تستعد تونس، مهد الربيع العربي، منذ المصادقة على دستور الجمهورية الثانية، على وقع الاستعداد للانتخابات القادمة التي ستعلن انتهاء آخر فصول المرحلة الانتقالية والانطلاق في مرحلة المؤسسات الدائمة … انتخابات على قدر الرهان المطروح إليها .. تُعدّ انتصارًا للحلم الديمقراطي التونسي واستجابة لسؤال الحرية والكرامة الذي هتفت به حناجر الآلاف من المنتفضين ذات شتاء ساخن.
ألف وخمسمائة قائمة انتخابية للتشريعية … سبعون مترشّح للرئاسية .. وأكثر من خمسة ملايين ناخب مُسجل، هي عناصر تكوّن المشهد الانتخابي التّونسي اليوم .. تشريعية تعقٌبها دورة أولى للرئاسية ثم دورة ثانية في حالة عدم الحسم هي مراحل اتّفق عليها الفاعلون في الحقل السياسي بتونس.
ولئن أسس الدستور التونسي الجديد لنظام برلماني مٌعدل كمنظومة حُكم أعطى من خلالها صلاحيات تنفيذية مُتقدمة للحكومة بالمقارنة مع منصب رئيس الجمهورية، إلّا أن الرأي العام كان اهتمامه أكبر بسباق الرئاسة، وهذا مفهوم بالرجوع إلى الإرث السياسي القريب الذي كان يختزل الحكم في كرسي قرطاج.
الرئيس .. في الدستور
بالرجوع إلى الدستور الذي صادق عليه نواب المجلس التأسيسي بإجماع عريض بلغ المائتي صوت من أصل مائتين وسبعة عشر صوتًا ممكنًا يوم 26 جانفي 2014، نجد أنه وقع التطرق إلى مهمة الرئاسة في باب السلطة التنفيذية على امتداد 20 فصلاً ضبطت ملامح هذه المهمة وحدود تماسها وتفاعلها مع الرأس الثاني للجهاز التنفيذي للدولة وهو الحكومة، ولئن تمكنت الأخيرة من جانب مهم من السلطات ذات العلاقة بالواقع المعاش للمواطن وبالتسيير الإداري لدواليب الدولة، منح الدستور لمنصب الرئيس صلاحيات تجعل منه صاحب الحسم في كل ما له علاقة بأمن البلاد وسياساتها الخارجية، كما تطرق إلى سيناريوهات معينة تتيح له عرض الحكومة على مجلس نواب الشعب لتجديد الثّقة فيها أو إقالتها، ووضعيات أخرى تمكنه من حل مجلس النواب نفسه.
بالإضافة إلى ما سبق، ورغم عدم إشرافه المباشر على السياسات العامة للبلاد في المجالات المعاشية، كفل الدستور لرئيس الجمهورية حق اقتراح مشاريع القوانين للحكومة أو لمجلس نواب الشعب، كما مكنه من استفتاء الشعب حولها لتصبح سارية المفعول في حال تزكيتها شعبيًا.
في ذات السياق، ألزم الدستور أن تكون الاجتماعات الوزارية التي تخوض في مسائل الأمن القومي أو العلاقات الخارجية، برئاسة الرئيس، كما أتاح له الحضور في المجالس الوزارية العادية التي يترأسها متى حضر.
انطلاقًا مما سبق، نخلص إلى أن دستور الجمهورية الثانية، على عكس الدستور الصغير الذي نظم إدرة الشأن العام أثناء الفترة الانتقالية، مكن الرئاسة من إمكانية لعب دور تعديلي في دولة ما بعد الثّورة وخاصة من إمكانية خلق توازن في النفوذ مع رئاسة الحكومة؛ وهو ما يجعله – كرسي الرئاسة – من الأهمّية بمكان.
الرئيس … مُجتمعيًا:
بُعيد استقلال البلاد التّونسيّة من الاستعمار الفرنسي يوم 20 مارس 1956، اتّجهت البلاد نحو تكريس نظام رئاسي بتعيين “الحبيب بورقيبة” رئيسًا للبلاد .. نظام رسّخ وقتها زعامة الفرد وسرعان ما انحرف إلى “سلطويّة الأب” الذي منح لنفسه حقّ حكم البلاد متى الحياة؛ لينقلب النظام على نفسه فيما بعد إبّان انقلاب 7 نوفمبر 1987 الذي أفضى لتعبيرة دكتاتورية أخرى كان لها من العناوين نظام السابع برئاسة الفار “زين العابدين بن علي”، نظامين قد لايتشابهان في التفاصيل إلّا أنهما اتّفقا، بحكم وحدة الرحم، على تجميع السلطات بيد الحاكم بأمره رئيس الجمهوريّة .
سياسات وصور نمطية تعودت عليها عقلية التونسي حتى اندلاع الثّورة التي زعزعت صنم الرئيس الذي لا يًقهر زعزعة ساهم في تواصل مداها صعود الدكتور “المنصف المرزوقي” المناضل الحقوقي، على رأس هذه المُؤسسة وحاول جاهدًا أن يخرق ذلك النمط الذي تعوّده النّاس حول رئيس الجمهورية؛ مما كان سببًا في حبر كثير سال منتقدًا بل وساخرًا من سلوك الرئيس المؤقت وكيفية إدارته لهذه المؤسسة.
خلافًا للمُتوقع، ومن خلال متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، لم يُؤثّر ما سبق ذكره من الهزات التي تعرضت لها الرئاسة كمؤسسة في اهتمام التونسي بها، فرغم ثقل الصلاحيات الموكولة للحكومة التي يفرزها مجلس نواب الشعب الذي ستنتجه الانتخابات التشريعية، وهي الاستحقاق الانتخابي الأول، طغت أصداء الترشحات للانتخابات الرئاسية على المشهد الإعلامي ككل وعلى حديث الشارع التونسي وهو ما يعكس تجذّر هذه المؤسّسة معنويًّا في الذهنية الجمعية التونسية وما يؤكد أنّ تغيير الأخيرة يحتاج سنوات ولا يمكن لتعديل دستوري أن يغير الكثير.
سبعون مُترشحًا … ولكن
أًغلق باب الترشحات للانتخابات الرّئاسية يوم الإثنين 22 سبتمبر وقد أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات على تحصل مكاتبها على 70 ملفًا سيتم درس مدى استيفائها للشروط، رقم كبير لم تتعوّد عليه البلاد التونسية التي مرت بسنوات عجاف شهدت خلالها انتخابات صورية مُزيفة .
رقم من شأنه أن يًشتّت انتباه النّاخب ولا ريب، لكنه في جانب منه يًمثل الجانب المضيء الذي قدمه النّموذج التونسي كأول ديمقراطية عربية صرفة تجعل من الصندوق قولاً فصلاً وتتيح لجميع مواطنيها الحق في التقدم لموقع المسئولية .
وبالعودة إلى هذه الترشحات، يمكن فرزها أوليًا وتجميعها ضمن مجموعات حسب محاور فرز أولية أهمها الجدية من عدمها، إذ يسهُل على المتتبع أن يلاحظ بأن عددًا كبيرًا من المترشّحين سيخوضون هذه الانتخابات إمّا من أجل تسجيل الحضور أو لتحقيق رغبة شخصية في خوض غمار هذه المنافسة رغم كونهم شخصيّات مغمورة فاقدة لأي سند حزبي أو شعبي.
من جهة أخرى، نجد أنّ بعض المترشحين هم شخصيات حزبية معروفة، في حين أن البعض الآخر هم مجموعة من الشخصيات الوطنية المستقلة تخوض الانتخابات على أمل أن تحظى فيما بعد بدعم هذا الحزب أو ذاك.
بعيدًا عن جدية الترشح وشكله، وكنتيجة مباشرة لاختيار تونس الثّورة القطع مع مفهوم الإقصاء عبر إسقاط الفصل 167 الذي نص على حرمان أركان النظام القديم من المشاركة في الحياة السياسية، يلوح في الأفق محور فرز مضموني حقيقي وهو مرشحوا النظام القديم في مقابل مرشحي النظام الجديدة، وهو في الحقيقية المحور الأبرز الذي سيكون عامل حسم في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
سبعون مترشحًا نعم، بمحور الفرز الجدي يتقلصون إلى الثماني ترشحات على الأقصى، بمحور الفرز المضموني هم ركائز موقعة منتظرة، هي موقعة قرطاج، فإن منع القانون الانتخابي الخاص بالانتخابات التّشريعية فوز أي طرف باعتماده قانون أفضل البقايا؛ فإنّ قدر الانتخابات الرئيسية الحسم فالكرسي واحد والفائز واحد.
موقعة قرطاج .. صراع الجبهتين
الهروب من لحظة الحسم كانت السمة الأبرز التي صبغت المسار السياسي الذي قاد البلاد التونسية إبّان الانتخابات التي أفرزت مشهدًا أكتوبريًا مُترددًا مهزوزًا لا قدرة له على المُجازفة، مرحلة كان عنوانها إمّا التّعايش مع إرث الظلم أو اللااستقرار، فكان الخيار الأوّل .
بالرجوع إلى أهمية كرسي قرطاج بما منحه له الدّستور ومكانة هذا المنصب في وجدان التونسيين، يمكن لنا أن نستخلص قيمة هذه الانتخابات ومحوريتها في المشهد السياسي القادم الذي سيلي المرحلة الانتقالية التي تستعد للرحيل.
وبالرجوع إلى محور الفرز المضموني في علاقتة بملفات الترشح الجدية، يمكن لنا أن نستخلص أن الانتخابات الرئاسية ستمثّل أول فرصة حقيقية للمواجهة بين أنصار النظام القديم وأنصار الجديد، حتى نستكشف إن كانت الثّورة لازالت حية في وعي التونسيين أم أن سياسات الهرسلة المنظمة التي أبدع فيها الناجون من مقاصل الثّورة نجحت في تصوير نعمة الثورة على أنها نقمة.
موقعة قرطاج .. ستكون بحكم التاريخ وجغرافيا المشاريع صراعًا بين جبهتين: جبهة 18 أكتوبر التي مهدت الطريق للثورة ولدستور الثورة، وجبهة 7 نوفمبر التي تُبشر بانقلاب ديمقراطي وقح عبر صناديق الاقتراع، وهو لعمري من أشد الانقلابات قسوة ونعومة.
تختلف التكهنات باختلاف مواقع أصحابها لكن بالرجوع إلى معطى انقسام جبهة 7 نوفمبر التي تتقدم بأربع مترشحين من النظام القديم، يبدو جليًا أن جبهة النظام الجديد أمامها فرصة تاريخية للحسم من الدور الأول في حال اجتمعت على دعم مرشح وحيد، في انصهار مع مبادرة حركة النهضة التي صمت قادتها عن إعلان دوافع النشأة الحقيقيّة لهذه المبادرة وهي سد الطّريق أمام رجوع النظام القديم لسدة الحكم عبر منصب حساس وحاسم مثل منصب رئيس الجمهورية، فرصة تاريخية قد تضيعها أنانية الزعامة باعتبار أن المرور إلى الدور الثّاني سيضعنا حتمًا أمام مقارعة مباشرة بين مرشحي الجبهتين، مرور في طعم المغامرة غير محسوبة العواقب والتي تبتسم لهذا الطرف أو لذاك.