منذ توقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات والبحرين من جانب و”إسرائيل” من جانب آخر في الـ13 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، والأنظار تتجه صوب الرياض في انتظار ساعة الصفر للحاق بهذا الركب لا سيما بعد التصريحات المتكررة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بشأن قرب انضمام عدد من الدول العربية لقطار التطبيع من بينها السعودية.
رد الفعل السعودي حيال هذا الاتفاق وإن لم يدعمه بشكل رسمي إلا أنه في الوقت ذاته لم يدنه، وهو ما اعتبره محللون موافقة ضمنية على تلك الخطوة التي أثارت الكثير من الجدل داخل الشارع العربي، خاصة أنها تتعارض مع الشعارات التي طالما رفعها السعوديون بشأن القضية الفلسطينية ومسارات التقارب مع دولة الاحتلال.
مفاجأة من العيار الثقيل فجرتها صحيفة “وول ستريت جورنال“، بشأن موقف العائلة المالكة السعودية حيال خطوة التطبيع، إذ أشارت أن عاهل المملكة، سلمان بن عبد العزيز، لم يكن على علم بهذا الاتفاق، فيما أخفى عنه عمدًا ولي العهد محمد بن سلمان، تفاصيل وميقات ما حدث.
الصحيفة أشارت إلى أن ولي العهد تعمد إخفاء الاتفاق عن والده خشية عدم دعمه له، وهو ما سيصعب على الإماراتيين المضي قدمًا في هذا المسار، ومن بعدهم البحرينيون، لافتة إلى أن الملك كان من أشد المؤيدين القدماء للمقاطعة العربية لدولة الاحتلال، وطالما طالب بدولة فلسطينية كخطوة أولية للتقارب العربي الإسرائيلي.
المصادر المقربة من ديوان الحكم بالمملكة التي نقلت الصحيفة الأمريكية عنهم أشاروا إلى أن العاهل السعودي صُدم بشدة خلال إجازته، عند إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توقيع “إسرائيل” والإمارات اتفاقًا لـ”التطبيع الكامل” لعلاقاتهما في 13 من أغسطس/آب، مرجعة تلك الصدمة إلى عدم إبلاغه مسبقًا من نجله.
لم تكن مثل تلك الأخبار المتعلقة بالخلاف بين الملك وولي عهده بشأن ملفات بعينها هي الأول من نوعها، إذ سبقها العديد من النماذج المتكررة، التي وصلت في بعضها حد تجريد الأمير الطامح في كرسي العرش من بعض صلاحياته، غير أن الخلاف هذه المرة يأتي في سياق آخر.. فهل ينم عن واقع فعلي أم مجرد تبادل أدوار؟
تحفظ إستراتيجي
على مدار عقود طويلة رسمت المملكة صورةً إقليميةً ودوليةً داعمة للقضية الفلسطينية، ورافضة لأي خطوات تطبيعية دون حصول الفلسطينين على كامل حقوقهم، وهي الصورة التي ساهمت بشكل كبير في دعم ثقل السعودية عربيًا، ودفعها بقوة لأن تكون إحدى القوى اللاعبة المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط لسنوات.
وحافظت الرياض رغم تباين مواقف وتوجهات الملوك الذين تعاقبوا على حكمها على مسافة ليست بالقصيرة مع دولة الاحتلال، معززة هذه الرؤية بالمبادرات التي قدمتها لدفع عملية السلام ودعم القضية العروبية الأم، وعلى رأس تلك المبادرات تلك التي طرحها العاهل الراحل عبد الله بن عبدالعزيز في 2002 التي هدفت إلى إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967 وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية و”إسرائيل”.
لكن مع قدوم ولي العهد الحاليّ شهدت السياسة الخارجية السعودية تجاه القضية الفلسطينية تغييرات كبيرة، فيما هرولت المملكة نحو التقارب مع تل أبيب بصورة ربما لم تشهدها العلاقات بينها وبين الدول الموقعة معها اتفاقات سلام رسمية كمصر والأردن، الأمر الذي وضع السعودية في مرمى الانتقادات العربية والإسلامية.
وفي ضوء هذا السياق يمكن تفهم التحفظ السعودي حيال الهرولة الإماراتية البحرينية للتقارب مع تل أبيب، وهو الموقف ذاته الذي تبنته الصحيفة الأمريكية التي اعتبرت أن “تطبيع العلاقات بين السعودية و”إسرائيل” قبل أي صفقة لإقامة دولة فلسطينية، سيكون بمثابة تحول زلزالي في الشرق الأوسط، مما سيقلب موقفًا عربيًا دام لعقود”.
هذا الزلزال المتوقع حال إبرام اتفاق تطبيع سعودي إسرائيلي علني ربما ينعكس سلبًا على صورة المملكة الخارجية ونفوذها الإقليمي المستمد في معظمه من مواقفها الرافضة للتطبيع والدفاع عن الوسطية والإسلام السني (كما يقال) وفي أعقاب تخليها عن مرتكزها الأخير لم يتبق لها إلا قضية التطبيع، التي لو تخلت عنها ربما ينطوي ذلك على مزيد من الاضطرابات.
الإقدام البحريني ومن قبله الإماراتي على توقيع اتفاق تطبيع رسمي مع “إسرائيل” بعد سنوات من التطبيع الخفي، ما كان له أن يكون إلا بالحصول على “ضوء أخضر” من السعودية
تساؤلات ردة الفعل
اللافت للنظر في قراءة رد الفعل السعودي حيال إعلان ترامب قرب توقيع الاتفاق بين أبو ظبي وتل أبيب الذي كشفه عبر تويتة له على حسابه الشخصي على تويتر، أنه جاء متأخرًا، مقارنة بالعواصم العربية الأخرى، حيث تحفظت الرياض قرابة 6 أيام كاملة قبل إصدار موقفها من تلك التصريحات، فبينما جاءت تصريحات ترامب في الـ13 من أغسطس/آب الماضي لم يصدر عن المملكة أي رد فعل حتى الـ19 من الشهر ذاته.
ففي مؤتمر صحفي له مع نظيره الألماني بالعاصمة برلين أكد وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أن بلاده لن تطبِّع العلاقات مع “إسرائيل” قبل التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني شامل، يستعيد حقوق الشعب الفلسطيني على أساس المعايير التي حددتها المبادرة العربية للسلام عام 2002 وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة.
هذا التأخر في رد الفعل فُسر وقتها على مسارين: الأول يتعلق بانتظار رد الفعل العربي حيال هذه الخطوة، كونها بالونة اختبار لما يمكن أن يكون عليه المشهد مستقبلًا، أما المسار الثاني فيتقاطع مع ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال” بشأن وجود خلاف داخل الأسرة الحاكمة وعليه جاء الرد متأخرًا.
غير أنه وفي الـ15 من سبتمبر/أيلول الحاليّ، وهو يوم توقيع الاتفاق بين الدول الثلاثة (الإمارات – البحرين – إسرائيل) في البيت الأبيض، أكد مجلس الوزراء السعودي خلال اجتماع له عبر الاتصال المرئي بعد ساعات من توقيع الاتفاق، وقوفه إلى جانب الشعب الفلسطيني، “ودعم جميع الجهود الرامية إلى الوصول لحل عادل وشامل للقضية الفلسطينية بما يمكِّن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية”، حسبما نقلت وكالة الأنباء الرسمية “واس”.
جدل آخر أثاره المجلس الوزاري السعودي خلال انعقاده حيث إنه لم يعلق على اتفاق التطبيع الموقع، ولم يقترب منه، دعمًا كان أو إدانة، وهو ما أثار الشكوك لدى البعض عن نوايا المملكة الحقيقية حيال هذه الخطوة، خاصة في ظل ما يثار بشأن ضغوط أمريكية وأحاديث متواصلة بين مستشار ترامب وصهره، جاريد كوشنر وولي العهد السعودي بخصوص لحاق المملكة بركاب التطبيع.
وكان موقع “أكسيوس” الأمريكي قد أشار في تقرير سابق له إلى أن الإقدام البحريني ومن قبله الإماراتي على توقيع اتفاق تطبيع رسمي مع “إسرائيل” بعد سنوات من التطبيع الخفي، ما كان له أن يكون إلا بالحصول على “ضوء أخضر” من السعودية التي باركت هذا التحرك حتى إن لم تعلن ذلك بشكل رسمي.
في الوقت الذي يرفع فيه الملك شعار دعم القضية والالتزام بسياقات مبادرة السلام العربية يغرد نجله في مسار آخر تمامًا، حيث الهرولة نحو التطبيع، خطان متوازيان يستهدف الأول تنفيذ القرار وتسويقه فيما يستهدف الثاني امتصاص الغضب
خلاف أم تبادل أدوار؟
ما كشفته الصحيفة الأمريكية في تقريرها عن الخلاف بين العاهل السعودي ونجله بشأن خطوة التطبيع أثار الكثير من التساؤلات عن حقيقته ودوافعه، ومدى ما يعبر فعلًا عن انقسام داخل الأسرة الحاكمة بخصوص الهرولة الخليجية للتقارب مع تل أبيب أم مجرد تبادل أدوار تحقق الرياض من خلاله ثنائية إرضاء الحليف الأمريكي الإسرائيلي من جانب، والحفاظ على صورة المملكة العربية والإقليمية دون تشويه.
التجارب السابقة لهذه النوعية من الأخبار المسربة بشأن الخلاف بين سلمان وولي العهد حيال العديد من الملفات المحلية والإقليمية ربما هي ما أثارت الشكوك عن الموقف الأخير، ففي مارس 2019 نشرت صحيفة “غارديان” البريطانية معلومات قالت إنها وصلتها عبر مصادر لم تسمها تشير إلى تجريد العاهل السعودي نجله بعض سلطاته وصلاحياته، ردًا على ما أثير بشأن تورطه في قضية مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 من أكتوبر 2018.
المعارض والناشط السعودي حمزة الحسن المقيم في لندن والمختص في الشؤون السياسية السعودية علق على مثل هذه الأخبار بأنها عارية تمامًا عن الصحة، مضيفًا في تصريحات لـDW عربية “هناك تنسيق شديد بين الأب والابن في كل الملفات والقضايا، ولا توجد أدلة موثقة تكشف عن خلاف بين الطرفين”.
الحسن ألمح إلى تبني النظام السعودي لتلك الإستراتيجية الثنائية في الحكم، مؤكدًا أن في أكثر من مرة أوقف سلمان قرارات اتخذها ولي العهد، ليبدو أنه غير راض عنها، لكن في الحقيقة ما يحدث هو تبادل للأدوار بين الملك وولي عهده، ويتوقف هذا الأمر على رد الفعل الشعبي والإقليمي حيال القرارات المتخذة، فإذا تعارض القرار الأميري مثلًا مع مصلحة المملكة وأثار ضدها الاحتقانات والغضب والانتقادات جاء الملك ليلغيه، مصدرًا للآخر صورة مغايرة تمامًا عن تلك التي صدرها ولي العهد بقراراته الأخيرة، على حسب قول الناشط السعودي.
ولعل الموقف من القضية الفلسطينية أكبر شاهد على تلك الأدوار المتبادلة، ففي الوقت الذي يرفع فيه الملك شعار دعم القضية والالتزام بسياقات مبادرة السلام وتعليق التقارب مع تل أبيب باسترداد كل الحقوق الفلسطينية، يغرد نجله في مسار آخر تمامًا، حيث الهرولة للتطبيع ودعم أي تحركات إقليمية في هذا الشأن، خطان متوازيان يستهدف الأول تنفيذ القرار وتسويقه فيما يستهدف الثاني امتصاص الغضب.