كيف يمكن الخروج من حالة التيه التي تعيشها البلدان العربية في الشرق الأوسط؟ هل الديكتاتورية هي المشكلة الوحيدة؟ يعيش العراق وتونس حكمًا تعدديًا يختار فيه الشعب الحكومة بحرية، لماذا لم يتحول العراق وتونس إلى سويسرا والسويد؟ لا بد إذن من وجود مشكلة أخرى لم تحل أو ربما لا يريد أحد إحراق نفسه في حلها: الاقتصاد!
اقتصاد السبعينيات في عام 2020
لا تقتصر المشكلة على العراق وتونس بالطبع، فهذه المشكلة متأصلة في كل البلدان العربية، لكن تمت الإشارة إليهما باعتبار أن هذين البلدين تخلصا مما يُعتقد أنه السبب الوحيد للتخلف.
لو ألقينا نظرة على الاقتصاد العربي، لوجدنا أنه يشترك في أمرين: الاعتماد على الاقتصاد الاستهلاكي، وعدم تطويره منذ فترة استقلال الدول عقب الاستعمار إلا ما ندر.
لقد كانت تلك الإستراتيجيات ناجحة نوعًا ما في الفترات الأولى لما بعد الاستعمار، كون أغلب الدول العربية تملك ثروات طبيعية، وبالتالي كانت الحكومات تستهلك ما يتم إنتاجه فعلًا، كانت العملية سهلة لأن السكان ببساطة كانوا قليلي العدد! ففي عام 1950 كان تعداد الدول العربية مجتمعة 112 مليون نسمة، وهو رقم يقترب من سكان مصر اليوم وحدها! ارتفع إلى أربعة أضعافه ليصل إلى 412 مليون عام 2000 ومن المتوقع أن يصل إلى 600 مليون عام 2029.
ما الذي يعنيه ذلك؟
يعني أن الموارد – أو بمعنى أصح طريقة إدارتها – لم تعد تفي بالغرض لسد حاجة السكان، وهو ما صنع متوالية من المشاكل التي ضربت كل القطاعات، وبسبب حساسية المنطقة، عمدت القوى الخارجية للتدخل بمنح مساعدات اقتصادية مقابل مواقف سياسية لتلك الدول – سواء في فترة الحرب الباردة أم ما بعدها – لكن ذلك فاقم المشكلة أكثر!
تسعى تونس إلى زيادة الاستثمار الأجنبي والعمل مع صندوق النقد الدولي من خلال اتفاقية تسهيل الصندوق الموسع من أجل إصلاح أوجه القصور المالية
في تقرير بعنوان: “الشرق الأوسط الكبير.. من الربيع العربي إلى محور الدول الفاشلة” يقول معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية إن الفساد وفشل منظومة الحكم الاقتصادية أحد أهم أسباب تحول دول الشرق الأوسط لدول فاشلة، “تعاني جميع بلدان الشرق الأوسط الكبير تقريبًا من الفساد وفشل الحكم، ومن الفشل في تحديث اقتصادها وانفتاحه، ومن الضغط السكاني والمشاكل الحادة في التعامل مع “تضخم الشباب” ونقص الوظائف. إن التجاوزات الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان هي القاعدة وليست الاستثناء. التفاوتات الكبيرة في توزيع الدخل والعقيدة والعرق كلها شائعة جدًا، يبدو أن العديد من البلدان في المنطقة غير قادرة على مساعدة نفسها. لقد وصلوا إلى النقطة التي تتحول فيها المساعدات الخارجية إلى سبب لإطالة أمد المشاكل بدلًا من حلها، وبدلًا من ذلك، تسمح لمشاكلهم بالتفاقم والنمو بدلًا من أن تؤدي إلى تقدم حقيقي وحلول”.
لو ألقينا نظرة على الاقتصاد العراقي على سبيل المثال، يضم قطاع الدولة المشوه والمتضخم بشكل كبير عددًا كبيرًا جدًا من موظفي الخدمة المدنية وصناعات حكومية ضعيفة ومكتظة بالموظفين، وتوفر الصادرات البترولية ما يقرب من 85% من الإيرادات الحكومية و80% من عائدات النقد الأجنبي.
يمتلك العراق قطاعًا حكوميًا كبيرًا للغاية وغير فعال وشركات مملوكة للحكومة توظف نحو 6.5 مليون موظف ومتقاعد، التي تستهلك جزءًا كبيرًا من الإيرادات مع القليل من الإنتاج، كما تنطوي المستويات المرتفعة من الإنفاق العسكري والأمني على إهدار كبير، والأسوأ من ذلك كله، أن هذا القطاع الحكومي يميل للتضخم حد الانفجار وليس للتقليص، تتداخل العوامل السياسية والضغط الشعبي ليس لإجراء إصلاحات اقتصادية وإنما لتعيين أعداد جديدة وهو ما يضعف الاقتصاد ويثقل كاهل الموازنة، فالحكومة العراقية تدفع 75% من الموازنة على الجانب التشغيلي غير ذي النفع، بينما تقترض الباقي للموازنة الاستثمارية التي لا يُنفذ منها أكثر من 45% بأحسن الظروف ودون كفاءة تذكر!
على الجانب التونسي لا يختلف الحال كثيرًا، فالطريقة ذاتها تُدار بها الدولة، فضمن موازنة عام 2020 التي تزيد بنسبة 15% عن سابقتها والبالغ حجمها 17 مليار، بلغ الإنفاق على الأجور 40% من مجموع الموازنة، مع 22% إضافية على الديون، ما يعني أن ثلاثة أرباع الموازنة يُنفق بلا مردود حقيقي.
تعكس هذه الأرقام توجه الدولة في استيعاب أعداد جديدة في القطاع العام لتخفيف البطالة البالغ نسبتها 15.1%، وزيادة أجور القطاع العام بعد الإضرابات المتعاقبة التي نفذها الاتحاد العام للشغل طوال الأعوام السابقة، التي شل فيها حرفيًا قطاع الحكومة، وهو ما شكل ضغطًا رهيبًا بحسب الباحث في مركز الدراسات الدولية أنتوني كوردسمان: “لا تزال الحكومة التونسية تحت الضغط لتعزيز النمو الاقتصادي بسرعة للتخفيف من التحديات الاجتماعية والاقتصادية المزمنة، لا سيما المستويات المرتفعة لبطالة الشباب، التي استمرت منذ ثورة 2011. أدت الهجمات الإرهابية المتتالية ضد قطاع السياحة والإضرابات العمالية في قطاع الفوسفات، التي تشكل مجتمعة ما يقرب من 15% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى تباطؤ النمو من 2015 إلى 2017، وتسعى تونس إلى زيادة الاستثمار الأجنبي والعمل مع صندوق النقد الدولي من خلال اتفاقية تسهيل الصندوق الموسع من أجل إصلاح أوجه القصور المالية”.
لو قارننا بين الضغط السكاني في كلا البلدين، لوجدنا أنهما – مثل أغلب الدول العربية – يقتفيان نفس الخط في تصاعد الضغوط الاقتصادية، ربما يكون مفهومًا سيطرة القطاع الحكومي على إدارة الدولة في فترات ما بعد الاستقلال، خاصة مع نسبة السكان وقتها، لكن هذه الطريقة في الحوكمة لم تعد تنفع في ظل تحول الاقتصاد إلى بالون يُنفخ سنويًا بالديون وأعداد الموظفين في القطاع الحكومي في ظل نقصان في الموارد.
الجدول التالي يوضح حجم الزيادة السكانية في كلا البلدين منذ العام 1950 بحسب أرقام الأمم المتحدة.
العام | العراق | تونس |
1950 | 5.29 ملايين نسمة | 3.5 ملايين نسمة |
2000 | 22.8 مليون | 9.5 مليون |
2010 | 29.1 مليون | 10.5 مليون |
2020 | 39.8 مليون | 11.7 مليون |
التوقع لعام 2050 | 63 مليون | 12.7 مليون |
يظهر التصاعد السكاني ضغطًا كبيرًا على الحكومات المتعاقبة، والجدول إذ يظهر النسب في الدولتين، يظهر أيضًا المرحلة المماثلة التي تمر بها دول أخرى مثل دول الخليج، والسبب الكامن وراء الحالة المستقرة اقتصاديًا نسبيًا هو التعداد السكاني المنخفض في الدول الخليجية، وهو ما ينبئ بحالة مماثلة تنتظرها تلك الدول في المستقبل القريب، خاصة مع قلة اعتماد السوق العالمية على النفط.
من يجرؤ على الحل؟
في كلا البلدين – حيث المجال مفتوح للحراك السياسي قياسًا بالدول الديكتاتورية – لم تجرؤ أي قوة سياسية على طرح خطة شاملة لإصلاح الاقتصاد، لأنها تعلم أن هذه الخطة من شأنها أن تصطدم بالجماهير. تتطلب عملية الإصلاح تقليصًا متدرجًا للقطاع الحكومي والإنفاق فيه، لصالح الاستثمار والقطاع الخاص الذي ينبغي عليه أن يحمل عبء إيجاد الوظائف.
لم يحصل مثل هذا الأمر في العراق مطلقًا، فبلد الـ40 مليونًا لم يشهد أي فترة من الاستقرار طوال 17 عامًا، أما تونس فقد حاولت حكومة يوسف الشاهد إجراء نوع من الإصلاحات منها تجميد الإنفاق على القطاع الحكومي دون جدوى، إذ اصطدم بالوضع السياسي والتشظي الحزبي، هذا غير أن الشعب ليس مستعدًا لتحمل تكاليف الإصلاحات الاقتصادية.
ما الحل إذن؟ لا يبدو – عند الكلام على أرض الواقع – حل غير انتظار الانهيار! قد تبدو نظرة متشائمة لكن الوقائع لا تخبر بغير ذلك، فما ذكرناه هو العوامل الاقتصادية الطبيعية في أي اقتصاد، لكن يُضاف إليها في الحالتين قوى سياسية تتحكم بمفاصل الدولة لن تسمح بأي ظرف من الظروف تسليم هذه القوة لحساب الشعب.
في الدول الأخرى يبدو الوضع قاتمًا أكثر، فالأنظمة القمعية لا تسمح لأي مجال بالتحرك من الأساس، وهي في نفس الوقت عاجزة عن تقديم أي حل، وفيها يبقى المستقبل مجهولًا في ظل اقتصادات ريعية لم يتم تحديثها منذ نصف قرن مضى، وربما تبقى التجربة التركية، الوحيدة في المنطقة التي نجحت بالخروج من عنق الزجاجة في سيطرة الدولة على الاقتصاد، إلى الاقتصاد الحر الذي يحرر طاقات البلد ويحرر معه حتى الشعب، من سيطرة الدولة!