“إن الدكتورة حواء ستظل في قلب وروح آلاف الأشخاص الذين ساعدتهم خلال الأوقات العصيبة، فهي لها مكانة ذهبية في تاريخ أمتنا، ولفترة طويلة أخذت على عاتقها خدمة الضعفاء بيننا”.. هكذا رثى الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، في تدوينة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، الدكتورة حواء عبدي طبلاوي، الناشطة البارزة في مجال حقوق الإنسان التي وافتها المنية في الـ6 من أغسطس/آب الماضي.
وتعد الطبيبة الصومالية التي تلقب بـ”ماما حواء” أحد أشهر الشخصيات في الشارع الصومالي والإفريقي لما قدمته من أدوار إنسانية شهد بها الجميع، فكان لها الفضل في إنقاذ المئات بل آلاف الصوماليين من خلال مشروعاتها الخيرية التي كانت تقوم عليها وعلى رأسها المستشفى الخاص بها التي أسسته عام 1983.
وتمثل الناشطة الحقوقية التي تعتبر أول طبيبة توليد في بلادها، ورئيسة “مؤسسة الدكتورة حواء عبدي” حالة فريدة من نوعها في المجال الحقوقي، حيث سخرت حياتها التي تجاوزت العقود السبع لخدمة الفقراء والمحتاجين من أبناء شعبها فاستحقت تلك المكانة المميزة في قلوبهم جميعًا.
وتكليلًا لهذا الدور الإنساني الرائع الذي أدته ماما حواء على مدار سنوات طويلة، في وقت كانت تعاني فيه بلادها من أزمات الحروب والمجاعات والمخاطر الطبيعية، تم ترشيحها لجائزة نوبل للسلام، هذا بخلاف عشرات الجوائز الحقوقية والدولية التي حصلت عليها تكريمًا لجهودها المجتمعية والإغاثية المتنوعة.. فماذا نعرف عن ماما حواء؟
من رحم المعاناة والفقر
ولدت حواء في العاصمة مقديشيو عام 1947، لأسرة فقيرة، عانت كثيرًا في بدايات حياتها، وتعرضت لعدد من الصدمات التي كان لها دور كبير في صقل شخصيتها وصناعتها على مواجهة الأزمات، لا سيما تلك الفترة التي عاشتها كـ”لاجئة” مع أسرتها في كينيا وكندا.
كان والدها الشخصية الأكثر تأثيرًا في حياتها وصاحب الكلمة العليا في تشكيل شخصيتها القوية، فعلى عكس المتعارف عليه وقتها سمح لها بالالتحاق بالمدرسة لإكمال تعليمها، وهو القرار الذي أثار جدلًا أسريًا وقتها، لكن نتائجه تكشفت عامًا تلو الآخر، ولذا كانت الصدمة موجعة حين تلقت خبر وفاة والدها وهي ابنة الـ12 عامًا.
كانت أول طبيبة نساء في بلادها، ومن هنا كانت بداية المشوار الذي خلد اسمها في سجلات أعلام الصومال تحديدًا وإفريقيا بوجه عام
وكما كانت صدمة وفاة الوالد نقطة ضعف إلا أنها استمدت منها القوة في الوقت ذاته، مصممة على تحقيق حلم والدها في أن تكون في خدمة أهلها وشعب بلادها، وذلك وفق وصيته لها “اخدمي شعب الصومال بعلمك ومهاراتك”، فأصرت على السفر إلى الاتحاد السوفيتي لإكمال دراسة الطب هناك، وبالفعل حصلت على منحة دراسة في جامعة كييف، وأتمت سنوات الدراسة هناك.
كانت وصية الوالد نشيدًا تعزفه الفتاة الشابة ليل نهار طيلة سنوات الدراسة، حتى أتمت منحتها على أكمل وجه، لتعود إلى بلادها مفعمة بالأمل والحب والإخاء للجميع، فكانت أول طبيبة نساء في بلادها، ومن هنا كانت بداية المشوار الذي خلد اسمها في سجلات أعلام الصومال تحديدًا وإفريقيا بوجه عام.
صرح طبي إغاثي
ظهر دور طبلاوي الجلي في أعقاب الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد وأحدثت فيها العديد من الشروخات على كل المستويات، الاقتصادية والسياسية والأمنية والمجتمعية، حيث تحول الصومال إلى أقرب ما يكون لبلد الأشباح، حيث إشاعة الفوضى وغياب الاستقرار وانتشار قانون الغاب.
وفي وسط هذا الجو الملبد بالغيوم السوداء حيث تراجع المستوى الخدمي لأدنى مساراته، وبينما كان الجميع يلعن الظلام في هذا الوقت، جاءت ومضة النور من بعيد لتعيد الأمل فيما هو قادم، نجحت الطبيبة الشابة في افتتاح أول عيادة لها في البلاد بنتها فوق أرض ملك لأسرتها، وكان ذلك عام 1983، وكانت عبارة عن غرفة واحدة لخدمة النساء وتوفير الرعاية الصحية للأطفال.
ومع تصاعد الأوضاع المأساوية، باتت تلك العيادة الصغيرة قبلة الجميع، في ظل ندرة مراكز التطبيب والخدمات الصحية الموجودة، وتحولت الغرفة الواحدة إلى مستشفى متكامل، تسع لأكثر من 400 سرير ويراجعها ما يزيد على 90 ألف زائر، الأمر الذي تحولت معه تلك العيادة الصغيرة إلى أكبر الصروح الطبية في الصومال.
الأمر ما عاد ينحصر في معالجة الحوامل وتوليد النساء ورعاية الأطفال فقط، إذ تحول هذا الصرح إلى مستشفى عام، وكانت الطبيبة الشابة تدرب العشرات من الأطباء والممرضات، هذا بجانب تعيين الكثير منهم داخل هذا الكيان، فيما كانت تجري المستشفى العديد من العمليات الجراحية اليومية، لا سيما وقت الحروب، حيث إزالة الرصاص من الجرحى ومداواة جراحهم النازفة.
رغم أنها طبيبة ومتخصصة في قسم النساء والولادة، فإن جهودها لم تقف عند هذا الحد، بل سارعت لفتح العديد من أبواب الخير
وقد لاقى هذا الصرح ترحيب الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، حين زار الصومال لتفقد القوات الأمريكية هناك عام 1993، ورافقته حواء في جولته لتفقد أحوال مخيمات اللاجئين التي تم تدشينها لإغاثة المتضريين من المجاعة، وأظهرت له كيف يتلقى الأطفال والنساء وتقدم لهم الرعاية الطبية والغذاء، وهنا قال لها الرئيس الأمريكي: “إننا نشهد انتعاشًا هنا، لقد أخبرني معظم هؤلاء الأطفال أنهم كانوا يتضورون جوعًا قبل شهرين”.
في خدمة شعبها
رغم أنها طبيبة ومتخصصة في قسم النساء والولادة، فإن جهودها لم تقف عند هذا الحد، بل سارعت لفتح العديد من أبواب الخير والعمل الأهلي، خدمة لوطنها وأبنائه، فأسست فصولًا لمحو أمية النساء، وسعت إلى تشجيعهم عبر العديد من المحفزات للخروج من شرنقة الجهل والتخلف إلى آفاق العلم الرحبة.
بجانب ذلك سعت إلى توفير فرص عمل للكثير من الشباب عبر تدشين حزمة من المشروعات لتوظيفهم بها، فأنشأت في إحدى المناطق مشروعًا زراعيًا ساهم في توفير فرص عمل بهذا المجال، حيث عمل به شباب تلك المنطقة وباتوا يأكلون مما يزرعون، حتى تخلصوا من الفقر المدقع الذي كانوا فيه، وعليه تم إطلاق اسمها على تلك القرية “حواء عبدي” التي تم تدشين المشروع بها تقديرًا لجهدها المبذول لخدمة أهل القرية.
وكانت ترى أن التعليم السبيل الوحيد لتجاوز الأزمة وعبور تلك المرحلة الحرجة في تاريخ بلادها، وعليه أنشأت مدرسة لتعليم الصغار، هذا بجانب دورها المجتمعي الذي شهد به الجميع، خاصة بناءها مخيمًا للنازحين داخليًا، وتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للاجئين من مختلف المناطق.
كما أنشأت مركزًا لتعليم الفتيات “غالكايو” وكان يقدم دورات في التوعية ومحو الأمية وتعليم الحياكة والتدريب المهني، إضافة إلى توفير المواد الغذائية والإغاثية للاجئين، هذا بجانب المشكلات المجتمعية التي يعالجها المركز في العديد من القضايا المجتمعية المعقدة كختان الإناث وسن البلوغ والزواج المبكر والاغتصاب وفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز.
شجاعة مطلقة
تجارب الحياة القاسية كان لها دور كبير في تقوية صلب الطبيبة الإنسانة، فأظهرت شجاعة منقطعة النظير في العديد من المواقف التي واجهتها في حياتها، لعل أبرزها تلك التي أشارت إليها في مذكراتها حين استولى متشددون على مستشفاها الطبي ومخيمها في مايو 2010، إذ نهبوا كل ما فيه من معدات ووثائق.
جاء رحيل ماما حواء ورئيسة جمهورية الأمل في الـ6 من أغسطس الماضي بمثابة الصدمة لدى الشارع الصومال برمته
في هذا الوقت تم احتجازها داخل المستشفى وطالبوها بتسليمها إليهم ومغادرتها، لكنها رفضت وتحملت وحدها خطر مواجهة ما يقرب من 800 مسلح، وحين ضغطوا عليها بالمغادرة وترك المستشفى كان ردها “هذا مستحيل، وعلى الرغم من أن كبار السن قالوا لي إن المسلحين يمكنهم إطلاق النار علي في أي لحظة، فإنني رفضت التراجع”، بحسب مذكراتها.
وحين تصاعد تهديد المسلحين لها قالت لهم: إذا أطلقوا النار عليّ، على الأقل سأموت بكرامة”، وهي الشجاعة التي لفتت أنظار المسلحين الذين أفرجوا عنها بعد أيام من الإقامة الجبرية، بل وجهوا لها خطاب اعتذار عما بدر منهم، مثمنين موقفها الشجاع في الدفاع عن المستشفى ودورها في علاج المرضى وخدمة الناس.
وكان تقديرًا لهذا الدور الإنساني الذي تقوم به طبلاوي أن تم إدراجها هي وبناتها ضمن فئة نساء العام في مجلة “جلامور” الشهيرة، لترافق المشاهير من نساء العالم على رأسهن جوليا روبرتس والملكة رانيا، وكان ذلك عام 2010، وقد وصفتها المجلة بأنها “الأم تيريزا ورئيسة جمهورية الأمل”، ووصفتها وابنتيها “قديسي الصومال”.
في 2012 تم ترشيحها لجائزة نوبل للسلام لما بذلته من جهد خرافي في دعم اللاجئين وإيواء النازحين وتقديم يد العون لأبناء شعبها، فيما حصلت على الدكتوراة الفخرية من جامعة هارفارد عام 2017، هذا في الوقت الذي حصلت فيه على العديد من الجوائز الحقوقية الأخرى تقديرًا لدورها العظيم.
ومن الجوائز الدولية التي حصلت عليها جائزة نانسن للاجئ، من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في أكتوبر/تشرين الأول 2012، وقد عبرت حواء عن سعادتها الكبيرة بتلك الجائزة التي كانت مفاجئة بالنسبة لها، قائلة إنها تشعر بالامتنان لأن “الشيء الصغير الذي تقوم به، ينظر إليه الآخرون بامتنان، وهذا التقدير لهو شيء جيد جدًا”.
وجاء رحيل ماما حواء ورئيسة جمهورية الأمل في الـ6 من أغسطس الماضي بمثابة الصدمة لدى الشارع الصومالي برمته، غير أن الإنجازات التي حققتها ودورها الإنساني والخدمي الذي يشهد به الجميع، سيظل علامة مضيئة في تاريخ البلاد، يوثق اسمها بأحرف من نور في سجلات عظماء الصومال وإفريقيا بصفة عامة.