باشرت الحكومة الجزائرية شحن مختلف مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية استعدادًا لاستفتاء التعديل الدستوري المقرر في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في محاولة منها لدفع أكبر عدد من الناخبين للتوجه إلى صناديق الاقتراع عند حلول اليوم الموعود، وذلك بالتركيز على لعب وسائل الإعلام والمجتمع المدني دور بارز في التعبئة لهذا الاستحقاق، وتخييب توقعات معارضة ترى في الاستفتاء الدستوري استمرارًا لاستفراد السلطة بالقرار، وتنكرًا لمطالب حراك 22 من فبراير/شباط 2019 حتى إن تم الإشارة إليه في ديباجة الدستور الجديد.
ويشكل استفتاء التعديل الدستوري أول امتحان حقيقي للرئيس تبون الذي ربط تطبيق برنامجه الانتخابي وتحقيق “الجزائر الجديدة” التي يسعى إليها بالموافقة على الدستور الجديد المنتظر.
حملة واسعة
تعول الحكومة الجزائرية على حملة إعلامية ودعائية واسعة النطاق لتمرير مشروع تعديل الدستور، وذلك بتخصيص حيز كبير من برامج ومحتوى وسائل الإعلام لشرح ما تضمنته الوثيقة المطروحة للاستفتاء.
وباشر وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة عمار بلحيمر الأسبوع المنصرم سلسلة لقاءات مع الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعاية لمضمون التعديل الدستوري، فقد التقى كلًا من رئيس سلطة ضبط السمعي البصري الهيئة الحكومية المسؤولة عن مراقبة مضامين ما يبث في التليفزيون الحكومي والقنوات الخاصة، إضافة إلى مسؤولي وكالة الأنباء الجزائرية والوكالة الوطنية للإشهار والتليفزيون والإذاعة الحكوميين، والمؤسسة العمومية للبث الإذاعي والتلفزي والمركز الدولي للصحافة والمركز الوطني للوثائق والصحافة والصورة والإعلام.
وتكلم وزير الاتصال بصراحة واضحة أمام المسؤولين الحكوميين الذين يعينون بمرسوم رئاسي، بالقول إن كل هذه المؤسسات الإعلامية مطالبة بشرح مضامين التعديل الدستوري وتفسيرها للمواطن من خلال حملة إعلامية واسعة النطاق باستخدام الوسائل كافة بمشاركة الخبراء والجامعيين المختصين في القانون الدستوري.
وبسبب نسب مشاهدتها المتدنية، فضلت السلطة عدم التعويل فقط على ما تبثه المؤسسات الإعلامية الحكومية، خاصة أن بعضها ما زال يسير بعقلية قديمة، لذلك عقد وزير الاتصال أيضًا لقاءً آخر مع مسؤولي القنوات التليفزيونية الخاصة، التي ما زالت تعتبر حسب القانون الجزائري مؤسسات أجنبية لها مكاتب في الجزائر.
دعا بلحيمر كل وسائل الإعلام إلى التعبئة الشاملة لكشف كل ما تعلق بالشرح الواسع عن الدستور، تحسبًا للاستفتاء الشعبي
وبسبب هذا الوضع القانوني واحتكار السلطة للإشهار وسوق الإعلانات، تحرض وسائل الإعلام الخاصة على عدم الخروج عن الخط التحريري الذي تريده السلطة، كون أي تجاوز لهامش النشاط المسموح لها به سيجعلها مهددة بسحب رخصة الاعتماد أو غلق حنفية الإشهار عنها، لذلك التزم مسؤولوها بـ“التجند التام” لإنجاح هذا الموعد، وفق ما جاء في بيان لوزارة الاتصال.
ورغم أن المتعارف عليه إعلاميًا أن المؤسسات الخاصة تكون أكثر استقلالية في قرارها بشأن أي حدث داخلي أو خارجي، فإن وزير الاتصال لم يجد حرجًا في حث القنوات التليفزيونية الخاصة على “فتح منصاتهم للمجتمع المدني وأهل المعرفة من أجل كشف وتوضيح محتوى الدستور بالنقاش الهادف”، ودعا بلحيمر وسائل الإعلام كافة إلى “التعبئة الشاملة لكشف كل ما تعلق بالشرح الواسع عن الدستور، تحسبًا للاستفتاء الشعبي”.
وإن كان من حق السلطة، بل واجب عليها شرح مواد مشروع تعديل الدستور لدفع أكبر عدد من الناخبين للتوجه يوم الفاتح نوفمبر للتوجه إلى صناديق الاقتراع، خاصة بالنظر إلى التحديات السياسية والاقتصادية التي تعيشها البلاد، إلا أن عدم تمكين الأصوات المطالبة بمقاطعة هذا الاستحقاق سواء على منابر المؤسسات الإعلامية الحكومية أم الخاصة يجعل خطاب السلطة بتطبيق وتنفيذ المواد التي تضمنها المشروع بشأن الحق في الإعلام صعب التصديق على الأقل من المعارضين لخطط السلطة في تلبية مطالب حراك 22 من فبراير/شباط 2019.
تعويل
لإنجاح هذه الحملة الإعلامية الواسعة، تعول الحكومة الجزائرية بالإضافة إلى الإعلام على تنظيمات واتحادات المجتمع المدني التي ستتولى مهمة شرح مضامين الدستور المنتظر، وترغيب الجزائريين في التصويت لصالح اعتماده بعد أقل من شهر ونصف من الآن.
ووجه الرئيس عبد المجيد تبون الذي لا يريد أن يخسر أهم امتحان في برنامجه الانتخابي “تعليمات للسماح لأكبر عدد من الجمعيات وممثلي المجتمع المدني بالمشاركة الواسعة في النقاش بشأن محتوى الدستور الجديد الذي ستكون وسائل الإعلام هي الأساس فيه”، حسب ما كشف وزير الاتصال.
ويريد الرئيس تبون أن يعيد بعث دور المجتمع المدني في الجزائر، بـ”تفعيل روابطه مع مؤسسات الجمهور، كجزء من الديمقراطية التشاركية في خدمة المصلحة العامة للبلاد”، وبناء الجزائر الجديدة التي يرافع من أجلها.
ويشرح عمار بلحيمر أن المشاركة الشاملة في التعبئة للاستفتاء على الدستور يجب أن تضم كل ممثلي المجتمع من مواطنين ومجتمع مدني ونقابات وأرباب عمل وأحزاب سياسية معتمدة.
ويأمل الرئيس تبون الذي ترشح دون دعم حزبي أن يكون المجتمع المدني الذي يقوم بإعادة تشكيله القاعدة الداعمة له والخزان الشعبي الذي يستمد منه قوته خلال المواعيد الانتخابية، لذلك وجه أوامر بضمان مرونة تأسيس الجمعيات.
وفي يونيو/حزيران الماضي، أعلنت وزارة الداخلية تقليص مدة دراسة ملفات اعتماد الجمعيات إلى 10 أيام فقط، وهي التي كانت تدوم أشهر سابقًا، وبالخصوص ما يتعلق بتنظيمات قد لا يتوافق توجهها مع التيار الذي تريد السلطة أن تسبح فيه اتحادات المجتمع المدني.
الاستنجاد بالمجتمع المدني قد تكون له عواقب سلبية، بالنظر للماضي المشين للعديد من الجمعيات التي شوهت العمل التطوعي والجمعوي في عهد الرئيس السابق
وتشير إحصاءات، كشفها مستشار رئيس الجمهورية المكلف بالحركة الجمعوية والجالية الوطنية بالخارج نزيه برمضان إلى اعتماد 2635 جمعية على المستوى الوطني حتى أواخر يوليو/تموز الماضي، في ظرف لا يزيد على شهر، من ضمن أكثر من 4 آلاف ملف طلب أودع أمام الجهات المعنية، بينما يوجد 1376 طلبًا طور الدراسة.
لكن الاستنجاد بالمجتمع المدني قد تكون له عواقب سلبية، بالنظر للماضي المشين للعديد من الجمعيات التي شوهت العمل التطوعي والجمعوي في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، بتحولها لتنظيمات للمساندة المطلقة لعمليات الفساد التي تمت في السنوات العشرين الماضية والمتاجرة بالدين وبمختلف القيم مقابل الاستفادة من مليارات الدينارات التي أنفقت عليها دون حسيب ولا رقيب.
ولنجاح هذه المهمة التي أوكلت للمجتمع المدني، تكون السلطة مجبرة على تقديم وجوه جديدة لشرح مشروع تعديل الدستور، والتخلص من الخطاب القديم الذي صار لا يقنع أحدًا، غير أن تحقيق ذلك لا يبدو سهلًا بالنظر إلى أن الحرس القديم المسيطر على النشاط الجمعوي لا يريد ترك الساحة للوافدين الجدد، فقد بدأ بعضه يبحث عن تموقع جديد بوجوه جديدة، خاصة وهو يعلم أن الأساس الداعم للسلطة الجديدة في البلاد لا يزال غير متين، وفي حاجة إلى قوة لها تجربة تدعم خططه خاصة في الوقت الحاليّ.
بلا أحزاب
رغم إعلان عدة أحزاب خاصة – تلك التي كانت الحزام الداعم للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة – تأييدها لما جاء في الدستور مثل جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي وتجمع أمل الجزائر التي يقبع قادتها وراء القضبان، فإن الرئيس تبون يظل حتى اليوم يتعفف على الأقل علنًا عن وضع يده بيد هذه الطبقة السياسية التي يحمّلها الجزائريون مسؤولية العبث والفساد الذي عاشته البلاد في العقدين الماضيين.
قبل أقل من شهرين على موعد الاستفتاء الدستوري وفي ظل غياب لسبر الآراء في البلاد، تبقى الصورة بشأن نجاح الرئيس تبون في هذه الخطوة أو فشلها غير واضحة
ولم تتضمن تصريحات الرئيس تبون أو أحد من وزرائه أي إشارة أو تلميح لإشراك الأحزاب في شرح وثيقة الدستور المعروضة للاستفتاء، وهو تفصيل قد يصب في مصلحة السلطة التي تحاول تجنيب هذا المشروع الدخول في حالة التجاذب بين الأحزاب المؤيدة والمعارضة، وذلك اتقاءً للفت انتباه المواطنين لتحفظات المعارضة على بعض مواد الدستور وتوقيت طرحه للاستفتاء وحتى حصر خيار الخروج من الأزمة في التصويت لما تضمنه، وبالخصوص تكتل البديل الديمقراطي الذي يضم عددًا من الأحزاب والشخصيات المعارضة لما جاء في الوثيقة الدستورية.
لكن تخلي السلطة عن الأحزاب التقليدية في البلاد التي تحسب على الرئيس السابق قد يفقدها قدرًا كبيرًا من الأصوات، كون هذه التشكيلات السياسية تمتلك آلة تجنيد انتخابي قوية قادرة على الأقل أن تدفع بالموالين لها للذهاب يوم الاقتراع إلى مراكز الانتخاب، والتصويت لصالح التعديل الدستوري، وهو المشهد الذي قد يقلص من أي مقاطعة محتملة تكون شبيهة برئاسيات 12 من ديسمبر/كانون الأول 2019، بالنظر إلى أن الدستور أم القوانين، ويتطلب نسبة تأييد ومشاركة أكبر.
وقبل أقل من شهرين على موعد الاستفتاء الدستوري وفي ظل غياب لسبر الآراء في البلاد، تبقى الصورة بشأن نجاح الرئيس تبون في هذه الخطوة أو فشلها غير واضحة، لذلك ستكون الأيام القادمة مهمة للسلطة لاغتنامها وتمرير مشروعها القانوني للتفرغ للمطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى، وإنهاء سوء الحظ الذي يلازم فترة الرئيس الحاليّ بمواجهته لأزمتي تهاوي النفط وجائحة كورونا.