ترجمة وتحرير نون بوست
قد نلتقي ببعض الأشخاص الذين لا يتكلمون كثيرا: يكون هؤلاء متحفظين ومنغلقين وانطوائيين. في المقابل، يتحدث أشخاص آخرون كثيرا: إنهم منفتحون جدا وثرثارون. كل هذا يعتبر طبيعيا إلى حد ما. لكن هناك بعض الأشخاص الذين يتحدثون كثيرا، وكأنهم لا يستطيعون التوقف عن الكلام. أحيانا، يحذر المتخصصون من أن هذا السلوك قد يكون علامة على اضطراب عاطفي أو مشكلة أخرى.
من حيث المبدأ، يمكن أن يكون السبب شيئا بسيطا من قبيل أن تكون الشخصية ذات سمات نرجسية أو أنانية. لا يدرك هؤلاء الأشخاص في كثير من الأحيان أن أفكارهم أو تجاربهم قد لا تكون مثيرة للاهتمام للآخرين ولذلك يتحدثون عنها بكثير من التفاصيل. في الوقت نفسه، لا ينتبهون لما يقوله الآخرون: فهم يركزون فقط على ما سيقولونه بعد ذلك.
يمكن أن تكون الأنانية المفرطة سببا في مشاكل أخرى (مشاكل اجتماعية، مشاكل في العمل، إلخ) ويصبح التدخل العلاجي ضروريا. لكن في العموم، لا يمكن الحديث عن اضطراب عندما يكون الإفراط في الكلام ناجما عن سمات شخصية. هناك اضطرابات أخرى أكثر خطورة تُسمّى في علم النفس: الإسهاب أو الثرثرة.
الإسهاب في الكلام
في بعض الحالات، ليس هناك أي علاقة بين كثرة الكلام والنرجسية. في هذه الحالات، تظهر خصائص أخرى. أولا، يتحدث بعض الأشخاص بوتيرة سريعة جدا: ليس فقط من ناحية نطق العديد من الكلمات، ولكن أيضا من حيث سرعة الكلام. ثانيا، الانتقال من موضوع إلى آخر كلما قفزت فكرة معينة إلى الذهن، دون أي اعتبار للمنطق وتسلسل الأفكار. ثالثا، التحدث باندفاع كبير يمنع الآخرين من التدخل، ونتيجة لذلك لا تكون هناك حوارات بل كلام مسترسل من طرف واحد.
في هذه المواقف نتحدث عما يسمى بالإسهاب أو الإطناب، أي عبارة عن “سيل جارف من الكلمات”. يُعرَّف أيضا بأنه “تغير كمّي في تدفق اللغة، يتميز بتسارع الكلام وطول الحديث مع صعوبة المقاطعة”، وذلك وفقا للقاموس الطبي لعيادة جامعة نافارا. ويمكن أن يكون على سبيل المثال، أحد أعراض القلق.
لا تولّد حالة القلق دائما الإطناب في الكلام. في بعض الأحيان، يسبب القلق تأثيرا معاكسا تماما: فهو يمنع أو يعيق القدرة على التعبير أو الكلام؛ هذه هي حالة الخجل، والتي يمكن أن تتخفى أيضا خلف الإفراط في الكلام. ولكن إذا لوحظ أن الشخص يبدأ فجأة في الحديث بإسهاب، وبطريقة سريعة للغاية، وينتقل بترتيب واضح من موضوع إلى آخر، وخاصة إذا ظهرت أعراض أخرى محددة، ينبغي النظر في هذا الاحتمال.
أمراض يمكن أن تجعلك تتحدث كثيرا
قد يؤشر الإسهاب في الكلام إلى حالات مرضية أكثر خطورة. بحسب التقرير الصادر عن عيادة جامعة نافارا المذكورة، يعد الإطناب في الحديث “أحد الأعراض النموذجية لحالات الهوس”، والتي “يمكن أن توجد أيضا في حالات الذهان الأخرى”. غالبا ما يتقاطع ذلك مع ما يسمى بـ”التاكيبسيكيا“، أي اضطراب التسارع في إيقاع التفكير. بمعنى آخر، هذه الحالة هي عبارة عن مشكلة تجعل التفكير يسير بسرعة كبيرة.
في الحالات القصوى، تصل سرعة العقل إلى ما يسمى حالة “هروب الأفكار”، إذ تتدفق مجموعة من الأفكار بشكل متواصل ويقفز الذهن من واحدة إلى أخرى دون توقف. حين يتحول الأمر إلى مرحلة الكلام، وهو ما لا يحدث دائما، يكون الإطناب واضحا بسبب عدم وجود أي علاقة بين الأفكار. في هذه الحالات، من الضروري طلب المساعدة الطبية.
علاوة على ذلك، يمكن أن يرتبط الإطناب في الكلام بإصابة دماغية. يمكن أن تؤدي إصابة الفص الصدغي للدماغ، نتيجة السكتة الدماغية مثلا، إلى أنواع مختلفة من الحُبسة الكلامية مثل الحُبسة الاستقبالية. ينتج عن ذلك صعوبة في فهم اللغة، وكلام مسترسل لكن دون معنى واضح. أولئك الذين يعانون من هذه المشكلة عادة ما ينطقون بكلمات في غير موضعها دون أن يلاحظوا عدم وجود معنى لما يقولونه.
مشاكل النطق، العلامات المبكرة لمرض الزهايمر
أشارت إحدى الدراسات سنة 2017 إلى مشكلة أخرى محتملة تتعلق ببعض العادات السلوكية مثل “التحدث كثيرا دون قول أي شيء”، أو سرد نكت وأحاديث ليس لها أي معنى، وهو ما قد يشكل علامة مبكرة للزهايمر أو الخرف.
تقول جانيت كوهين شيرمان، الباحثة في مستشفى ماساتشوستس العام بالولايات المتحدة ومؤلفة الدراسة، إن هذه العلامات قد تظهر قبل 10 سنوات من تشخيص المرض. يمكن أن يشكل ذلك تقدما كبيرا في علاج مثل هذه الأمراض.
في الواقع، تستند هذه الاستنتاجات إلى تجارب مختلفة أجريت مع ثلاثة مجموعات من الأشخاص: مجموعة من الشباب الأصحاء، وأخرى لمجموعة من كبار السن الأصحاء، وتشمل الثالثة مجموعة من كبار السن الذين يعانون من ضعف إدراكي خفيف. ويتمثل أحد الاختبارات في ربط جمل تضمنت ثلاثة مصطلحات قدمها الباحثون.
بشكل عام، قام المتطوعون الأصحاء بتكوين جمل بسيطة دون مشاكل، بينما قام المتطوعون من المجموعة الثالثة بتكوين جمل أكثر تعقيدا تحتوي معلومات غير ضرورية. واجه المرضى من المجموعة الثالثة صعوبة أكبر في تكرار الجمل.
تشير الدراسة أيضا إلى بحوث سابقة حللت خطابات لشخصيات مثل الفيلسوفة آيريس مردوك، ورونالد ريغان عندما كان رئيسًا للولايات المتحدة. في وقت لاحق تم تشخيص الاثنين بمرض الزهايمر، ولكن وفقا لهذه البحوث، كان يمكن ملاحظة الأعراض في خطاباتهم قبل اكتشاف المرض بسنوات.
بعيدًا عن كل هذه الأمراض المحتملة، من المناسب أن ننتبه إلى أسلوبنا في الحديث وكيف يستمع إلينا الآخرون. على وجه الخصوص، إذا أخبرنا شخص ما أننا نتحدث كثيرا، فينبغي أن نسأل أنفسنا إن كنا نعاني من القلق أو التوتر أو من حالات أخرى نحتاج فيها إلى المساعدة الطبية أو التفكير في تغيير نمط الحياة.
المصدر: إل ديار يو