“الموساد جهازٌ عملياتي استخباراتي، لكنه أيضًا يشق طريقه إلى إقامة علاقات سياسية مع دول لا علاقات طبيعية معها، وعندما جئت لتعيين رئيس الموساد، أخذت في الحسبان هذه الجوانب الثلاث آنفة الذكر”.
بهذا النص المكثف الذي أدلى به نتنياهو مكنيًا عن مدير جهاز الاستخبارات الخارجية، يوسي كوهين، يطلعنا رئيس الوزراء الإسرائيلي، على جانب مهم من كيفية توطئة الطريق أمام حقبة جديدة من تعريف “إسرائيل” بنفسها، كدولة طبيعية في محيطها الجغرافي، بعد مساعٍ متواصلة، أدت إلى هرولة خصومها السابقين لتطبيع العلاقات معها، بل والدخول في تحالفات إستراتيجية، ينسب ليوسي كوهين كثيرٌ منها.
النشأة والتدرج الوظيفي
إن أهم ما قد يلفت النظر في جذور يوسي كوهين، خاصة من ناحية الذكور، هي: الجندية والمكون الديني، فقد كان أبوه عضوًا وناشطًا عسكريًا في إحدى المنظمات اليهودية التي تأسست على أساس أحلام الوطن الديني الجامع، قبل إعلان الدولة، عام 1931، وتدعى أرجون أو إستيل في أدبيات أخرى، وشارك والده، مع هذه المنظمة، في معارك طرد الفلسطينيين وإقامة الدولة عام 1948.
لذلك، يعد يوسي كوهين، وفق تصنيف يعتمد على مكان النشأة ويراعي عمر الدولة الصغير وكون معظم السكان من المهاجرين، واحدًا من “الصابرا” أو اليهود القلائل المولودين في “إسرائيل” عام 1961، بسبب نشاط والده العسكري قبل إقامة الدولة، كما تعزى العائلة إلى “اليهود الماسورتي” وهي طائفة من الطوائف التقليدية المحافطة.
عمل رئيسًا لبعثة الموساد في أوروبا ورئيسًا لوحدة تسومت المسؤولة عن تجنيد العملاء 2006
حصل يوسي على شهادته الثانوية من إحدى المدارس الدينية في القدس، وتدعى “أورعتصيون تشيفا”، على يد الحاخام حاييم دوركمان، وألحق أبناءه بها لاحقًا، فيما يبدو أنه تأثرٌ بالنمط المحافظ وجمعٌ للتناقضات المعروفة في المجتمع الإسرائيلي الذي يتأرجح دائمًا بين المحافظة والعصرية، ثم حصل على شهادته الجامعية في العلوم الاجتماعية من جامعة بار إيلان.
التحق بالجيش، لواء المظليين تحديدًا عام 1979، ومن الجيش إلى الموساد عام 1983، ليتدرج وظيفيًا في معظم الترقيات المتعلقة بالاستخبارات البشرية وتوظيف التكنولوجيا في أغراض جمع المعلومات، فعمل رئيسًا لبعثة الموساد في أوروبا ورئيسًا لوحدة تسومت المسؤولة عن تجنيد العملاء 2006 ورئيسًا لوحدة جمع المعلومات التكنولوجية، حتى ترقى إلى منصب نائب رئيس الجهاز في الفترة من 2011 إلى 2013 تحت قيادة المخضرم تامير باردو، حيث كان يرمز له آنذاك بحرف “U”، وقائمًا بأعمال رئيس مديرية العمليات، وقد ألحق أحد أبنائه الأربع بالوحدة 8200 التجسسية بالموساد.
إنجازاته ومهماته
ما نعرفه عن يوسي كوهين في هذا الصدد هو الجانب المضيء من سيرته الذاتية فقط، وتحديدًا تلك المهمات التي نجح فيها خدمةً لـ”إسرائيل”، فالرجل يرأس جهازًا استخباراتيًا يعد من أقوى الأجهزة في مجاله عالميًا، وله تقاليده المؤسسية الراسخة التي يصعب اختراقها ضمن سقف الحريات المسموح بها للضباط، وعمره من عمر الدولة تقريبًا، وما يهمنا هنا هي تلك العمليات التي تتعلق بالإقليم.
بحسب تقرير قديم لشبكة الجزيرة عن يوسي كوهين، فقد نال الرجل جائزة “أمن إسرائيل” في أثناء خدمته ضابطًا في الموساد، بعد ابتكاره طريقةً (لم يكشف طبيعتها) تساهم في جمع معلومات استخبارية من دول مجاورة وتمريرها لدولة الاحتلال، دون الحاجة إلى العنصر البشري أو في حالة تعثر الاستعانة بالعملاء التقليديين.
يتصل ذلك بوضوح عما نقلته بعض الصحف العبرية عن زملائه في العمل خلال فترات مبكرة من التحاقه بالموساد بخصوص تحليه بالقدرة على العمل الاستثنائي في مجاله، حيث تتنافى هذه الطريقة المبتكرة، مبدئيًا، مع عمله في الاستخبارات البشرية وتقترب من مجال عمل وحدات أخرى في الموساد تتولى مهام التجسس عن بعد.
بالإضافة إلى ما تحتمه عليه طبيعة عمله خاصة بعد هذه السيرة الذاتية الضخمة وقبل أن تعرف هويته الحقيقية من ضلوعه في عشرات العمليات السرية وتجنيد مئات الجواسيس والتجول حول العالم بشخصيات منتحلة، فإن كوهين متهم بالمشاركة والإشراف على اغتيال طيف من الشخصيات العربية والإسلامية المهمة، مثل محمود المبحوح في دبي، وفادي البطش في ماليزيا، ومحمد الزواري في تونس. وفي حواره مع مجلة “العائلة” اليهودية، ألمح مدير الموساد إلى أن القائمة طويلة، مشيرًا إلى أهمية تكتم حماس على اغتيال كوادرها حول العالم.
كما يعزى إليه المساهمة في إحداث تحول نوعي بقدرة “إسرائيل” على ترويض إيران، مرةً مطلع عام 2018 بتنفيذ عملية ناجحة لسرقة وثائق مهمة تخص الأرشيف النووي الإيراني من قلب العاصمة طهران، التي وصفها مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي بعد شهرين من تنفيذها “بالعملية التي تمكن خلالها الموساد من إعادة تعريف الشجاعة والجسارة”، ومرة أخرى مطلع هذا العام، بعد أن ساهم، بشكل لم تحدد طبيعته بعد، في عملية اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، بعد أن حذره في حوار مجلة العائلة قائلًا: “ليعلم سليماني، أن التخلص منه ليس مستحيلًا”.
قبل المبادرة الإماراتية التي دشنت عصرًا جديدًا من التطبيع عربيًا وإفريقيًا، كانت معظم تحركات مهندس التطبيع العبري سريةً وغير معلومة
على المستوى المؤسسي، أنشأ كوهين الذي تسلم رئاسة الجهاز يناير/كانون الثاني 2016، وحدة إلكترونية جديدةً ضخمة، يصل عدد أفرادها إلى 2000 عنصر، ليزيد أعداد العاملين في الجهاز ومنتسبيه إلى أكثر من 9000 عنصر، وتتضاعف معهم ميزانية الجهاز منذ عام 2014، كما عمق علاقة الجهاز بالمجتمع المدني، وبالأخص في مجال التكنولوجيا، ليصبح تحت قيادته “آلة قاسية تعمل في الساحة الإيرانية، وتنشط في جهود إضعاف حماس عسكريًا، وتقنع مزيدًا من الدول العربية والإفريقية بالإفصاح عن علاقتها بإسرائيل”، كما قالت جيروزاليم بوست، وذلك مقارنةً بالفترة التي تولى فيها مهمته، حينما كانت إيران تتمدد في سوريا والعراق واليمن، بشكل مهدد لمعادلات الأمن الإسرائيلية.
التطبيع
قبل المبادرة الإماراتية التي دشنت عصرًا جديدًا من التطبيع عربيًا وإفريقيًا في الـ13 من أغسطس/آب الماضي، كانت معظم تحركات مهندس التطبيع العبري، يوسي كوهين، سريةً وغير معلومة، باستثناء زيارته إلى قطر، ضمن معادلة المال مقابل الهدوء التي تشرف عليها الدوحة في غزة، فبراير/شباط الماضي، ومع ذلك فقد لاقت هذه الزيارة، للمفارقة، هجومًا واسعًا من معسكر التطبيع الإماراتي.
أبرز أنشطة يوسي كوهين السرية قبل هذه الحقبة، كانت هندسته لقاءً مطولًا بين رئيسه المباشر بنيامين نتنياهو وبين السلطان الراحل قابوس بن سعيد في العاصمة العمانية مسقط عام 2018، ثم ترتيبه لقاءً آخر مع رئيس المجلس الانتقالي العسكري عبد الفتاح البرهان.
لكن بعد الإعلان الأمريكي عن تطبيع العلاقات بين الإمارات و”إسرائيل”، أصبح كوهين أكثر ظهورًا ونشاطًا على الساحة العربية، فمن إطراء من مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد، عقب لقاء في أبو ظبي، إلى صور مع ملكة جمال العراق، ثم تبشير بانضمام المملكة العربية السعودية إلى معسكر التطبيع قريبًا.
في ظهوره المتكرر، يعد كوهين مبدعًا بين كل قادة الموساد السابقين البالغ عددهم – قبله – 11 مديرًا، ليس فقط لمجرد الظهور نفسه، إذ كان هؤلاء القادة منذ نشأة الجهاز نفسه عام 1949 حريصين على الحفاظ على العمل السري المرتبط بطبيعة عملهم في الأساس، لكن أيضًا في طريقة الظهور، فالرجل البالغ من العمر 59 عامًا، يحرص دائمًا على تطبيق أساسيات العلاقات العامة والذكاء الاجتماعي في لقاءاته، التي تنعكس على مظهره، فلا يخلو لقاء له من الابتسامات الواضحة والشعر المصفف والملابس الضيقة مثل الرياضيين.
اتصل ببعض نظرائه، وكانت هذه الاتصالات كافيةً لتسريع شراء المستلزمات الطبية، وفي حالات أخرى اتصل بحكام الدول مباشرةً
بعض المعلومات عن أنشطته السرية في ملف التطبيع قبل موجة الاعترافات العرب الأخيرة بـ”إسرائيل” مثيرة للغاية، فكوهين كلف من نتنياهو بزيارة العواصم العربية بغرض تخفيف معارضتها لخطة الضم، منها زيارة للأردن، تلك الخطة التي نالت معارضةً عربية شديدةً علنًا، وقررت القيادة الإسرائيلية إرجاءها لأسباب لا تتعلق بتوقيع الاتفاق مع الإمارات.
كما استغل كوهين تكليفه من بيبي بقيادة “مركز المشتريات المشتركة” مطلع أزمة كورونا، بالتمهيد للاتفاق مع الإمارات، عبر شراء 100 ألف فاحص بالتنسيق معها بشكل عاجل، وفي هذا الصدد تقول عنه نيويورك تايمز: “في بعض الحالات، اتصل ببعض نظرائه، وكانت هذه الاتصالات كافيةً لتسريع شراء المستلزمات الطبية، وفي حالات أخرى اتصل بحكام الدول مباشرةً”.
إنه ليس تامير
إذًا يهندس كوهين اللقاءات ويرفع الميزانية وينشئ وحدات جديدة بعضها متعلق بمأسسة التطبيع مع الدول العربية وينوب عن نتنياهو في زيارات مهمة ويرفع تقاريره إليه مباشرة ويسدي له كثيرًا من الخدمات الحاسمة، حتى إنه شكره على دوره المبكر في أزمة كورونا قائلًا: “أريد أن أشكرك. كلفتك مع وزارة الدفاع لشراء المعدات اللازمة، وقمت بذلك بشكل جيد للغاية. النتائج تتحدث عن نفسها”، فعلى أي أساس يسمح نتنياهو لشخص مثل كوهين بالتمدد في كثير من الملفات؟
ترجح بعض التقارير العبرية أن نتنياهو، في أوقات سابقة من عمر الدولة، لم يكن مرتاحًا بالتعامل مع رؤساء الموساد السابقين، خاصة مائير داغان وتامير باردو، ولكنه كان مضطرًا للتعامل معهما، وفقًا للأعراف المؤسسية الحاكمة لموقع كل شخص في الدولة.
أما يوسي كوهين فقد قدم نفسه لنتنياهو على أنه نقيضٌ لأسلافه في كل شيء، قدم نفسه على أنه رجل نتنياهو القوي في الموساد وحليفه الموثوق وجزء من مشروعه السياسي، حيث يلتقي المؤسسي بالشخصي.
نظرة سريعة على مواقف سلفه تامير باردو، ستكشف لنا أنه كان معارضًا لموافقة نتنياهو على صفقة الغواصات المصرية مع ألمانيا عام 2014، مؤكدًا أن نتنياهو لم يستشره قبل الموافقة، ومعارضًا لخطة الضم، معتبرًا إياها تهديدًا لمستقبل الدولة اليهودية، ومعارضًا، في نفس الوقت، لطريقة تعامل اليمين العنصرية مع عرب الداخل، ومحذرًا من التأثيرات السلبية للصراع السياسي على الأمن المجتمعي، ومقللًا من جدية السردية الرسمية حيال الخطر الإيراني الوجودي على “إسرائيل”.
تقرب كوهين من سارة نتنياهو ونجلها يائير، إلى الدرجة التي جعلتهما معًا متهميْن
توطدت علاقة الطرفين، نتنياهو وكوهين، عند نقطة الخلاف مع تامير، ليس من جهة المواقف فحسب، بعد أن عرف كوهين نفسه في الموساد باعتباره الرجل الذي يستطيع تنفيذ مصالح الدولة ونتنياهو في نفس الوقت، ولكن زمنيًا أيضًا.
فعلى ضوء خلافات نشبت بين تامير وكوهين حينما كان الأول رئيسًا للموساد والثاني نائبًا له، أدت إلى مغادرة كوهين الجهاز إلى منصب رئيس مجلس الأمن القومي في ديوان نتنياهو عام 2013، تقرب كوهين من سارة نتنياهو ونجلها يائير، إلى الدرجة التي جعلتهما معًا متهميْن، كوهين ويائير، في قضية الاستفادة من نفوذ أحد رجال الأعمال المعروفين، قبل شهر واحد من تعيينه مديرًا للموساد.
المستقبل
يخطط يوسي كوهين إلى توظيف خبراته الاستخبارية والدبلوماسية، وظهوره الإعلامي المتكرر بشكل إيجابي مؤخرًا، لمساعدته في الانتقال إلى مربع السياسة، رئيسًا لوزراء الاحتلال، وحاكمًا فعليًا للدولة.
عبر كوهين عن هذه الرغبة في أكثر من لقاء قال خلالهم: “الناس يقولون إنني أستطيع ارتداء حذاء نتنياهو”، “ويمكن القول إن من صفاتي الانجذاب للإدارة والقيادة السياسية، أنا أنجذب كثيرًا للموضوع الإستراتيجي، ومن الممكن أن أفكر في هذا الموضوع، بعد ما رأيته من آلاف التعليقات الإيجابية”، وقد أبدى نتنياهو تفهمًا وتأييدًا مبدئيًا لهذه الرغبة من خلال تركه يعبر عنها أولًا، وإفساح المجال لحضوره الإعلامي ثانيًا، ثم تلميحه لجدارة كوهين السياسية مؤخرًا.
لكن تامير باردو سلف كوهين في الموساد، كان قد أشار ضمنًا في أحاديث صحافية من قبل إلى أن أحد أسباب استبعاد كوهين كان ضعفه الفني من الجهاز في الأمور التي تبعد عن تخصصه في الاستخبارات البشرية وإدارة العمليات، مثل التحليل الإستراتيجي وتقدير الموقف.
يتعين على كوهين الانتظار عامًا كاملًا في الموساد بموجب تجديد الثقة الذي منحه نتنياهو إياه مؤخرًا
وبحسب محللين، فإن اتهامه، مع يائير نتنياهو في قضية الانتفاع من نفوذ رجل أعمال أسترالي خصمت من نفوذه السياسي مبكرًا، كما أن بعض مواقفه، مثل دعم حصول الإمارات على مقاتلات أمريكية من الجيل الخامس مثيرة للريبة والاستفهام.
وفي كل الأحوال، سوف يتعين على كوهين الانتظار عامًا كاملًا في الموساد بموجب تجديد الثقة الذي منحه نتنياهو إياه مؤخرًا، قابلًا للتجديد نصف عام، بالإضافة إلى 3 سنوات بعيدًا عن العمل العام، وخلال هذه المدة في العمل مديرًا للموساد، سيتعين عليه إنجاز ملف التطبيع مع الدول العربية والتمهيد لخليفته القادم في ملف تحييد مخاطر تركيا التي يعتبرها أكثر تهديدًا على “إسرائيل” من إيران، تلك القوة الهشة التي يمكن تقويضها بالعقوبات وحظر توريد السلاح والعمليات السرية وتبادل المعلومات، في حين تمثل أنقرة تهديدًا ناعمًا وخشنًا ينبغي الاتحاد مع العرب لكبحها، على حد قوله.