.
ليس ذلك فقط إنما هي عقَد اقتصادية دولية، ربما تغض الحكومات عنها الطرف، وتتطلب شجاعة فنية وأخلاقية للخوض فيها بشكل فاضح وجريء، كما أن فيها تحديًا صريحًا للدولة ويمينها، بيد أنها تبقى مشاكل لا تخص الشارع الإنجليزي فقط، إنما فئة العمال والطبقة المتوسطة والدنيا في كل العالم.
لا تنتمي أفلام كين لوتش لنزعة فلسفية أخلاقية، فأنت لا تستطيع أن تصف عالمًا مثاليًا بمثالية، وهذا يمكن أن نراه في جميع أفلامه، فهو لا يهتم بالعقد الأخلاقية، لأن عقدة الأخلاق ستسحبه بعيدًا عن عالمه ـ الشوارعي ـ وشخوصه الهامشية.
وإذا دققنا النظر، سنجد عوالم كين لوتش، أقرب للعوالم العربية والإفريقية ـ دول العامل الثالث ـ منها لعوالم دول العالم الأول، فكل ما يصَدّر للعالم أن أوروبا جنة الفردوس وبلاد الفرص المتاحة والأحلام المباحة، ينهار مع انهيار القيم الأخلاقية الفردية والجماعية، الذي بدوره يهدم الصورة المثالية لتلك الأخلاق.
ابتعاده عن الفردانية يقرّب المشاهد من الحدث أكثر، فهذه الأشياء المنافية للمثالية التي تسود تلك العوالم لا تمثّل كونها أشياء عارضة، بل كنوع من الخطوب التي يجب معالجتها
هذا بدوره يعطي مساحة أكبر لمد جذور حداثية وإحلال قيم جديدة رأسمالية تتناسب مع سرعة الآلة وسوط المال، وهذا يحيلنا بالضرورة للصورة الذي يرسمها لنا لوتش بأمانة، فكل قصصه تقريبًا مبنية على مقابلات وأقاصيص حقيقية تنخرط بشكل كامل مع اليومي الذي يحدث للناس.
ابتعاده عن الفردانية يقرّب المشاهد من الحدث أكثر، فهذه الأشياء المنافية للمثالية التي تسود تلك العوالم لا تمثّل كونها أشياء عارضة، بل كنوعٍ من الخطوب التي يجب معالجتها، وبالضرورة سيجد المشاهد أشياء ليست “أساسية” في قصة الفيلم ولكنها كأشياء عارضة تلفت النظر لحالة اجتماعية وأنظمة سياسية غير سوية.
فسنلاقي مرضى يدخنون السجائر في العيادات، أنظمة اجتماعية وصحية منهارة، بيروقراطية صارمة في الهيئات الحكومية، فرق درجة ثالثة تلعب بشباب هواة يرتدون قمصان منتخبات الأرجنتين والبرازيل مثلًا، وعجائز بشعور بيضاء يبحثون عن إعالة، “هوليجانز” مجانين كرة قدم يفرغون طاقتهم بالكرة، تأمينات صورية، استفحال للمال على حساب الإنسان، خدمات اجتماعية سيئة، وظلم لأشخاص منهارين كان المجتمع سببًا في انهيارهم، تجارة مخدرات على نطاق واسع، أليس هذا أشبه بأحوالنا نحن هنا؟
جذور كين لوتش والتأثر بالمدارس السابقة
ولِد كين لوتش في الـ17 من يونيو/حزيران عام 1936، وترعرع في خضم اشتعال الحركات الفيلمية الثورية والموجات السينمائية الجديدة ما بعد الحداثية، وقد تأثر كثيرًا بهذه الموجات كأي شخص محب للأفلام وقتها، درس كين لوتش القانون ثم توجه للتمثيل وبعدها الإخراج السينمائي.
عاصر كين لوتش حقبة فيلمية ليست بالعادية، لأن كل الجيل الجديد من المخرجين الإنجليز أو كما كان يطلق عليهم “الموجة البريطانية الجديدة”، الذي كان بينهم لوتش نفسه، تأثروا بشكل أو بآخر بالحركة التوثيقية البريطانية التي شملت بريطانيا بقوة التقنية الجديدة وطريقة السرد المختلفة، في حماسة تجريبية كانت فريدة من نوعها في ذاك الوقت، التي كان رائدها المخرج جون غريرسون بفيلمه الوحيد الذي أحدث تأثيرًا كبيرًا عام 1929 “Drifters” الذي بدوره أضاف للسينما البريطانية رونقًا واقعيًا جديدًا واقترب أكثر من مشكلات الإنسان وحكاياه، وهذا التأثير انطبع على الجيل الجديد من المخرجين، مرورًا بـ”هيروشيما حبي” لآلان رينيه وصولًا لكين لوتش الذي تعتبر كل أفلامه قصصًا حقيقية.
وعندما نتحدث عن لوتش يجب ألا نغفل حيثيات عصره، فهذا الاضطراب الوجودي الفوضوي، جعل الأفراد على الحافة، بعد صدمتين متتاليتين، حربٍ عالمية وقنبلة ذرية، فالعالم لم يعد كما كان، تلك الصدمة الحضارية الصاعقة، شكلت وعي جيل كامل، ليجعل هذا الجيل عصره ـ بين بين ـ أقصد أنه يقع بين الكوميديا والتراجيديا، وما بينهما تقع “التراجيكوميديا”، ويقول الكاتب جون أور في كتابه “السينما والحداثة”:
“فعصر الصناعة الكاملة يصعب نمذجته كعصر للمقاومة البطولية أو السمو النبيل فهو تجزيئي شكي، مؤلم وأحيانًا يبدو عديم الشكل، ومع ذلك فهو مضاد للرومانسي، مستقل عن الآلهة، وهو حتى مع فساد أبنيته الأخلاقية، إلا أن الحياة يجب أن تستمر”.
لا يزال حتى الآن يحافظ على حضور اجتماعات لجمعيات وأحزاب يسارية ماركسية، ويلقي الخطَب، ويحدث صخبًا يموج بقوة، فيحرك مياه الحكومة الراكدة
عصر ما بعد الحداثة هو عصر مميكَن، همّش فيه الإنسان بشكل لفت انتباه جميع رائدي الفن والفلسفة، ورغم ذلك كان عصر انفتاح سينمائي كبير وضخم، فدفع الضيق والتكدس الكلاسيكي المخرجين للخروج نحو الشوارع، وأضحى ذاك العصر يتسم باللامركزية المكانية، نتيجة لهذا، خرج لوتش في الشوارع يبحث عن أقاصيصه المثيرة للشفقة، لكي يتلوى ويتمطى بشخوص كاريكتورية بعض الشيء، ولكنها حقيقية، تندفع ألسنتها بكوميديا وفيرة، مناقضة للتشاؤم والتراجيديا المحزنة التي توصم العالم. الخوف من المستقبل انطبع في قلوب هذا الجيل الذي خرج من رحم المأساة. ويقول الكاتب جون أور عن ذلك في كتابه “السينما والحداثة”:
“يعتبر كل من التشاؤم والخوف من المستقبل، وهدف الحياة إجمالًا في الحاضر ونسيان الماضي هي رموز لأربعة عشر عامًا من الحرب الباردة، ويصعب فصل الثروة المادية عن القص ــ الفرعي للخوف”.
إذا فزمن اللابطل، سيلفظ الإنسانية بعيدًا، كأثر جانبي لتراكم الخوف والظلم والحروب، وخوفًا من ضياع العيش، وهذا تصارع واضح حتى اللحظة الراهنة في عالمنا، ويقول الكاتب أيضًا عن الخروج بالكاميرا لمستوى آخر:
“استطاعت السينما أن تمسك بالتأثير الحقيقي للأشكال المتغيرة للحداثة فقط مع تسلسل موقع ـ التصوير والتخلص من ـ استخدام ــ الإستوديو، وأن يركّب على علاقات المكان والزمان عري تحليلي نفسي للاوعي وإيقاعات سريعة وطبوغرافية مركبة أكثر للحياة المدنية”.
هذا الانتقال الثوري بالصورة نحو الشوارع، صنع من كين لوتش ما هو عليه الآن، فمحاولته للتمثيل التي فشلت، وتعرفه على الكثير من المخرجين الذين ينتمون لليسار، جعله واحدًا منهم وما زال حتى الآن يحافظ على حضور اجتماعات لجمعيات وأحزاب يسارية ماركسية، ويلقي الخطَب، ويحدث صخبًا يموج بقوة، فيحرك مياه الحكومة الراكدة.
صورة من فيلم I Daniel Blake
هل هو مخرج يساري؟
يقول الفنان السريالي رمسيس يونان في كتابه “دراسات في الفن”، تحديدًا في فصل “اليمين واليسار في الفن”:
“ولا يكون للحلم الماركسي معنى إلا إذا اعتقدنا أن في الإنسان شيئًا لا تفسره علاقة الإنتاج، بل لا يكون لهذا الحلم معنى إلا إذا اعتقدنا أن هذا الشيء هو أهم ما في الإنسان.. والحق أن الاقتصاد يؤثر ولكن لا يفسر، وذلك حتى حينما يكون لتأثيره دور حاسم، وفي تقديرنا لنوع هذا التأثير ومداه، لم يعد بوسعنا اليوم أن نقبل تلك المعادلات البسيطة، التي كان من الممكن أن يقنع بها مفكر عاش من نحو قرن من الزمان”.
يمكننا تطبيق اقتباس يونان على كين لوتش، فلوتش لا يقنع بما ترمي به الحكومات للشعوب، من تبريرات وأيدولوجيا للسيطرة على العامل والأخذ به في منعطف العمل من أجل الدولة والبلد، إنه يلقي كل ثقله باتجاه كفة العمال التي تدفعه لمهاجمة المنظومات الحكومية.
هاجم لوتش في فيلمه الأخير “Sorry We Missed You” الوضع الاقتصادي لحكومته وسوق العمل الحرة التي لا ترتبط بعقد يحترم آدمية العامل ويؤمن له حقه، موجهًا لوتش لطمة كبرى للحكومات والأنظمة الرأسمالية، بعد استفحال العقود قصيرة الأجل، أو بمعنى آخر الأشخاص الذين يعملون لحسابهم الشخصي، كما يطلق عليهم “Zero Hour Contract”، وهذا على النقيض يلقي العبء كله على العامل، بينما يجلس مالك الشركة على الكرسي ويعد النقود.
فيما يحاول لوتش في كل أعماله تسليط الضوء على الظلم البيّن والحاجة الاجتماعية والانهيار الذي يعمّ الطبقة العاملة والمتوسطة، ولكن هل لوتش يساري الفن؟ ذكر رمسيس يونان في الكتاب، أن ليس ثمة شيء يدعى فن يساري وإلا يمكن أن نطلق على الفن كله يساري أو كله يميني، كما يمكن أن نطلق على الفن كله واقعي أو غير واقعي، وهذه نظرة خائبة، فمن وجهة نظره يجب النظر للفن من حيث المضمون لا الموضوع، ونميزه بمقتضى مضمونه الحقيقي، وليس رموزه الخارجية.
لذا ربما لوتش يساري النزعة، لكن مضمون أفلامه يعبر عن أكثر من ذلك، فلوتش يعبر عن بنية مجتمعية كاملة، تسود العالم آنذاك، ربما مركزية القضية وأهميتها هي ما أحالته إلى فنان يساري، لكنه يسعى لأكثر من ذلك، ربما الجمال، ربما العدالة، أنه يسعي أن يكون تعبيرًا عن المجهول، ونبّاشًا لما يصمت عنه الإعلام في حق الطبقة العاملة، ويؤمن أن للناس صوتًا قويًا وواضحًا، فهو لا يسعى أن يكون صوتهم كما يفهمه البعض، فيدور بالكاميرا في الأنحاء، ويوجه الصفعات للحكومة.
صورة من فيلم Land And Freedom
صناعة الفيلم عند لوتش
مسيرة لوتش في عالم الأفلام تزيد على النصف قرن، لذلك عندما نتحدث عن الآلية التي يتبناها لكي يصنع أفلامه يجب أن نتحرى الدقة، ونتوخى الغاية بعناية، وهذا لأن ما وراء الفيلم يتغير مع تغير الزمن، ويتشكل لكي يناسب الموضوع الذي يتغير هو الآخر، لكن لحسن الحظ هناك عدة أشياء لا يحب لوتش أن يغيرها أو كما يقول البعض يتبناها بشكل جعلها تلتصق به بشكل مهم توضيحه في العملية الإبداعية.
أول شيء يجب التحدث عنه هو الثنائيات التي يشكلها لوتش مع كاتب السيناريو خاصته، فعملية كتابة السيناريو بالنسبة له تتربع على عرش الفيلم، لذلك يجب أن يفهم كاتب السيناريو متطلبات الفكرة وعناصر السرد الصحيحة التي تناسب طريقة العرض الذي يتبناها لوتش، وأنماط فيلم لوتش ليس من السهل التعود عليها، لذلك كان يلجأ للعلاقات طويلة الأمد مع كتاب سيناريو معينين، لا يخرج عن دائرتهم إلا نادرًا.
فمنذ بداية حياته المهنية، كان يتعامل مع السيناريست والكاتب جيم آلن حتى وفاته في التسعينيات، فاتجه إلى كاتب رائع آخر يعمل معه حتى يومنا هذا، وهو بول لافيرتي، وأنجز معه أكثر من عشرة أفلام كاملة، وهذا ينعكس بوضوح على المستوى الثابت الذي يقدم به أفلامه، وجدية موضوعاته، بالإضافة لطرق طرح الأفكار الذي يعتادها الجمهور في أفلامه، وبذلك تتكون نوع من الألفة بين الصانع والمتلقي.
الشيء الثاني هو اختيار لوتش لممثلين هواة ـ أحيانًا بالكامل ـ من أجل تمثيل أدوار ربما تحتاج لموهبة رصينة وتصلح لأقوى الوجوه المشهورة على الساحة، وهنا يجب أن نشد على نقطة الألفة بين الصانع والمتلقي الذين ذكرناها سابقًا، فلوتش يوليّ أهمية قصوى في عملية اختيار الممثلين، ويعتبرها ثاني أهم عملية بعد كتابة السيناريو، وقد أدلى بذلك في حوار وثائقي أجري معه عام 1998 مباشرة بعد إطلاق فيلمه الرائع (My Name Is Joe):
“إيجاد الشخص المناسب شيء غاية في الأهمية، عليك إيجاد شخص يستطيع التوحد مع الدور، بجانب إضفاء التأثير المناسب على المشاهدين، جعلهم يتعاطفون معه ويهتمون به، وهذا يحدث بطريقة لا إرادية، ليس بوعي وجهد منظم”.
يتغلب لوتش على تلك النقطة بطريقة يستخدمها منذ وقتٍ طويل، وهي عدم إعطاء السيناريو الكامل لأي ممثل وخاصة إذا كان غير محترف
لذلك فهناك طريقة خاصة ومميزة للتعامل مع الهواة، لا يستطيع التمكن منها إلا فنان حقيقي، يتمكن من تفجير الموهبة والعاطفة داخل أشخاص لم يقفوا أمام الكاميرا من قبل، ويقول الممثل الذي عمل مع لوتش عدة مرات ريكي توملينسون عن ذلك:
“إنه فنان حقيقي، لأنه يستطيع التعامل مع هواة، لم يعتادوا صناعة الأفلام، كل ما يعرفوه هو محاولة السير وراء التعليمات، لا يفهمون المصطلحات الفنيّة الخاصة بهذه الصناعة، مثل شخص واحد في اللقطة (One Shot)، أو اثنين في اللقطة (Two Shot)، لقطة قريبة (Close Up)، القطع (Cut)، ولكنه يخرج أفضل ما فيهم”.
يتغلب لوتش على تلك النقطة بطريقة يستخدمها منذ وقتٍ طويل، وهي عدم إعطاء السيناريو الكامل لأي ممثل وخاصة إذا كان غير محترف، بل ـ وكما تؤكد الممثلة لويز غودال في الوثائقي (8) ـ يصور الممثلين كل يوم بيومه، بمعنى أن الممثل يذهب لمنزله، ويرسل له لوتش كل يوم ورقة أو ورقتين مرتبطتين بما سيؤديه اليوم في الفيلم فقط، ثم يغادر ويعاود الكرّة مثل كل يوم.
وهذا يساعد الممثلين الهواة على الحفظ وتأدية المطلوب بشكل سهل وسلس، لكنه على النقيض لا يعرف ما سيحدث في اليوم التالي، وهذا يعطي الحريّة للمخرج في التغيير في ترتيب المشاهد لخدمة غرض معين في الفيلم.
صورة من فيلم Looking For Eric
أظن أن لوتش من القلائل الذين لا يستعينون بنجوم كبار أو محترفين من أجل أن يمثلوا أنهم ضعفاء وفقراء ومنسحقون، إنه ببساطة يجلب شخص مختَرَق من النظام، مضغوط من جراء العمل، منسحق تحت وطأة البيروقراطية والروتين والآلة الرأسمالية، إنه لا يطلب منه أن يمثل الظلم أو الحاجة، فهو بالفعل يعاني من ذلك، وهذا بالضرورة يساعد في خفض الميزانية للحد الأقصى، ويقول لوتش عن ذلك:
“الكاميرا تلتقط أكثر من جسد يظهر على الشاشة، الكاميرا تلتقط وتأخذ من هويّة الشخص نفسه، تستطيع الكاميرا أن تكشفك، أن ترى ما أنت عليه، طريقتك في الحركة واستخدام اليدين، لون بشرتك، ويجب أن تعرف إذا كان الممثل يستطيع أن يقول بالمهمة ـ على الحقيقة ـ أم لا، لكي يتمكن من إقناع المشاهدين”.
الشيء الثالث الذي يجب ذكره هو مفاجأة الممثلين بمشاهد لم يعرفوها، يحكي الممثل ريكي توملينسون عن مشهد الاستحمام في فيلم Riff-Raff عندما كان في حوض الاستحمام، أخبره لوتش أن عليه أن يخفض صوته حتى لا يسمعه أحد، وهذا كل ما حرص عليه الممثل، ولكنه تفاجأ بثلاث نساء يدخلن عليه وهو عارٍ، والحق أن النساء تفاجئن مثلما تفاجأ الممثل، لأنهن لم يعرفن ماذا سيجدون في الغرفة، وخذ على هذا النمط الكثير من المشاهد. بجانب ذلك، فلوتش دائمًا ما يهدم أساس أسطورة الممثل الوسيم، فهو ليس من أتباع نظرية الممثل ذي الوجه الوسيم والممثلة ذات الجسد الرائع، إنه فقط يريد أشخاصًا ليسوا أجمل الأفراد، لكنهم يؤدون الدور كما يجب أن يكون.
بالإضافة لهذه النقطة، فلوتش يترك العنان لأحاديث سياسية تمامًا لتأخذ مساحة كبيرة في بعض الأفلام، وهذا يثبت يقينيًا أن لوتش مخرج ذو نزعة سياسية وهوى اجتماعي دانٍ للفرد العادي، وبذلك يؤسس لحوارات سياسية بين الشخصيات، سواء كانت في سياق تاريخي أم لا.
وعلى ذكر هذه النقطة فلوتش لم يبتعد عن التاريخ في أفلامه، وصنع واحدًا من أفضل أفلامه بشهادة النقاد (Land And Freedom) من إنتاج عام 1995، ليؤرخ لحقبة مكتظة بالأحداث السياسية والمناوشات الحربية وفرض النفس بالقوة، حقبة الحرب الأهلية الإسبانية والجانب الجمهوري الذي يحاول دفع كرسي فرانكو والقوميين، بالمشاركة مع الكثير من الفصائل السياسية منهم الشيوعين والماركسين والأناركيين، حقبة شائكة، مزدحمة بالأحداث السياسية الصاخبة والمؤثرة.
بالإضافة لفيلمه الحاصل على سعفة كان الذهبية، الذي تبعته الحكومة الإنجليزية بحملة هجوم غير مبررة على لوتش الذي خاض في قصة الحرب الأهلية والاستقلالية الأيرلندية بكل أمانة ووضوح على حساب رضا الحكومة الإنجليزية، ربما لأنه أظهر الغازي كشخص طاغي وغير مستحق لما يفعل.
صورة من فيلم Kes
لذلك فلوتش لا يلعب على وتر الميلودراما المبتذلة واجترار الدموع، كما يفعل البعض، صحيح أنه يريد المشاهدين أن يتعاطفوا مع البطل، لكن الغرض ليس خلق لحظة الميلودراما الخارقة للعادة، بل جعل المشاهدين يفهمون القضية بشكل أعمق، ليعرفوا مدى أهمية الفكرة، أنه يشكل وعيًا بالحقوق ـ سواء كان هذا الوعي سياسيًا أم اجتماعيًا أم حتى اقتصاديًا ـ عن طريق التضاد.
السمة الأخرى لأفلام لوتش هي التحضير وعمل مئات المقابلات الشخصية والدراسات الميدانية من أجل بحث المشكلة والوقوف على مفاهيم وعقَد يمكن أن يدور حولها الفيلم بمصداقية وأمانة فنية يستمدها من تجارب واقعية حدثت بالفعل مع أشخاص مرّوا بقعر الهاوية، فسينما لوتش غاضبة وصاخبة على الدوام، وليست راضية عن رداءة تلك التجارب، ففي فيلمه الأخير (Sorry We Missed You) قام لوتش وبول لافيرتي بمئات المقابلات، مع عمال شاحنات النقل السريع، الذين يعملون بعقود مفتوحة، ومدى تأثير ذلك على حياتهم وعلى أسرِهم، وما النكبات والوقائع المستجدة والمؤثرة في حياتهم العملية، ويأخذ كل تلك المعلومات، ويفحصها جيدًا، ليخرج لنا بول لافيرتي بسيناريو محبوك ومميز، ويخرج لوتش بسينما نقدية تؤدي غرضها بالمجتمع.
بجانب الحب الكبير الذي يكنّه لوتش للسينما، فإنه لا يتخلى عن كونه إنجليزيًا، فتشغل كرة القدم حيزًا لا بأس به من حياته، وذاك بدوره يؤثر على أفلامه في مواضع كثر، التي تظهر فيها كرة القدم كموضوع جانبي وضرورة لا بد منها في حياة الرجل الإنجليزي العادي، فلوتش الذي ما زال مشجعًا مخلصًا لفريق Bath City F.C الذي يلعب في درجة الهواة ومعجبًا بفرق الدرجة الأولى خصوصًا اليونايتد، محصلته كانت إخراج فيلم (Looking For Contana 2009) الرائع.
ختامًا.. من المفيد تسليط الضوء على هذا النوع من المخرجين الذين يمارسون السينما كصنعة نقدية وينظرون العالم بعين تمايز المحاسن من المساوئ، ويقف ـ حتى لو دون نيّة ـ لأنظمة وحشية شبه “كفكاوية”.