هل خطر ببالك أن الطبق المفضل لديك قد يكون حاملًا لمدلول سياسي أو اجتماعي ما، وهل خطر ببالك أن التحلية الجميلة التي تعشقها قد تكون احتفالًا باغتيال سياسي!
المطبخ البشري خضع لعدة عوامل في مسيرة تطوره بين الصدفة والتجربة والتحسين ولكن بعض الأطباق صنعت بمدلولات اجتماعية وسياسية. سنحاول في هذه المادة سرد قصص صناعتها لأول مرة.
المنسف الكركي الأردني
في القرن التاسع قبل الميلاد كان يحكم الملك ميشع مملكة مؤاب العربية التي تمتد على الساحل الشرقي للبحر الميت، من شمال مدينة الكرك إلى مدينة الشوبك في الأردن.
وخلال حربه مع بني إسرائيل التي تكللت بالنصر عليهم عام 840 ق.م. ولدت قصة المنسف الكركي الشهير، حيث طلب الملك من شعبه طهي اللحم باللبن في يوم معين ليتأكد له أن شعبه العارف بالتقاليد اليهودية معاديًا لليهود ومخالفًا لعقيدتهم التي تحرم هذا النوع من الطعام، وبذلك ولد أول منسف كركي.
وثق ميشع انتصاره ليس بالمنسف المتوارث إلى اليوم فقط، لكن بمسلة هي الأقدم في بلاد الشام حيث اكتشف هذا النقش الأثري المهم على يد أحد الرهبان الألمان العاملين في مدينة القدس عام 1868 وهي محفوظة حاليًّا في متحف اللوفر بباريس.
لذلك فإن أكلة المنسف إضافة لما تمثله من كرم الضيافة العربية الأردنية، فإنه يمثل أحد مظاهر الصراع الثقافي والاجتماعي ويذكرنا دائمًا بأن محاولة السطو على الأرض واستضعاف الآخر ليست وليدة اللحظة واليوم.
مخبوز الكرواسون الفرنسي
عندما نقضم فطيرة الكرواسون الفرنسية صباحًا مع قدح الشاي، فإننا نؤرخ دور خباز نمساوي في منع سقوط فيينا في يد العثمانيين! هذه الفطيرة الشهيرة عالميًا التي نقلت من النمسا إلى فرنسا ومنها إلى العالمية تحمل في طياتها قصة من غرائب قصص صناعة الطعام في العالم.
ففي أثناء حصار القوات العثمانية لمدينة فيينا وصعوبة تدمير الأسوار الشاهقة للمدينة، بدأ العثمانيون يحفرون نفقًا تحت المدينة، وكادوا يحققون النجاح الكامل في حفر النفق، وفي أثناء نوم أهل المدينة سمع خبازٌ صوتًا يأتي من الأسفل، وبناءً على ذلك أخبر العساكر النمساويين، فتسبب في إفشال محاولة إسقاط المدينة.
وبعد زوال الحصار العثماني، سُئل الخباز ما إذا كان يريد جائزة، لكنه أراد صنع الكعك على شكل هلال تخليدًا لما فعله، حيث كان الهلال شعار الدولة العثمانية آنذاك، فأراد الخباز أن يتَذكر دائمًا هزيمة المسلمين كلما قضموا وأكلوا الهلال المصنوع من العجين، وتمت تسمية هذا الكعك بالهلال أو الكرواسون، وبهذه الطريقة ظهر الكرواسون.
تعددت تفاصيل القصة وأشكالها ومصادرها بين مؤيد ومعارض، لكن مصادر عديدة تؤكد أن فطيره الكرواسون صنعت على شكل هلال تخليدًا لانتصار حقق ضد المسلمين في إحدى المعارك الأوروبية.
طبق الشمام المحشي العثماني
وصلت الدولة العثمانية في عهدها الذهبي من الرخاء والرفاهية للشيء الكثير ولعل قصة طبق الشمام المحشي تعكس أحد وجوه الترف الذي وصلت له السلطنة.
في عام 1539 أراد طباخ القصر العثماني تقديم طبق مميز بمناسبة حفل ختان ولدي السلطان سليمان الأول، محاولًا صناعة طبق يجمع اللحوم والفواكه فخرج بوصفة لطبق “Kavun Dolması” وهو البطيخ الأصفر المحشو باللحم والمكسرات جامعًا بذلك وجبة دسمة مع التحلية في ذات الوقت.
الطبق ما زال يقدم في عدد من مطاعم إسطنبول الفخمة إلى يومنا هذا، ليذكرنا هذه الطبق الفريد بأشكال موائد القصور السلطانية في الدولة العثمانية.
طبق باييلا الإسباني
على الرغم من مغادرة العرب للأندلس ومحاولة طمس كل ما يتعلق بثقافتهم وما خلفوه في تلك البلاد من موروث، فإن طبقًا عربيًا تسلسل إلى قلوب الإسبان من تلك الحقبة التاريخية فلم يغادر موائدهم إلى اليوم.
تدور قصة طبق الباييلا من أيام الخلافة الأندلسية وموائد القصور، فبعد أن يأكل الملوك والأمراء الأندلسيين الأكل من كل ما تشتهي الأنفس مثل السمك واللحم والدجاج والأرز، كان يتم وضع بقية الأكل ليأكله الفقراء، بعد أن يكون قد اختلط الأرز بالسمك والدجاج واللحم فأصبحت الباييا أو البقية، الذي اشتق منه فيما بعد لفظ (La Paella).
ويقال إن أحد الحكام الأندلسيين دخل إلى المطبخ فوجد الخدم يتناولون طعامهم، فتذوقه ووجده لذيذًا، وسألهم عن اسم الأكلة، فقالوا له إنها مجرد بقية، أي بقايا الطعام تم مزجه في صحن واحد، ومنذ ذلك الوقت أصبح الحاكم الأندلسي يطلب من الطباخين أن يعدوا له الطبق نفسه، حتى أصبحت أكلة قائمة بذاتها، أساسها الأرز.
وبغض النظر عن التفاصيل الدقيقة لقصة صناعة الطبق فإن الباييلا دليل قوي على عظم تأثير العرب المستمر في الأندلس ثقافيًا واجتماعيًا حتى غدا أشهر وأفضل أطباق إسبانيا اليوم من بقايا موائد الأندلسيين سابقًا.
حلوى أم علي المصرية
من منا تخيل أن الفرح بنجاح الاغتيال السياسي هو السبب وراء صناعة أشهى أطباق الحلويات المصرية! حيث تنسب فكرة صناعة الطبق إلى زوجة عز الدين أيبك، وهو أول سلاطين المماليك بعد الأيوبيين، وهو زوج شجرة الدر، الملقبة بعصمة الدين أم خليل التي تزوجته بسبب رفض مماليك بلاد الشام أن تتولى حكمهم امرأة، وبعد تزوج عز الدين أيبك من شجرة الدر طلق امرأته الأولى أم علي وتبرأ من ابنه، ثم بعد فترة قرر الزواج من غيرها فكادت له شجرة الدر وقتلته.
عندما سمعت أم علي بمقتل أيبك دبرت مكيدة للانتقام من شجرة الدر لتنصيب ابنها علي بن عز الدين أيبك سلطانًا، وبعد نجاحها بقتل شجرة الدر أمرت أم علي بخلط كل الدقيق مع السكر والمكسرات والحيب ووضعه على الخبز، وتقديمه للناس، فانتشر الطبق من وقتها وسمي باسم من أمرت بصناعته “أم علي”.
وقصة الطبق الغريبة والدموية تعكس لنا حجم وقدرة النساء في صناعة الحدث السياسي في التاريخ المصري ولعل لذة طبق أم علي لا ينسينا أنه صنع فرحًا باغتيال أحد أشهر من حكم مصر من النساء على مدار تاريخها الطويل.
حساء البرمة الموصلية
يمكن أن نطلق على طبق البرمة الموصلية طبق المقاومة والصمود، فالطبق الذي يحتوي على مزيج من البقوليات والحبوب كانت فكرة صناعته هي الاستفادة من بقايا مخازن الحبوب لصناعة وجبات دسمة للاستمرار في الصمود أمام الحصار!
ففي عام 1743م حاصر نادر شاه الصفوي الموصل شمال العراق بغرض إخضاعها للدولة الصفوية، لكن صمود المدينة حال دون سقوطها وفي أثناء الحصار أمر والي الموصل حسين باشا الجليلي بجمع بقايا الحبوب والبقول من مخازن المؤونة المنزلية وطبخها معًا للاستفادة من بقايا الحبوب في منح الجنود والأهالي الطعام المغذي والاستمرار بالمقاومة.
وسميت أكلة البرمة للوعاء الذي كانت تطبخ فيه “البرمة” وهو وعاء فخاري توضع بقايا الحبوب والبقوليات المجففة فيه مع إضافة الماء ويوضع على الموقد للطبخ، ليكون حساءً عالي الطاقة لما يحتويه من مصادر متعددة مجتمعة في طبق واحد.
في الختام يبقى السؤال هل ستغير نظرتك لطبق ما بسبب قصة صناعته الأولى؟ وهل يمكن للذوق الإنساني أن يتغير نتيجة ما تحمله بعض الأطباق من رسائل سياسية أو اجتماعية؟